د.محمد الحفظاوي - المغرب
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4414 hafdawim@hotmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
عندما يركن العقل البشري إلى اللامعيارية بفقد المرجعية الثابتة لسلوكه الفكري،ينتج منطقا خاصا يتمحور حول الأنا والهوى الذاتي الذي يتم التنظير له بإنتاج فلسفة مَّا تبرره، تمسُّحا بالمجال العلمي والحقل المعرفي لنيل بركاته ولاستمداد الشرعية من جنابه، ولقد ظل العقل البشري مدة من الزمان ينتج معرفة فلسفية مثالية، لاحظ لها من الواقع إلا التأمل النظري في عالم الغيب(الذات الإلهية)،وعالم الشهادة(المدينة الفاضلة)،أو ينتج فلسفة أرضية هابطة إلى درك الرجعية واللاحضارة ، وإن كانت نظراتٌ لها مناهجها إلا أنها مناهج غير صحيحة في غالبها تنتج النقمة عوض النعمة، مصدرها العقل البشري القاصر والخطّاء. ولقد تولَّد-تاريخيا- عن هذا النتاج الفكري البشري الناشئ عن ردود أفعال نفسية، وشره شهواني، وأوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية، ومعاناة شخصية ذاتية؛ واقع اجتماعي مختل! وبناء تشريعي منحل! وانظر في عصر الظلمات لأوروبا، وماعاشته من هيمنة لاهوتية دينية على العلم وأهله، وحجر على العقل البشري، بتحالفات سياسية ودينية واقطاعية. وتم شن حرب على المقدسات بنظرية التطور وغيرها من المدارس الفلسفية.
واستمر هذا الوضع والموقف في حضارة غلبت القيم الدنيوية على القيم الروحية، وكان ماكان من تفكك اجتماعي و حروب و أزمات ، و آخرها الأزمة المالية المعاصرة بسبب الربا بشهاداتهم هم!
وكما هو الشأن في حكمة الله وأمره التشريعي؛ نزل التشريع-منذ عصر الجاهليات الأولى- بما هو نص مقدس لإنقاذ العقل البشري من التيه الذي غرق في ضلالاته، ووضع له القوانين المعيارية، والقواعد الكلية التي تضع له الميزان الذي يوجه تصوراته العقدية ويؤطر حركته العمرانية، فحدد له المنهج العقدي المرتكز على التوقيف؛ إنقاذا له من غياهب الفلسفة الميتافيزيقية الضالة والمتخبطة بسبب غرقها النظري فيمالايمكن للعقل الإحاطة بشيء من علمه إلا بما شاء العليم، وحدد له من الناحية التوفيقية، مجالات الإعمار ومناهج والسير في الحياة الواقعية . فكان أن خرج العقل الإنساني من ظلماته الجاهلية، واهتدى إلى المنهج الحق في كل مجالات الحياة، فأنتج العلوم والنظريات، وانطلقت حركة الإعمار القرآني، وامتدت آثارها من الحضارة الإسلامية إلى الحضارة الغربية، مما نشاهد ثمراته اليوم.
لكن قانون قيام الحضارات وانحطاطها لايعرف المحاباة، فقدتجلى في تراجع الحضارة الإسلامية عن الريادة، بسبب فقد أبنائها الاتجاه الصحيح، والمنهج السليم، ممااقتضي الرجوع بالأمة إلى منطلقات تكوين الحضارة وتقدمها، للعودة إلى وضع الريادة الذي تمت إضاعته.
من هنا فإن فهم الأمة لذاتها شرط أساسي من شروط حياتها الثقافية والعلمية، ونهضتها على صلة وثيقة بوعيها التراثي والحضاري، خاصة في الأوضاع التي تعاني فيها من التخلف، إذ تكون في حاجة لمواجهة المعضلات القائمة، والاستعداد للمستقبل المنشود، لذلك و مهما قيل في أسباب تخلف الأمة العلمي والعملي ، فإن مرد الكل -فيما يبدو- إلى غياب المنهج الصحيح.فـ" مشكلة المنهج هي مشكلة أمتنا الأولى . ولن يتم إقلاعنا العلمي ولا الحضاري إلا بعد الاهتداء في المنهج للتي هي أقوم ، وبمقدار تفقهنا في المنهج ورشدنا فيه، يكون مستوى انطلاقنا كما وكيفا"(1) . ولقد نبه إلى هذا المعنى من قبل الإمام الشاطبي في مقدمة موافقاته بقوله:" وجملة الأمر في التحقيق أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق فقد الدليل ، مع ذهن لعدم نور الفرقان كليل،وقلب بصدمات الأضغاث عليل، فيمشي على غير سبيل، وينتمي إلى غير قبيل "(2) .
إن هذا الغياب للتصور المنهجي بمقوماته لم يخلف فراغا فحسب، بل فسح المجال لتصور آخر حل محله، إنه "...فكر غريب عن الصبغة والمعايير والضوابط الاسلامية وهذا الفكر الغريب منه "الوافد" ومنه "الموروث" ...وهذه الأزمة في الفكر قد أحدثت أزمة لأمة هذا الفكر ،عندما أفقدها الاتجاه الطبيعي وغبشت الكثير من تصوراتها الإسلامية الجوهرية" (3).
من هاهنا تأتي أهمية وضرورة الاهتمام بقضية المنهج ، عن طريق تلمسها ورصد قضاياها في تراثنا الشرعي والفكري الزاخر (4) بالمعارف والمناهج ، وتناولها بالدراسة الجدية، والبحث العلمي المحكم والرصين.
وتتضح عظمة هذا العمل وروعته أكثر لمن تنبه للمهمة الكبرى والجليلة القدر، المنوطة بكل مسلم من أجل إنهاض الأمة من تخلفها في هذا العصرالذي يشهد أوضاعا مستجدة وأنظمة معقدة ، لم تُعهد من قبل في حياة المسلمين. حيث أصبحت الحياة اليوم تمتد فيها العلاقات الاجتماعية، وتتكثف بما لم يكن معهودا من قبل ، فنشأ من النوازل والأوضاع ما يستلزم تنشيط البحث العلمي في الدراسات الإسلامية، وتوجيهه لإنضاجه في سبيل إثراء الجامعة، وتفعيل أدوارها التنموية لتلبي حاجات المجتمع.
إن الوقت قد حان للتحسيس بأولوية القضية المنهجية في التكوين العقلي للباحث والمثقف، وبث الثقافة الشرعية -خاصة الأصولية- في المجتمع، بما يخدم مسيرة التنمية،والمسعى العمراني للأمة. وهذا ماعبر عنه الأستاذ أحمد الريسوني بقوله:
"ومن زاوية نظري، فإني أرى أن علم أصول الفقه يشكل مصدرا خصبا لبناء العقلية الاسلامية العلمية. وهذا لايعني أن يتخصص الناس فيه، وينكبوا على دراسته، وإنما يتأتى هذا عن طريق حد أدنى من الثقافة الأصولية، ثم بث الموازين والقواعد الأصولية من خلال مختلف العلوم والمعارف. ومن خلال الكتابات الإسلامية وماأكثرها. وأن تكون الخطابات الإسلامية-سواء كانت علمية أو صحافية،أو تربوية، أو وعظية-محترمة للموازين العلمية، لاأن تكون-كما يحصل في كثير من الحالات-مجرد خطابات عاطفية تعلم الناس كيف يتحمسون ويركضون، ولا تعلمهم كيف يفكرون ويزنون ويتفقهون. وهذه مسؤولية العلماء والكتاب، ومسؤولية الدعاة والمربين. وعلى الأصوليين-بصفة خاصة-أن يعملوا على تيسير الثقافة الأصولية وبثها في الأوساط الثقافية. مع التركيزعلى قضايا أصولية معينة، تصلح لإفادة جمهور المتعلمين، وعامة المثقفين، وذلك بمعالجتها بكيفية تجعلها في متناولهم، وبكيفية تشعرهم بأهميتها وفائدتها لهم، وإن لم يكونوا مختصين فيها. كما أن بالإمكان معالجة كثير من قضايا الفكروالمجتمع بمنهجية أصولية، تدفع عنا المعالجات السطحية العاطفية، والمعالجات الديماغوجية المتهافتة." (5)
----------
1 - مصطلحات النقد العربي للدكتور الشاهد البوشيخي:21.
2 - الموافقات:10.
3 - معالم المنهج الإسلامي للدكتور محمد عمارة :13،14.
4 -زخر في اللغة كثر يقال زخر الوادي والبحر إذا كثرماؤه .،ينظرلسان العرب(زخر).
5 - حاجتنا إلى علم أصول الفقه لأحمد الريسوني، مقال منشور بمجلة الهدى العدد السابع والعشرون، ص:30.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: