وائل بنجدو - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10200
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بعد هروب الرئيس المخلوع من غضب الثورة ظهرت عديد المقترحات الساعية للتأسيس لمرحلة ما بعد "بن علي"، وكانت في أغلبها اقتراحات حاولت تحويل الثورة إلى مجرد انقلاب النظام على رأسه مع إدخال بعض التعديلات الشكلية عليه والتي لا تمس جوهره. فكان من بينها التوجه لانتخابات رئاسية في غضون ستة أشهر بنفس الدستور البالي الذي ميز نظام 7 نوفمبر، ومنها أيضا تعديل بعض الفصول في نفس الدستور وكذلك العودة لدستور 1959. لكن الشعب التونسي كان يعلم أن كل هذه الاقتراحات هي محاولات يائسة للنفخ في جثة هامدة، فتوجه الثوار إلى النضال من أجل فرض انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ونجحوا في ذلك إثر اعتصام القصبة 2، ولكن انطلقت حملة في الأوساط الرسمية تدعو إلى استفتاء حول تحديد مهمة المجلس التأسيسي في إعداد الدستور خلال مدة زمنية تتراوح بين 6 أشهر وسنة.
فما هي الغاية من الاستفتاء ؟
فلنتذكر جيدا أن هذا الاستفتاء كان اقتراح الأحزاب التجميعية في 1 جوان، الذين ليس من صالحهم القضاء النهائي على النظام السياسي الاستبدادي، لأن ذلك سيفقدهم بالتأكيد عديد الامتيازات.
إن هذا الاستفتاء هو في الأصل استفتاء حول التخلي عن خيار المجلس التأسيسي بطريقة ملتوية ومخادعة، ذلك أنه يتنافى مع المفهوم الأصلي لهذا المجلس من خلال حصر مهمته في كتابة الدستور.
إذا كانت مهمة المجلس التأسيسي هي القطع التام والنهائي مع النظام الاستبدادي، وإرساء أسس النظام الديمقراطي، فهل يمكن أن يتم ذلك فقط من خلال الدستور ؟
يعتبر الدستور "أبو القوانين" الذي تقوم عليه التشريعات المقبلة وهو الذي ينظم أسس إدارة الدولة، ولكن عديد البلدان تمتلك دساتير ديمقراطية، في حين ترزح تحت نيران الظلم والاستبداد، فالديمقراطية في الأساس نظام سياسي وثقافة وسلوك اجتماعي وقوانين ومؤسسات معا، بمعنى أنه لا يمكن تطبيق فصول الدستور – حتى إن كانت أكثر الدساتير ديمقراطية – إذا لم تتوفر الأرضية الملائمة لذلك :
•لا يختلف إثنان على أن استقلال القضاء هو إحدى أهم ضمانات الانتقال الديمقراطي، فكيف يمكن لمجلس تأسيسي مجرد من صلاحياته التأسيسية والتنفيذية أن يتخذ القرارات الأزمة خدمة لهذا البلد ؟ !
•من المسائل الأخرى التي ظلت عالقة بسبب عجز أو تواطئ الحكومة الحالية ملف القناصة والقتلة الذين وقعت ترقيتهم ومازالت وزارة الداخلية تتستر عليهم بكل السبل بما في ذلك المرد على أحكام القضاء !
•القضاء على كل الأجهزة القمعية السرية منها و العلنية وإعادة بناء المنظومة الأمنية التي كانت تمثل الذراع العسكرية بيد النظام وتحويلها إلى أمن جمهوري همه الأول أمن العباد والبلاد.
•مراجعة المديونية و الاتفاقيات الدولية السابقة...
من هنا فإن عملية الانتقال الديمقراطي لا ترتبط فقط بكتابة دستور يقر إرادة الشعب، بل أيضا ببناء المؤسسات وتوفير الشروط لتطبيقه، ولن يتم ذلك إلا عبر حكومة تعبر عن الثورة وتمثل مبادئها، وليس بحكومة "الباجي قائد السبسي" التي تنكرت حتى لجرحى الثورة (الذين يسقطون نتيجة الإهمال الصحي)، متناسية أن وجودها على سدة الحكم يعود الفضل فيه لكل فكرة دم سالت على أرض تونس.
مع كل هذه المفارقات يدافع دعاة هذا الاستفتاء عن بقاء هذه الحكومة حتى بعد انتخاب المجلس التأسيسي.
أما محسن مرزوق – المدافع الشرس عن هذا الخيار و نجم الإعلام في هده الفترة – وبعد أن بات مسلما أن الناس لن تقبل بتواصل الحكومة الحالية فيقول : "لم نستثن توجه تغيير الحكومة" ولكنه يستثني في ذات الوقت أن تعيين الحكومة من قبل المجلس التأسيسي أو تنبثق عنه، فمن سيعين هذه الحكومة؟
بالتأكيد سيكون (حسب هذا الاقتراح) السيد "فؤاد المبزع" – رئيس برلمان "بن علي" السابق – ومن ورائه حكومة الظل وبالتالي ستبقى السلطة التنفيذية ممثلة في الحكومة بيد أركان النظام النوفمبري، وهو ما لا يخدم الثورة بأي حال من الأحوال.
أكد "الباجي قايد السبسي" في أول ظهور له كرئيس للحكومة أن سيسلم الأمانة لأصحابها (أي السلطة التي لم يكن أمينا عليها) يوم 24 جويلية سواء وقعت الانتخابات أم لم تقع. وعاد ليؤكد في آخر خطاباته أن الحكومة سترحل بعد عقد أول اجتماع للمجلس التأسيسي ولكنه أطلق في ذات الوقت حملة إعلامية من أبواق السلطة لتمرير هذا الاستفتاء المهزلة !
يتضمن كذلك هذا الاقتراح دعوة إلى انتخاب رئيس جمهورية وبرلمان في ظرف عام : إن هذه الانتخابات التي تسبق بناء المؤسسات الديمقراطية هي عودة إلى نقطة البداية. أما في ظل نظام القانون المكتمل البناء على يد المجلس التأسيسي وحكومته فإن إعادة إنتاج الفساد والاستبداد هي ضرب من المستحيل حتى بوجود المستبدين والفاسدين.
يتساءل "بنو استفتاء" (كما سماهم منصف المرزوقي) : لماذا يخاف المعترضون على هذا الاستفتاء من قرار الشعب التونسي ؟ أما أنا فأسألهم : لماذا تخافون من إرادة الشعب التونسي المتمثلة في المجلس التأسيسي باعتباره منتخبا مباشرة من الشعب ؟ ! إنها السياسة الانتقائية وسياسة الكيل بمكيالين حتى في ما يخص إرادة الشعب.
نفس الذين كانوا ينادون بعدم الخروج عن "التوافق" والشرعية (بالنسبة لهم انقلاب 7 نوفمبر أسمى أنواع الشرعية) أيام بن علي أصبحوا اليوم يخافون من الشرعية الانتخابية ويحاولون محاصرتها والحد منها بمساعدة بعض أحزاب "المعارضة" التي لم تخفي دفاعها عن نظام بن علي منذ 13 جانفي حين خرجت مهللة بخطابه الأخير، وهي ذات القوى والشخصيات التي جعلت من نفسها الناطقة الرسمية باسم السلطة والتي عارضت منذ البداية خيار المجلس التأسيسي.
إن الاستفتاء المصاحب للانتخابات الذي ينادي به الناطقون الرسميون باسم السلطة، هو دعوة خبيثة لان يعلن الناخب عن ندمه على ما أقترفه من "ذنب" حين أختار مرشحيه و ذلك عبر القيام بتجريدهم من صلاحياتهم و انتخاب مجلس مبتور الأطراف و غير قادر على اتخاذ قرارات لصالح الثورة. لا بديل لإتمام مهام الثورة عن انتخاب مجلس تأسيسي لديه كل الصلوحيات وقادر على افتكاك السلطة من بقايا نظام بن علي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: