وائل بنجدو - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7184
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لم يكن يوم 23 أكتوبر 2011 يوم إنتخابات حرة و ديمقراطية مثل ما تروج لذلك العديد من الأحزاب السياسية حتى الخاسرون فيها بل كان يوما للإستغناء عن العملاء القدامى الذين أصبحوا مفضوحين لدى الشعب و تنصيب عملاء جدد يواصلون رعاية المصالح الإمبريالية بالقطر التونسي ، فلا يمكن الحديث عن إنتخابات ديمقراطية و الرجعية العربية تضخ أموالها المسمومة في حسابات حلفائها في تونس أو الحديث عن إختيار حر و وسائل الإعلام خاصة المرئية منها (أي الأكثر تأثيرا في الرأي العام) تصدر الأوهام للجماهير من خلال تصوير اليمين الديني و اليمين الليبيرالي كمنقذين للبلاد و كقوى سياسية تملك الحل السحري للأزمات السياسية و الإقتصادية و الثقافية التي يعاني منها المجتمع . هذا فضلا عن إنتصار الخطاب العاطفي و التكفيري على الخطاب النقدي و العقلاني أثناء الحملات الإنتخابية بسبب تغلغل الثقافة الدينية و الغيبية في مجتمع يبلغ فيه عدد الأميين فيه ميليوني أمي ، و تحويل المساجد إلى منابر للدعاية للعائدين من أحياء لندن الراقية .
قاطع أكثر من نصف الذين يحق لهم الإنتخاب العملية الإنتخابية أما من صوتوا لحركة النهضة فلا يتجاوز عددهم مليون و 400 ألف و من المؤكد أن أغلبهم لم يشارك في الإنتفاضة . و بالرغم من كل ذلك فإن الحكومة الحالية التي كانت نتاجا لتلك العملية المشوهة لا تتوقف عن التبجح بشرعيتها . شرعية زائفة أصبحت بمقتضاها هذه الحكومة و مكونها الرئيسي حركة النهضة فوق كل نقد ، فكيف يمكن إنتقاد حكومة يعتبر رئيسها نفسه الخليفة السادس ؟!
زلزلت إنتفاضة 17 ديسمبر أركان النظام و بثت الرعب في قلوب الإمبرياليين الذين سارعوا إلى إحتوائها من خلال الإنحراف بشعاراتها حتى لا تتجذر أكثر و يصبح لها قيادتها المركزية بعد أن كونت قياداتها الميدانية في عديد الجهات و التي يتم إقصاؤهم عن المشهد السياسي بطريقة مقصودة . و لعل من الشعارات الخبيثة التي تسللت إلى إعتصام القصبة 2 :"مطالبنا سياسية مش زيادة في الشهرية"و هو مثال على الشعارات الغريبة على المطالب الأساسية للمنتفضين والمتمثلة في الشغل و الأرض (كان أحد الشعارات المرفوعة خلال بداية الإحتجاجات : الأراضي تباعت و الأهالي جاعت ) و الحرية ، و بتشجيع من أغلب الأحزاب السياسية و المنظمات رفع مطلب المجلس التأسيسي الذي أعاد لنا من فرنسا نجمة تونسية مثيرة للإشمئزاز (محرزية العبيدي) تتقاضى راتبا شهريا قيمته ...لا أحد يعرف بالتحديد قيمته و لكنها لا تستحقه بالتأكيد فإذا كانت مهنة نجوم المجلس التأسيسي هي الكلام و ليس إيجاد حلول للظروف الإجتماعية البائسة للطبقات الكادحة التي فجرت الإنتفاضة فإن نجمتنا لا تحسن حتى هذه المهنة و لا تمتلك الحد الأدنى من آداب الحوار.
إن إنتخابات 23 أكتوبر 2011 لم تكن سوى مخططا لقطع الطريق أمام المسار الثوري في تونس وتم ذلك بإشراف من القوى الإستعمارية التي لا تهمها الديمقراطية و الحرية بقدر ما يهمها الدفاع عن مصالحها الإقتصادية و وضع يدها على الثروات الطبيعية الهائلة في الوطن العربي و فتح السوق المحلية أمامها للإستثمار ولتسويق بضائعها ، حيث دعمت هذه القوى عديد الفاشيين في العالم مثل بينوشي في الشيلي و فرانكو في إسبانيا و لا يمكن أن ننسى خطاب وزيرة الداخلية الفرنسية المتشنج و الخائف على مصير صديقها الجنرال بن علي في ظل تصاعد حركة الجماهير و إتساعها لتطالب بضرورة دعم وزارة الإرهاب التونسية (وزارة الداخلية) بالمعدات و التجهيزات اللازمة لقمع المحتجين و إسكات صوت الإنتفاضة خاصة و أن شعارها المركزي أصبح " الشعب يريد إسقاط النظام " بما يعنيه هذا الشعار من قضاء على الطبقات الحاكمة المرتبطة بالإمبريالية و تحرر الجماهير الشعبية من الإضطهاد الطبقي و القومي . يقول آلان باديو : "يحتشد يوميًّا وسلميًّا مئات الآلاف من النّاس لقول الحقيقة، حقيقة مفادها أنّ الزّعماء الّذين يحكمونهم منذ عقودٍ هم زمرة لصوص. وتكمن المشكلة في أنّ الزّعماء المحلّيّين الّذين تطالبهم شعوبهم بالرّحيل بلغوا سدة الحكم وتموّلوا وتسلّحوا على يد أقوى الرّعاة الدّوليّين، وهم اللّصوص المتمرّسون و«اللَّبِقون» من الأميركيّين والأوروبيّين، ذراعهم الأيمن. فللدّول العظمى مصالح استراتيجيّة في البلدان الّتي تشهد حاليًّا ثورات شعبيّة ضخمة، ولطالما استشرس الزّعماء المحلّيّون فيها لحماية المصالح الأجنبيّة. "
و من هذا المنطلق فإن ما يتم إنتاجه حاليا في الأقطإر العربية ا لتي تشهد إنتفاضات لا يعدو كونه ديمقراطية شكلية تتداول من خلالها الرجعية الليبيرالية و الرجعية الدينة على الحكم دون المس بجوهر النظام و إختياراته الإقتصادية المرتهنة للدوائرالإمبريالية ، و هو ما حصل تقريبا في أروبا الشرقية التي تحولت بلدانها إلى قواعد عسكرية لحلف الناتو .
في ظل واقع موسوم بالهيمنة الإمبريالية فإن الوصول إلى سدة الحكم عبر صندوق الإقتراع يتطلب حتما تسويات و تنازلات يقدمها كل من يرغب أن يرى إسمه يتكرر أثناء عملية فرز الأصوات و بالتالي فإن نتائج الإنتخابات لن تكون معبرة عن تطلع المسحوقين نحو التحرر الوطني و التقدم الإجتماعي ، فللأسف و كما يقول نعوم تشومسكي " لا يمكن التخلص من الأوغاد عن طريق الإنتخابات لأننا لم ننتخبهم أصلا". ولكن ذلك لا يعني أن نتخذ نظرة عدمية تجاه العملية الإنتخابية بصفة عامة بل يبقى تكتيك المشاركة فيها أو مقاطعتها رهين الظروف الموضوعية و الإستعداد الذاتي للقوى الوطنية و الثورية و دراسة دقيقة لموازين القوى و إنه من بالغ الأهمية الإشارة هنا إلى الفرق بين أن تكون الإنتخابات مجرد تكتيك و أن تتحول إلى هدف إستراتيجي يسقط أجندة الثورة و الإعداد لها حيث يجب أن نتذكر دائما أن التناقضات التي تشق المجتمع البشري لا تحسمها إلا الثورة .
يتأكد يوما بعد يوم التصادم و القطيعة التامة بين الشرعية الإنتخابية لسلطة 23 أكتوبر و الشرعية الشعبية و ذلك من خلال تواصل الإحتجاجات التي إندلعت منذ 17 ديسمبر في مدينة سيدي بوزيد . و يواصل الشعب مواجهة أعدائه بكل بسالة حيث لم يحرق البوعزيزي جسده فقط بل أحرق الخوف في النفوس و أسدل الستار على مرحلة من الإستكانة و الإذعان للظالمين . تدحرجت كرة الإحتجاجات من قابس إلى الحنشة إلى صفاقس المدينة ثم العمران ... لتستقر أخيرا في سليانة (لحظة كتابة هذه الأسطر) بعد الإضراب العام الجهوي الذي دعا إليه الإتحاد العام التونسي للشغل حيث خرج الاف الأهالي مطالبين بحقهم في التنمية الجهوية العادلة متسلحين بالتاريخ النضالي المعروف لهذه المنطقة في مقاومة الإستعمار الفرنسي و نضال الفلاحين من أجل إسترداد الأراضي التي وقع مصادرتها ، كشفت إنتفاضة سليانة من جديد عن الوجه القبيح لهذه السلطة و سياساتها اللاديمقراطية و اللاشعبية و لكنها أثبتت مجددا أن سكون الجماهير و صمتها لا يعني مطلقا موتها و أن نضالات المضطهدين هي محرك التاريخ لذلك لا يمكن أن يعود بنا الزمن إلى الوراء حتى و إن كانت هناك لحظات ردة ظرفية و مؤقتة حيث قدمت المدينة لوحة رائعة من الصمود فلم ترهبها جحافل البوليس أو أدوات القمع التي تزودت بها وزارة الداخلية من" الشقيقة" قطر ، فوجدت الحكومة نفسها في مواجهة منتفضين لديهم قناعة راسخة أن طريق الحرية هو طريق النضال فما كان منها إلا أن إستعملت الرصاص الإنشطاري أو الرش المحرم دوليا لترهب المتظاهرين وتفقأ الأعين لعلها بذلك تنجح في تضليل الشعب عن أعدائه لكن فقدان البصر لا يعني فقدان البصيرة فسرعان ما وضع أهالي سليانة تجار الدين رسميا في خانة الأعداء وخرجت المدينة عن بكرة أبيها لعدة كيلومترات باتجاه العاصمة تتحسس طريقها نحو أعدائها ، هناك في العاصمة حيث يتواجد من أصدر الأوامر بقمع المحتجين ، هناك حيث يتواجد من جعل من أبناء سليانة المنسية مرتزقة يتقاضون بعض الدينارات نظير نضالهم و وصفهم بأنهم أزلام النظام البائد ، هناك حيث يتواجد من هدد الجماهير الشعبية بتطبيق الحد و قطع الأرجل إن واصلت نضالها...كانت رسالة أهالي سليانة الذين خرجوا باتجاه العاصمة تقول أن البوصلة واضحة بالنسبة لنا و أنها تشير إليكم وأن المسيرة مستمرة و "لن نرتد حتى نزرع في الأرض جنتنا".
لم يميز النظام و مرتزقته بين شيخ أو طفل او بين رجل و امرأة خلال إنتفاضة 17 ديسمبر و تعتبر الشهيدة "يقين قرمازي" البالغة من العمر 6 أشهر أصغر شهيدة في الإنتفاضة ، أستشهدت يوم 8 جانفي 2011 في مدينة القصرين مختنقة بسبب إستنشاقها للغاز المسيل للدموع ، رغم أن "يقين" لم تحسن النطق بعد إلا أن النظام الجبان خاف من أن يصل مسامعها الشعار الذي يدوي صداه في كل أرجاء الوطن فيكون أول ما تنطق به "الشعب يريد إسقاط النظام ". لازال المضطهدون يواصلون النضال و التمرد على الشرعية الزائفة فللشعب مفهومه الخاص للشرعية و لسان حالهم يقول"أرقدي بسلام يا يقين وكوني على يقين أننا لن نصالح ولن ننسى" وأنه "لا شرعية تعلو فوق شرعية يقين ".
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: