(92) التصريح بأسماء المشككين في الدين أم الاقتصار على تفنيد أقوالهم:منهج الشيخ مصطفى صبري
د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6516
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
للشيخ مصطفى صبري - يرحمه الله - منهج خاص في الرَّدّ على مخالفيه في الرأي، سواء أكانوا من العُلماء والمشايخ الَّذين يشغلون مناصبَ دينيَّة رسميَّة في الدولة، أم من المشكِّكين في أمور الدِّين والعقيدة من المثقَّفين العصريِّين.
كان الأسلوب المعتاد في الرَّدِّ على المخالفين - وخاصَّة عند التعرُّض لقضيَّة هامَّة من قضايا الدين والعقيدة - هو ألا ينشغل الكاتب في صلب كتابتِه بمناقشة أقْوال كلِّ مَن يخالفه في الرأي، بل يتعرَّض لما يستحقُّ منها للتعرُّض، في إشارة قصيرة على الهامش، مع ذِكْر رقم الصفحة التي تضمَّنتْها أقوال المخالف، أو أن ينقل بعضَ النصوص باقتِضاب وغير كفاية، بِحيث يسمح لِمَن يُريد من القرَّاء أن يطَّلع على النَّصِّ الكامل أو ما يقوم مقامَه بِمراجعة ما كتَبَه الكاتب؛ ليكون القارئ حكمًا بين الكاتب ومَن يخالفه في الرأي، لكن المشكلة هنا هو أنَّ القارئ قد ينصرف عن مراجعة النَّصِّ الأصلي ويكتفي بما نقله الكاتب، أو قد يتأخَّر في مراجعة هذا النَّصّ، وربَّما يتعذَّر عليه المراجعة بالمرَّة.
لا يحبذ (الشيخ) هذا الأسلوب في نقد أقوال المخالفين في الرأي، ويرى أنَّه أسلوب ينافي الأمانة والصَّراحة، وهو في نظره كذلك نوعٌ من التَّدليس في عرض المسائل؛ ذلك لأنَّ الكاتب هنا يستأثِر برأيِه في صلب كتابته، ويُخاطب خصمَه من غير أن يأْذن له بالدِّفاع عن رأيه إلاَّ بكلمات مقتضبة يهْمِس بها في الهامش.
يركز الشيخ على فئتين من الكتَّاب:
الأولى: هي فئة الَّذين يشغلون مناصب دينيَّة رسميَّة، كفئة العلماء والمشايخ، وفئة المثقَّفين العصريِّين الذين يحتلُّون مواقع أدبيَّة، ويستمع النَّاس لهم، ويبجِّلونهم ويحترمونهم، على الرَّغم من أنَّ رجال هاتين الفئَتَين يصرِّحون ويكتبون في قضايا من شأنِها أن تضرب الدِّين في صميمه، وهم يضعون سياجًا سميكًا حول أنفُسهم من هذه المناصب الرسْميَّة والمواقع الأدبيَّة التي يشغلونها، ويعتقِدون أنَّ هذا السياج يحقِّق لهم درجات من العلم، يرتفِع بها التَّكليف عنهم، فلا يصعد إليهم صوت ناقد.
ناقش (الشيخ) مع بعض أصدقائه كيفيَّة التَّعامل مع رجال هاتين الفئتين، البعض من هؤلاء الأصدقاء رأى أنَّه من الأجدى الكفُّ عن ذِكْر الأسماء والاكتِفاء بنقْد الأقوال والآراء؛ لأنَّ التَّصريح بالأسماء من شأنه أن يُخرج الكتابة عن وقارها، ويجعلها كتابة جدَل وقيل وقال، بالإضافة إلى أنَّه يَجلب على الكاتب العداوات والخصومات.
لَم يكن (الشيخ) مرتاحًا لهذا الرأي، وكان يفضِّل التَّصريح بأسماء المخالفين في الرأي، واعتمد الشَّيخ في بيان موقفِه على الآتي:
أوَّلا: إذا كانت كتابات المخالف في الرأي تشكِّك في الدِّين، فإنَّه لا بدَّ من إنقاذ الدِّين من هذه الشكوك المتسلِّطة على أصحابها، وذلك بعرض أسمائهم ونصوص كتاباتِهم؛ لكي يعرفهم القرَّاء ويَحْذروا من آرائهم، خاصَّة وأنَّ شكوك هؤلاء الكتَّاب لا تُطرح على أنَّها شكوك في الدين، ولكن أصحابها الَّذين يريدون التَّشكيك والتَّوهين من عقائد المؤمنين يطرحونَها على طريقة الدَّسّ، وتهيئة الأذْهان لقبولها.
هؤلاء المشككون في الدين في نظر (الشيخ) راضون عن شكوكِهم، وارتاحت قلوبهم إليها في عصر سادتْ فيه الثقافة الغربية، واعتبرها النَّاس قدوة لهم؛ لهذا فهم ليسوا في حاجة إلى من يُنبِّههم إلى أخطائهم حتَّى يستفيدوا منها، ويرجعوا عن شكوكهم، والأمل في ذلك ضعيف للغاية مادامت الشكوك في الدين راسخة في رؤوسهم، ولا تَقُضُّ مضاجعَهم لكونِها شكوكًا في الدين، فالدِّين لا يهمهم، إنَّما يهم عامَّة المؤمنين.
يُضاف إلى ذلك أنَّهم يرون أنَّ شكوكَهم هذه شكوك مبنيَّة على أسُس علميَّة غير قابلة للدَّفع، وخاصَّة إذا كان مَن يدفعها هم علماء الدِّين الَّذين أصبحوا من زمن بعيدٍ غير مسموعي الكلمة، ومن تميَّز منهم تميَّز ليس لإخلاصه ودفاعه عن الدين، إنَّما لتطْويعه هذا الدين لتيَّارات الضلال الحديثة!
يعترف (الشيخ) هنا بأنَّ ذِكْرَ الأسماء عند الأقوال لن ينفع المخالفين، ولا يؤثِّر فيهم، بل قد يُثير الضَّغائن ضدَّ مَن يدافع عن الدين، ويحول دون ذيوع رأيِه، لكنَّه قد ينقذ الدين والمؤمنين به من شكوك الشَّاكِّين به.
ثانيًا: لا يلتفت القارئ عادةً إلى كلِّ كلمة تُثير الشكوك في الدِّين على أنَّها تُثير هذه الشكوك فعلاً، أو أنَّ هذا الذي يُثيره هذا المشكِّك في الدين ذو خطَر على عقيدة الإسلام، فإذا كان المتكلِّم صاحب مركز رسمي أو أدبي أو من العلماء أو المشايخ المرموقين، فإنَّ جهود المدافع عن الدين في تصْحيح ما أفسده المشكِّك في العقائد أو الزَّيغ عنها، ستضيع هباء؛ طالما أنَّ مركز المشكِّك وسمعته محفوظة في قلوب النَّاس.
ولهذا؛ فإن الأمر يستلزم مكافحة ما يمسُّ العقيدة من شبهات في مسائل تقوم عليها عقيدة الإسلام، وكذلك مكافحة مثيري هذه الشبهات وتعْيين أسمائهم، سواء من الكتاب الغربيِّين أو من مقلِّديهم في بلادنا الإسلاميَّة.
كما يستلزم الأمر كذلك مكافحة المكامِن التي يتستَّر وراءها المشكِّكون في الدين، وذلك حتى تتزعزع هذه الشبهات من مكانِها، وتتزعزع مكانةُ أصحابها في قلوب النَّاس أيًّا كانوا، وأيا كانت مناصبهم وأوضاعهم، وتسلم عقيدة المؤمِنِين من شكوكهم وشبهاتِهم التي قد لا يشعرون بحجم خطرها على الناس.
إنَّ موقف المدافع عن العقيدة في نظر (الشيخ) هو موقف المحارِب، وحربه التي يخوضها ضدَّ المشكِّكين هي حرب حقيقيَّة؛ لأنَّ هؤلاء المشكِّكين يعملون في الخفاء ويصيدون في الماء العكر.
ثالثًا: يرى (الشيخ) أنَّ ذكْر أسماء المشكِّكين في العقيدة من شأنه أن يكشف للقرَّاء خطر انسِياب الأفكار الغربيَّة إلى بلاد المسلمين، كما ينبِّه أذهان المثقَّفين الجدُد إلى هذا الخطر، ويتوقَّف إثبات هذا الخطر على سرْد أسماء وشواهد من كلِمات رجالٍ وقعوا في شرَك هذه الشكوك والشبهات، رغْم أنَّهم أصحاب مراكز رسميَّة وأدبيَّة.
رابعًا: يرفض (الشيخ) رفضًا مطلقًا عند بيان أو نقدِ مَن انحرفوا عن طريق الحقِّ - أن تكتب توطئة تتضمَّن مدح أصحاب هذه الأقوال وإكبارهم، ويرى أنَّ كتابة هذه التَّوطِئة التي أصبحتْ عادة من عادات الكتَّاب في البلاد الإسلاميَّة، إنَّما هي من تأثير الكتابات الغربيَّة، وزيْف من زيوف مدنيَّات الغرب، وهى عند (الشيخ) مصانعة أكثر منها مصارحة، ولا تجوز المصانعة عند الرَّدِّ على أقوال تستوجب التَّعقيب والاستنكار.
ويؤكِّد (الشيخ) هنا على أنَّ الحقَّ لا بدَّ أن يعود إلى أصحابه، وأنَّ الأسماء التي كبرت واتَّخذها النَّاس قدوة رغم زيْغِها عن محجَّة الإسلام، لا بدَّ من الحطِّ من قدرها ومركزها في القلوب بقدْر ما حازتْه منها من غير حق، فإذا كان المقْصِد الأسمى هو خدمة الدين، فيجِب خدمة الحقيقة من غير مُسايرة للعادات والتَّقاليد الجارية ومراقبة المراكز.
خامسًا: يرى (الشيخ) أنَّ الصَّراحة وأمانة العلم ومصلحة البَحْث تقتضي ذكر أسماء المخالفين للكاتب في رأيه، فإذا ذكر رأي المخالف وجرى نقْده بدون تعْيين من هو، فقد يظنُّ المخالف أنَّ الكاتب قد زاد على أصْل المكتوب، أو حذف منه شيئًا، أو عرضه على غير صورته الحقيقيَّة، ولو ذكر النَّصَّ بين قوسين، وأراد القارئ أن يتحقَّق من صحَّة النقل وتَمام مطابقته للأصْل، صعب عليه تعْيين القول بدونِ تعيين القائل.
سادسًا: هناك درجات من الشدَّة واللطف في الرَّدّ على المخالفين، وقد يستلزم الأمر في الكثير من الأحْوال الشدَّة والقسوة في الرَّد، وهُنا يرى (الشيخ) أنَّ هذه الشدَّة والقسوة ليستْ موجَّهة إلى القرَّاء، وإنَّما موجَّهة إلى الكاتب المشكِّك في الدين، ولِهذا يكون من الواجب هزيمة هؤلاء الكتَّاب والقضاء عليهم بوابل من النقد العلمي، حتى وإن صاحَبَ ذلك رعدٌ وبرق، ولكن دون شتم، والرَّعْد والبرق له تأثيرُه القوي على عقول القرَّاء، ويرى (الشيخ) أنَّه لا بدَّ من القسوة على مَن قست قلوبُهم على أساس مِن أسس الدين، أو علم من علومِه، أو طائفة من علمائه، فلا تكون القسوة إلاَّ على مَن فرطوا في جنب الله.
يرى (الشيخ) كذلك أنَّ الرقَّة واللين في الرَّدِّ على المخالفين في الرأي هو أسلوب الوعَّاظ، والكاتب ليس واعظًا، ولو كان واعظًا لكان الرفق واللين أوفقَ وأنجع.
أمَّا إذا كانت الكتابة هي موضوع بحث علمي فيجب أن تُساق فيه الحقائق المجرَّدة من كل تَمويه وتطلية، ويجب أن تقْرع فيه الحجَّة بالحجَّة، ولا بدَّ أن يكون صوت القراع والصِّدام شديدًا، لاسيَّما مع أصحاب الأقْلام الَّذين يتلاعبون بعقول قرَّائهم، ويشترون الضَّلالة بالهدى؛ لأنَّ هؤلاء الكتاب إذا عرضوا الإيمان والدين على قرَّائهم عرضوهما غير موقنين بهما، هذا في حالة افتراض أنَّهم لا يبطنون الإلْحاد بداخلهم أصلاً؛ ولهذا فإنَّ انتزاع واجتذاب القرَّاء من أيْدي هؤلاء الكتَّاب يتطلَّب عملاً عنيفًا وصراعًا قاسيًا.
خلاصة ما ينتهي إليْه الشَّيخ (مصطفى صبري) هو: أنَّه يجب محاربة مَن يحارب عقيدة الإسلام، ويصوِّره على أنَّه دين مهزوم، ملقًى به في معترك الشكوك، أو ميت مدفون في قلوب السذَّج والعامَّة محاربة مباشرة قويَّة، فيها القراع والصِّدام والشدَّة والقسْوة؛ لأنَّ قلوبهم قست على دين الله أصلاً، ولأنَّ اللين والرقَّة مع المحارب هو شيمة الأحْمق العاجز ضعيف الحجَّة.
انظر: (مصطفى صبري)، موقف العقْل والعلم والعالم من ربِّ العالمين وعبادِه المرسلين، دار إحياء التراث العربي، بيروت لبنان، ج 1 ص 37 - 56.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: