(285) ثورات الشعوب العربية: انتصار لدولة الديموقراطية أم للإسلام؟
د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6265
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ينتشر بين الغربيين مصطلح "الربيع العربى"Arab Spring ويقصدون به هذه الانتفاضات الشعبية التي اندلعت فيما يعرف ببلاد الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الثائرة على استبداد الحكام، وعلى الفساد المنتشر في البلاد، والتي تؤدى إلى تصدع وانهيار الأبنية السياسية القائمة، وإحلال أنظمة ديموقراطية مكانها تحظى بمباركة الغرب.
إلى أين تتجه هذه الثورات الشعبية، ومن سيحل محلها إذا نجحت؟ هذا أمر مقلق للكثير من الكتاب في الغرب. هل ستتجه إلى الديموقراطية وإلى المجتمع المدني؟ أم إلى حكم مطلق؟ أم إلى حكم الأقلية؟ أم إلى دكتاتورية عسكرية؟ أم إلى ما يسمونه بـ "ثيوقراطية"إسلامية أو دولة خلافة إسلامية؟.
من بين هؤلاء الكتاب الذين شغلتهم قضية الثورات العربية، الكاتبة الأمريكية "روث كينج". وهى كاتبة يهودية كما يبدو في كتاباتها، بالإضافة إلى أنها تكن عداء خاصا للإسلام وشريعته، وتتهم هذه الشريعة بالوحشية والبربرية ومعاداة المرأة وعدم التسامح.
وهى لا تختلف هنا عن كراهية المحلل والمؤرخ الأمريكي "د. ل. آدمز"- أحد مؤسسي ما يعرف بجماعة "أوقفوا أسلمة الولايات المتحدة"SIOA كتب "آدمز"مقالا ً بعنوان: "الحرب من أجل الشريعة"، كشف فيه عن جهل فاضح بالإسلام وبشريعته، وعكس فيه كراهيتة الشديدة للشريعة، تكاد تنطق في كل كلمة يصف بها هذه الشريعة.
يصف "آدمز"شريعة الإسلام بالقسوة والوحشية، والعنصرية والبربرية، ويهاجمها لأنها لا تسمح بالشذوذ الجنسي، ولا ترضى بأي هجوم على الإسلام، ولا تسمح بالارتداد عنه لمن دخل فيه.
يتصور "آدمز"أن الشريعة الإسلامية تنتقص من قدْر المرأة وتستعبدها، وتأمر بضرب الزوجات، وتدعم زواج الأطفال، ولا تتسامح مع غير المسلمين، وترفض حرية العقيدة وحرية التعبير... إلخ.
تساءلت "روث كينج": ما الذى يمكن أن يحدث لو انتصر الإسلام؟ وما الذى يمكن فعله للحيلولة دون تحقيق هذا الانتصار؟. الذى أزعج "روث كينج "بشدة هو أن الدلائل تشير إلى احتمال أن ينتصر الإسلام في النهاية رغم أن الشعارات التي كانت ترفعها هذه الثورات لم تكن شعارات إسلامية، وكانت اتجاهات شباب الثورة ليبرالية علمانية.
استندت "كينج"فى بيان مخاوفها من هذا الانتصار المحتمل للإسلام على الأدلة الآتية:
أولًا: الإسلام كما تراه "روث كينج" هو الطريق الوحيد الذى يوحد العالم العربي، وهذا الإسلام - في رأيها - يتصادم مع الديموقراطية، ذلك لأنه لا يعترف بالقوانين التي يصنعها البشر، ويرى أن أي حكومة لا تقوم على الشريعة الإسلامية هي غير مشروعة.
ثانيًا: أن النظام الوحيد المشروع الذى يقبله غالبية المسلمين هو نظام "الخلافة الإسلامية" المتمثل في دولة خلافة كبرى تحكم بشريعة الله.
ثالثًا: أن المسلمين الذين يعيشون في ظل دولة غير إسلامية ويمارسون شعائرهم الدينية بها لا يعترفون بالنظام السياسي لهذه الدولة، ويرون أنه غير مشروع، ويجب الإطاحة به، فهى دولة كفر في نظرهم. كما ينطبق هذا التصور على الدول العربية المسلمة التي لا تقيم الإسلام فيها بدرجة كافية.
رابعًا: حاولت "كينج" استقراء التاريخ فاستعادت خبرة الآباء المؤسسين للولايات المتحدة مع الإسلام، وما يعرف بـ "حرب طرابلس": Tripolitan War نسبة إلى طرابلس وهى ليبيا الحالية (1801-1805) "وهى التي يسميها الباحثون بـ"الحرب الأمريكية المنسية" ذلك لأنهم غيبوها عن الذاكرة الشعبية الأمريكية في غضون جيل واحد. ولهذه الحرب تسميات عدة منها: الحرب البربرية أو حرب الساحل البربري نسبة إلى ساحل شمال أفريقيا الغربي. وكانت هذه الحروب هى أول الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة ضد دولة الخلافة العثمانية.
كانت الأساطيل العثمانية تقوم بحماية السفن التجارية التي تعمل في البحر المتوسط مقابل رسوم تدفع لها من قبل الدول الأوروبية لحماية سفنها من القراصنة الذين كانوا يجوبون البحر المتوسط. (كانت بريطانيا تدفع سنويا ستمائة جنية للخزانة العثمانية، وتقدم الدانمارك مهمات حربية وآلات قيمتها أربعة آلاف ريال شنكو كل عام مصحوبة بالهدايا النفيسة. أما هولندا فكانت تدفع ستمائة جنيه، ومملكة صقلية أربعة آلاف ريال، ومملكة سردينيا ستة آلاف جنيه، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية تقدم آلات ومهمات حربية قيمتها أربعة آلاف ريال وعشرة آلاف ريال أخرى نقدا مصحوبة بهدايا قيمة، وكانت فرنسا تبعث بهدايا ثمينة عند تغيير قناصلها، وتقدم البرتغال هدايا من أحسن الأصناف، وتورد السويد والنرويج كل سنة آلات وذخائر بحرية بمبالغ كبيرة، وتدفع مدينتا هانوفر وبرن بألمانيا ستمائة جنيه إنجليزي، وتقدم إسبانيا أنفس الهدايا سنويًا).
كانت الولايات المتحدة عاجزة عن استرداد سفنها بالقوة العسكرية، وكانت تحتاج إلى سنوات طويلة لبناء أسطول بحري يستطيع أن يواجه الأسطول العثماني فاضطرت إلى الصلح وتوقيع معاهدة مع تركيا في الخامس من سبتمبر 1795 م، وقد تضمنت هذه المعاهدة اثنتين وعشرين مادة مكتوبة باللغة التركية، وهذه الوثيقة هي المعاهدة الوحيدة التي كتبت بلغة غير الإنجليزية، ووقعت عليها الولايات المتحدة الأمريكية خلال تاريخها الذي يتجاوز قرنين من الزمان، وفي الوقت نفسه هي المعاهدة الوحيدة التي تعهدت فيها الولايات المتحدة بدفع ضريبة سنوية لدولة أجنبية، وبمقتضاها استردت الولايات المتحدة أسراها، وضمنت عدم تعرض القراصنة لسفنها.
وقع "جورج واشنطون" أول رئيس للولايات المتحدة الأمريكية معاهدة صلح مع "بكلر حسن التركي" باشا الجزائر في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، تدفع بمقتضاها الولايات المتحدة إلى تركيا على الفور 642 ألف دولار ذهبي، و1200 ليرة عثمانية، وذلك مقابل أن تطلق الجزائر سراح الأسرى الأمريكيين الموجودين لديها، وألا تتعرض لأي سفينة أمريكية تبحر في البحر المتوسط أو في المحيط الأطلسي.
في الحادى والثلاثين من أكتوبر 1803 تمكنت البحرية الليبية من اسر الفرقاطة (المدمرة فيلادلفيا) وأبحر بها البحارة الليبيون إلى ميناء طرابلس وعلى متنها ثلاثمائة وثمانية بحارا امريكيا استسلموا جميعا وعلى رأسهم قائدها الكابتن "بينبريدج" وعندما عجز الأمريكيون عن استرداد هذه السفينة تسللوا إليها وقاموا بنسفها حتى لا تصبح غنيمة في أيدي الليبين.
جهزت الولايات المتحدة قوة من المرتزقة بقيادة ضابط الجيش الاميركي "وليام ايتون"، وهاجمت شرق ليبيا عبر الحدود مع مصر وغزت مدينة "درنة" النائية وهى مدينة صغيرة على البحر المتوسط وقريبة من الحدود المصرية وتبعد عن طرابلس العاصمة أكثر من الف كم، فقاومها الليبيون وارسل الباشا قواته إلى "درنة"، وسقطت هذه المدينة في يد القوة الغازية ورفع علم الولايات المتحدة على قلعتها. وبذلك اعتبرت أول قطعة ارض تحتلها الولايات المتحدة في تاريخها.
وعقب معركة "درنة" فرضت القوات العثمانية حصارا على القوة الغازية الموجودة فيها فعمدت الولايات المتحدة إلى المفاوضات وتم توقيع معاهدة انهاء الحرب في العاشر من يونيو 1805 عرفت بـ"اتفاقية طرابلس" طلب باشا ليبيا "يوسف باشا" من الولايات المتحدة غرامات مالية تقدر بثلاثة ملايين دولار ذهبا، وضريبة سنوية قدرها عشرون ألف دولار سنويا، وظلت الولايات المتحدة تدفع هذه الضريبة حماية لسفنها حتى سنة 1812م، حيث سدد القنصل الأمريكي في تركيا اثنتين وستين ألف دولار ذهبا، وكانت هذه هي المرة الأخيرة التي تسدد فيها الضريبة السنوية". (حرب طرابلس، ويكيبيديا الموسوعة الحرة).
تقول "روث كينج" معلقة على حرب طرابلس - والدلالة تكمن هنا :"تبين سجلات الكونجرس أن دافع القتال عند المسلمين في هذه المنطقة هو الجهاد ضد الكفار، وهم مأمورون بذلك كما في القرآن والسنة. ويرى المسلمون أن كل من لا يعترف بسلطتهم آثم، ومن حقهم سجنه أو استرقاقه، وأن المسلم الذى يموت في حرب ضد الكفار مصيره إلى الجنة".
خامسًا: قامت "كينج" بمقارنة موقفى "جون آدمز" و"توماس جيفرسون" وهما الرئيسان الثاني والثالث للولايات المتحدة، من الثورة الفرنسية 1789، في محاولة منها لاستقراء ما يمكن أن تسفر عنه الثورات العربية قياسا على أحداث الثورة الفرنسية. تقول "روث كينج": "إن الأحداث الثورية التي تجري في العالم العربي ليست بلا سوابق تاريخية أو سياق تاريخي. كانت هناك ثورات اشتعلت في أوربا في عام 1848. هناك الثورة الشيوعية في عام 1917، هناك الثورة الفرنسية في عام 1789، هناك سقوط الاتحاد السوفياتي ودول شرق أوربا في عام 1989، وهناك ثورة الخميني (الرافضية الشيعية) عام 1979".
تتساءل "كينج": كيف ترشدنا هذه الثورات إلى فهم ما يجري في العالم العربي؟.... كان "جيفرسون" يرى أن الإطاحة بالملكية في فرنسا أمر إيجابي حتى ولو قتل الملك. أما "آدمز" فقد كان يرى أن الشعب الفرنسي سينتقل من حالة الحكم الاستبدادي إلى حالة الرعب والحرب العدوانية، وأن الثورة سوف تأكل نفسها أولا ثم تهاجم الآخرين ثانيا، لقد ظهر بعد ذلك أن تفاؤل "جيفرسون" لم يكن في محله، وأن وجهة نظر "آدمز" كانت مصيبة وخاصة بعد ظهور "بونابرت" وقيامه بحملاته التوسعية..... قال "آدمز" في 13/7/ 1813:"إن فرنسا سوف تنجح في تأسيس حكومة جمهورية حرة، لكنني كنت مقتنعا أن مشروع هذه الحكومة التي يتكون شعبها من خمسة وعشرين مليونا من البشر، أربعة وعشرون مليونا، وعدة آلاف منهم لا يعرفون القراءة والكتابة، مشروع غير عقلاني وغير علمي وغير طبيعي. إن الأمر أشبه بتجمع مجموعة من الأفيال والنمور والأسود والفهود والذئاب في معرض للوحوش في ميناء مارسيليا".
حاولت "روث كينج" أن تستنتج من تجربة الثورة الفرنسية ما قد يصل إليه الحال في الدول العربية فتقول:
"أنه من المنطقي أن هذه الشعوب العربية الجاهلة التي تعاني من الفقر والبطالة وسوء التعليم مع كراهيتها الشديدة لليهود وإسرائيل كما حدث لـ "مس لوجان "في ميدان التحرير، أن تثور على حكامها وتتحداهم وتسعى للإطاحة بهم. ويصبح السؤال بعد ذلك ماهو نوع النظام السياسى الذى ستؤول الأمور بعد الإطاحة بـ "زين العابدين ومبارك ثم القذافى فيما بعد (لم يكن القذافى قد قتل بعد)". ترى "روث كينج" أنه ليست هناك مؤسسات تحل محل المؤسسات التي سقطت في الدول العربية، سوى المؤسسات الإسلامية، وهذا أمر تراه "روث كينج" مقلقًا للغاية".
تقول "روث كينج" أيضًا: "لقد تحمسنا كثيرا لهذه الثورة السلمية في مصر، لكنه يجب علينا ألا ننسى أن هذه الجماهير الثائرة كانت تصرخ في وجه "مس لوجان": "يهودية... يهودية"، وهذا أمر غير مناسب تمامًا.
إن علينا أن نتمعن ونعيد قراءة الصراع بين "جيفرسون" و"آدمز" حول الثورة الفرنسية، إنه صراع بين حكم الرعاع وحكم المؤسسات... كان العالم يطمح إبان حقبة الثورة الفرنسية، كما كان يطمح في الثورات العربية أن يرى الشعوب قد تحررت من الظلم والاستبداد، لكن الذى حدث بعد الثورة الفرنسية هو الإرهاب والقتل والبربرية وأخيرا الحرب العدوانية والحكم المطلق، وقد يكون هذا نفس مصير الثورات العربية في حالة سيطرة المؤسسات الإسلامية الغير متآلفة مع الديموقراطية.
سادسًا: ترى "روث كينج" أن تجربة الدستور العراقي والأفغاني تبين أن الإسلام لا يزال يسيطر على ثقافة هذه الشعوب وأنظمتها السياسية. تقول "روث كينج": "يبدو لنا ظاهرًا أننا قد حققنا نجاحا في زرع الديموقراطية في المنطقة العربية بعد تورطنا الطويل والمكلف في العراق، وأننا حققنا أيضا في إيجاد توافق بين الإسلام والديموقراطية، لكن القراءة المتعمقة في الدستور العراقي تكشف أن نتائج هذه التجربة لم تكن إيجابية. تنص المادة الثانية من الدستور العراقي على أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، وأن الشريعة مصدر أساس للتشريع، وأنه لن يسمح لأي وضع من الأوضاع أن يبقي في العراق إذا كان متناقضًا مع الإسلام. وهناك مادة أخرى في نفس الدستور تنص على ألا يسمح لأى وضع من الأوضاع في العراق أن يتناقض مع الديموقراطية. يوضح هذا الدستور أن العراق دولة إسلامية، وأن الشريعة هي التي ستحكم البلاد. لكن أى قراءة للإسلام وشريعته توضح تماما أن الإسلام في سياقه التاريخي والمعاصر لا يتطابق مع الديموقراطية كما نفهمها نحن في الغرب.. كما أن القول بأنه لن يسمح بوجود أى قانون يتناقض مع الديموقراطية يجعلنا نتخيل أن مفهوم الديموقراطية في الشريعة الإسلامية يختلف تماما مع المفهوم الذى يؤمن به الأمريكيون. إن الدستور العراقي يحتوى على تناقضات مدمرة، ولا يمكن لهذه التناقضات أن تحل إلا إذا تخلينا عن فهمنا الذى نعرفه نحن عن الديموقراطية. إن ديموقراطيتنا لن تكون مقبولة أبدا في ظل الشريعة الإسلامية التي تحكم بالقتل على كل من يرتد الإسلام ويقر بضرب المرأة، ويعترف بالختان، والاختلاف في المعاملة بين المؤمن والكافر. إن كل ذلك لا يتفق مع الديموقراطية بالمعنى الذى نفهمه.. إن الحرية التي نسعى إلى ضمانها للشعب العراقى قد لا تتحقق على المدى الطويل ذلك لأن الدستور الذى ساهم الأمريكيون في صياغته في هذه الدولة الجديدة يسمح بما هو "وحشي" و"بربري" على عكس المثاليات الديموقراطية الأمريكية...إنه يجب علينا أن نعيد النظر بدقة في النتائج التي تحققت في هذه التجربة الجديدة التي خاض جنودنا الحرب من أجلها، وكلفتنا الكثير ثم يأتى دستورها متضمنا لمواد ذات طابع استبدادي وبربري. إن هذا الوضع في الدستور العراقي القائم على الشريعة يكاد يصيبنا بالصمم، وعلينا أن نلاحظ أن الدستور الأفغاني يقوم على ذات الأسس التي يقوم عليها الدستور العراقي.. إن فشل جهودنا الكبيرة في العراق ومشاكلنا المتعددة فيه، يرجع لأننا تركنا الديموقراطية العراقية الناشئة لأدوات من شأنها أن تدمرها بطريقة مشروعة، لقد تركناها تحت وصاية الشريعة".
إن ما انتهت إليه "روث كينج" هو نفس ماانتهى إليه "آدمز". يقول "آدمز" في مقاله سالف الذكر: "من المؤسف أن هذا ليس هو الأساس الذي بنينا عليه إستراتيجيتنا في بناء دولتي العراق وأفغانستان، إن هاتين الدولتين إسلاميتان، كما ينص دستورهما على ذلك، والشعب فيهما شعبٌ مسلم يعمل على خدمة دينه، بمعنى أن الدولة هي الإسلام، والإسلام هو الدولة، وهذا الأمر لا يتفق مع أي شكل من أشكال الديمقراطية، ولا يرضاه معظم الأمريكيين، ولا يدعمونه".
انتهت "روث كينج" بعد هذا التحليل المكثف إلى نقطتين هامتين:
الأولى: أن هناك منظورين متباينين في تقويم مرحلة ما بعد الثورات العربية. يبعث المنظور الأول على الأمل، أما الثاني فيثير الخوف والقلق. إن سقوط الطغاة العرب يبعث على الأمل. أما الإحباط والمخاوف فيأتي من الفراغ السياسي الناتج عن مرحلة ما بعد سقوط الطغاة.
إن الإسلام هو المحور المركزي الذى يربط كل هذه الشعوب على اختلاف بلدانها. وأن على الباحثين المتابعين لأحوال المنطقة العربية أن يقوموا بتحليل مايجري في ضوء أن طبيعة الإسلام ثابتة وغير مهتزة و"غير ديموقراطية"، وأن شعوب هذه المنطقة كما أنها تواقة إلى الحرية، فهى تميل أيضا إلى الإسلام بشدة.
الثانية: تعتقد "روث كينج" أنه من الخطأ محاولة إقامة جسر بين ما تسميه بالاستبداد والديموقراطية، وأن الصحيح هو إقامة هذا الجسر بين الإسلام في عموميته وما تسميه بالإصلاح الإسلامي، وأن ذلك لو تم فإن فهم الديموقراطية بالمعنى الأمريكي سيكون ممكنا. تقول "كينج": "إذا كان الإسلام في شكله المعاصر هو الذى يوحد الشعوب والقبائل العربية، فلن يكون هناك مكان للديموقراطية، فهما عنصران لا يلتقيان، لكننا إذا نجحنا في زرع ديموقراطية علمانية في مصر، وتونس، وليبيا، وسوريا، فهنا نستطيع أن نحتفل ببزوغ فجر جديد يمهد لمرحلة جديدة من السلام والرفاهية العالمية. أما إذا انتصر الإسلام في هذه الثورات فإنه سيكون كالداء الذى يفسد وينسف أنسجة النباتات والحيوانات، وعلينا بعدها أن ندفن تحت الثرى كل مفاهيمنا القديمة عن الأنظمة السياسية العالمية وعن التنافس بينها..... علينا أن نعرف أنه لو انتصر الإسلام فإن مرحلة جديدة من الصراع الدولى القائم على الدين سوف تنشأ، وقد يكون هذا التصور خياليا، لكنه لو حدث فإننا سوف نفتقد كل مكتسباتنا الفكرية ونلقى بها وراء ظهورنا. لو أن الشعوب العربية احتضنت الإسلام، وتحركت به نحو إقامة دولة الخلافة الإسلامية، فإن على علماء السياسة أن يعودوا إلى المدارس مرة أخرى لإعادة دراسة التاريخ والسياسة، وعليهم أن يقضوا كل أوقاتهم للدراسة في أقسام اللاهوت".
لعل أبلغ ردٍّ على اتهامات "روث كينج" و"آدمز" للشريعة الإسلامية هو ما كتبه "جراهام فوللر"، وهو مسئول رفيع المستوى في المخابرات المركزية الأمريكية، كان يشغل منصب نائب رئيس المجلس القومي للمخابرات، يقول "فوللر": "على عكس المسيحية، اعتنى الإسلام منذ أن بدأ بالسياسة والحكم، وقد وجَّه المسلمون بدءًا من حياة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - اهتمامَهم إلى مبادئ الحياة المجتمعية المحلية، والعدالة، والإدارة، والعلاقات مع غير المسلمين، والدفاع، والسياسة الخارجية، وما من شأنه أن يحقِّق الحكم الصالح، والقانون العادل، والمجتمع العادل، لقد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بغرض الحفاظ على الوضع القائم، ولكن لكي يصلح ويغيِّر، المرأةُ على سبيل المثال أعطيتْ مركزًا قانونيًّا لم تكن تحظى به من قبل، بالإضافة إلى حماية قوية لها من قِبَل المجتمع".
Graham F Fuller, Islam, a force for change, mondediplo.com/1999/09/16islam.
أما أماني "روث كينج"في إحداث توافق بين الإسلام والديموقراطية كما يفهمها الأمريكيون، فهو أمر بعيد المنال وذلك للأسباب الآتية:
أولًا: أن الله في قوله عز وجل ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]يعنى أنه لم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصًا يستدعى الإكمال ولا قصورا يستدعى الإضافة، ولا محلية أو زمانية تستدعى التطوير أو التحوير، وإلا فما هو بمؤمن.
ثانيًا: أن دين رسول الله وشريعته هي التي في كتاب الله، ومنهجه هو المنهج المستقل المتفرد المتميز، وما يمكن أن يختلط هذا الدين بغيره من المعتقدات والتصورات ولا أن تختلط شريعته ونظامه بغيره من المذاهب والأوضاع والنظريات. ولا يمكن أن يكون هناك وضعان اثنان لأى شريعة أو أي نظام إسلامي، وشيء آخر. فالإسلام إسلام فحسب وكل من له أدنى معرفة بما جاء به النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم بالاضطرار أنه - صلى الله عليه وسلم- لم يدع الناس بغير منهج هذه العقيدة ولا ذكر مايفهم منه لا ظاهرا وباطنا أنه فعل غير ذلك.
ثالثًا: أن الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا. ولهذا فإن سعى المؤمن كله ينبغى أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بكل تفصيلاته وجوانبه. ومن ثم لا يصح أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام منهجا ونظاما وشريعة. فكيف يمكن أن يتعاون المسلمون مع غير المسلمين في إقامة الديموقراطية والأخِرون لا يؤمنون بالإسلام منهجا وشريعة؟
رابعًا: انتحال الديموقراطية على اعتبار أنها مصلحة موافقة لقصد الشارع لا يعطيها المشروعية، فالمصلحة معتبرة من حيث وضعها الشارع لا من حيث موافقتها لقصد الشارع، ومن شرع شيئًا لم يأذن به الله، لا يجوز أن تكون أصوله منقولة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولهذا فهو باطل لأن لزوم الباطل باطل، كما أن لزوم الحق حق.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: