البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

نحن ودار النصارَى
(من ذكريات المنزلة)

كاتب المقال د- جابر قميحة - مصر    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي
 المشاهدات: 6122 gkomeha@gmail.com


 يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط


في أقصى شمال الدلتا، تقع مدينة "المنزلة" وهي مسقط رأسي، وفيها نشأت .
وأعود بذاكرتي إلى ما يزيد على السبعين عامًا، كان عدد الناس في هذه المدينة قرابة خمسة آلاف , وكانت تعتمد على التجارة والصيد، والبحارة - أي النقل بالسفن الشراعية، إلى مدينة بورسعيد التي تبعد قرابة خمسة وعشرين ميلاً، أي بطول بحيرة المنزلة . وكانت البلدة ـ التي زاد عدد سكانها حاليًّا إلى نصف مليون نسمة ـ تحمل شوارعها أسماء الأسر، أو أسماء المهنة .. وعلى سبيل المثال كان الشارع الذي نقطن فيه مع الأسرة، والأعمام والأخوال، والأصهار، يسمى "حارة القمايحة" أي آل قميحة؛ لأنهم العنصر الغالب في شغل هذه الحارة بالمساكن، وبجانبنا مباشرة: حارة المنايسة أي آل منيسي، ثم حارة الطيور، أي آل الطير.
وعلى غرب حارتنا مباشرة شارع القفاصين أي الذين يصنعون من جريد النخل أقفاصا للفاكهة والطيور، وكذلك يصنعون القفف والمقاطف من خوص النخل.

وعند التقاء حارتنا بشارع القفاصين كان هناك بيت من طابق واحد ذو مساحة كبيرة يؤدي بابه الرئيسي إلى باحة واسعة بلا سقف ثم عدد من الحجرات بعد ذلك، تملكه وتقطنه أسرة قبطية . كنا جميعًا رجالاً ونساءً وأطفالاً نطلق على هذا البيت "بيت النصارى" , وأهم رجال الأسرة "بسخريون" الذي يعمل مصورًا بآلة التصوير الخشبية الكبيرة التي تقف على قوائم، وله دكان داخل سوق البلدة , "وحنا" وهو يملك "عربة كارو" و "حصانًا" ويتخذ ركنًا من باحة البيت كاسطبل للحصان. والشاب "ميلاد" ويعمل حدادًا.

وأهم من هؤلاء جميعًا عميد الأسرة "إسكندر" الذي قارب السبعين آنذاك.. وكان طيلة النهار يجلس أمام البيت يدخن السجاير (اللف) بكثرة عجيبة حتى اصفر شاربه الأبيض الكث من ناحية منخاريه،كان الرجل ربعة متوسط القامة شحيمًا إلى حد ما.. يبدو في كلامه، وحركاته، وقار وتثاقل، وكان مبتسم الوجه دائمًا. ومن الصبحة الباكرة يجلس أمام البيت ولا يدخله إلا لتناول الطعام، أوقضاء الحاجة. فإذا ما غابت الشمس تحول إلى داخل البيت، ثم يتكرر هذا السيناريو كل يوم دون انقطاع.

واذكر أن والدي ما مرّ به إلا وحياه : صباح الخير، أو مساء الخير، أو إزيك يا خواجه اسكندر.
فيرد التحية، ولكنه كان يخصني بعبارة لم تتغير: "وأنت إزيك يا قميحة يا صغيَّر" وأحببت الرجل لاهتمامه بي، ولابتسامته التي لا تفارق وجهه. وكان هذا هو شعورنا وشعور كل جيراننا نحو الرجل، وفي شهر رمضان من كل عام يختفي "الخواجه اسكندر" تماما ولا يظهر أمام الدار إلا بعد المغرب لساعة أو ساعتين , ثم لا نراه إلا بعد المغرب من كل يوم من أيام رمضان.

وكان السبب أن الرجل يراعي شعور المسلمين، ولا يجاهر بالتدخين الذي لا يستطيع أن ينقطع عنه , فآثر أن يقبع في بيته طيلة "نهارات" رمضان ليتمتع بسجائره اللف.
وقد يقال: أو لم يكن من الممكن أن يجلس مجلسه المعروف أمام البيت فإذا أراد أن يدخن دلف إلى البيت واستتر ثم يعود إلى مجلسه الأول ؟.

ولكن هذا مستحيل؛ لأن هذا يقتضيه أن يدخل ويخرج أربعين أو خمسين مرة ـ على الأقل ـ في اليوم الواحد ، وصحته ـ في مثل سنه - لا تحتمل ذلك.

كانت "أنصاف" هي كبرى بناتهم. وأذكر أنها كانت على علاقة طيبة جدًّا مع نساء الحارة كلها، وكانت كثيرة الزيارة لنا، وفي النصف الثاني من شعبان تقوم أسرتنا بما يسمى "خبيز رمضان" ، أي خَبز كمية كبيرة من الخُبز في فرن البيت يكفي الأسرة ما لا يقل عن شهر ونصف ، ويخرج الخبز من الفرن ويترك مفرودًا قرابة يومين ليجف، حتى لا يتعفن، ثم يحفظ في "سحارة" وهي تشبه صندوقا خشبيًا ضخمًا جدًّا، له باب يسمح بدخول من تقوم "برصِّ الخبز" وكانت أنصاف تحضر ونساء أخريات من الحارة لمساعدة والدتي في خبيز رمضان، وتصر أنصاف على أن تقوم هي بالمهمة الصعبة ، وهي الجلوس أمام الفرن للقيام بعملية إنضاج الخبز الذي تتناوله عجيبنا" من البنات والنساء مبططًا قطعا كل قطعة تصنع رغيفا. باستخدام صاجة الفرن الكبيرة، وتقوم " أنصاف " كذلك بتغذية الفرن بالوقود من حطب، وقش، وسِرْس (قشر الأرز بعد ضربه) ، وهما عملان يحتاجان لقدرة وصبر ومهارة . ولا أنسى ذلك اليوم الحزين في حياة أبي وحياة أسرتنا، وحياة الحارة كلها. لقد مات الخواجه اسكندر، وبكينا عليه جميعًا.
وخرجت أسرتنا ورجال الحارة كلها في جنازته، يودعونه إلى مثواه الأخيرة، وأذكر أن أبي كلما مر بدار النصارى، وقد أغلق بابها الخارجي الكبير.. هز رأسه وقال بصوت متهدج : الملك لله.. الملك لله.

**********

إنها حقائق وخواطر ثابتة على مدار التاريخ، وقد قفزت إلى ذهني، وأنا أكتب عن دار النصارى في المنزلة، وكيف كانوا يعيشون بيننا، كأنهم أسرة منا، وما أحوجنا إلى تذكر هذه الصور الوضيئة في عصرنا الذي كثرت فيه الفتن، واختلت فيه المعايير، وضاعت فيه القيم... في عهد مبارك المخلوع ... عهد ضيعت فيه الأمانة، ووسد الأمر غير أهله. وأعتقد أن أصل الداء، وسر البلاء نجده في قول بشار بن برد:
أعمى يقود بصيرًا لا أبًا لكمو =
قد ضل من كانت العميان تهديهِ


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

مصر، النصارى، الأقباط،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 21-10-2011  

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

 مشاركات الكاتب(ة) بموقعنا

  أقلام من عالم التشويه والتزوير
  العيدُ.. وغربة الشاعر
  بين الغرور العددي .. والقوة الإيمانية
  توفيق عكاشة أين الدين ؟ وأين المواطنة ؟
  من صور الادعاء وسقوط الرأي
  من أفذاذ أساتذتي في كلية دار العلوم الدكتور محمد ضياء الدين الريس
  إمَّا العدل وإمّا الموت..
  تعلمت من محمودالجميعي
  إمام المسلمين .. أبو الحسن الندْوي
  عندما يوثن الطاغية ذاته
  سطور عن قط مبارك المخلوع
  وفي عمرُ بن الخطاب الأسوة والقدوة
  صحيفة من المستنقع
  كونوا مع الله
  من أصوات العزة والشموخ
  صفحة من التخبط السياسي
  ملامح الدولة المصرية في ظل حكم محمد مرسي أو أحمد شفيق
  رسالة إلى الرئيس الجديد
  برنامج تهريجي وصباح لا خير فيه
  أقيموا شرع الله
  كلمات حق إلى الحكام العرب
  مفيش شيء اسمه إخوان
  العلاج خير من الوقاية
  حكاية البعوضة والنخلة
  عندما يتظرف الداعية ويتعالم
  الإخوان المسلمون والحملة الشيطانية
  مع الخليفة عمر والواقع الذي نعيشه
  الإسلام هو الحل
  خيرت الشاطر رجل عاش للمحن
  كلمات من القلب إلى خيرت الشاطر والذين معه

أنظر باقي مقالات الكاتب(ة) بموقعنا


شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
أشرف إبراهيم حجاج، أبو سمية، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، د. طارق عبد الحليم، د- هاني ابوالفتوح، يزيد بن الحسين، صفاء العراقي، أنس الشابي، أحمد النعيمي، د - الضاوي خوالدية، رشيد السيد أحمد، د - شاكر الحوكي ، مصطفي زهران، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، منجي باكير، حاتم الصولي، محمد العيادي، كريم السليتي، عبد الرزاق قيراط ، محمد شمام ، عبد العزيز كحيل، محرر "بوابتي"، أحمد بوادي، د- جابر قميحة، تونسي، رافد العزاوي، عواطف منصور، محمود طرشوبي، سفيان عبد الكافي، ضحى عبد الرحمن، د. عادل محمد عايش الأسطل، علي عبد العال، جاسم الرصيف، إسراء أبو رمان، د. صلاح عودة الله ، عبد الله زيدان، عبد الله الفقير، د. كاظم عبد الحسين عباس ، ياسين أحمد، مراد قميزة، صلاح المختار، مجدى داود، سلام الشماع، طارق خفاجي، الناصر الرقيق، د - محمد بنيعيش، محمد الطرابلسي، رافع القارصي، علي الكاش، فتحـي قاره بيبـان، د. أحمد محمد سليمان، صباح الموسوي ، د- محمد رحال، سيد السباعي، عبد الغني مزوز، د - محمد بن موسى الشريف ، أحمد بن عبد المحسن العساف ، د. خالد الطراولي ، أحمد ملحم، خبَّاب بن مروان الحمد، محمد اسعد بيوض التميمي، الهيثم زعفان، بيلسان قيصر، د. عبد الآله المالكي، أ.د. مصطفى رجب، المولدي اليوسفي، سعود السبعاني، صفاء العربي، محمد يحي، محمود سلطان، خالد الجاف ، يحيي البوليني، د - عادل رضا، سلوى المغربي، أحمد الحباسي، حسن عثمان، طلال قسومي، محمد الياسين، رحاب اسعد بيوض التميمي، د.محمد فتحي عبد العال، المولدي الفرجاني، د- محمود علي عريقات، د. ضرغام عبد الله الدباغ، كريم فارق، وائل بنجدو، د - مصطفى فهمي، سامر أبو رمان ، حسني إبراهيم عبد العظيم، عزيز العرباوي، محمود فاروق سيد شعبان، رضا الدبّابي، حميدة الطيلوش، فتحي الزغل، الهادي المثلوثي، عمار غيلوفي، صلاح الحريري، العادل السمعلي، سليمان أحمد أبو ستة، فتحي العابد، د - المنجي الكعبي، ماهر عدنان قنديل، حسن الطرابلسي، د. أحمد بشير، محمد علي العقربي، عمر غازي، محمد عمر غرس الله، د. مصطفى يوسف اللداوي، صالح النعامي ، د - صالح المازقي، رمضان حينوني، عراق المطيري، نادية سعد، محمد أحمد عزوز، فوزي مسعود ، فهمي شراب، إيمى الأشقر، سامح لطف الله، مصطفى منيغ، إياد محمود حسين ،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة