أكذوبة أن الغرب لم ينهض إلا بعد أن تحرر من سلطان الدين!
محمود صافي المشاهدات: 5867
يردد الغربيون وأجهزتهم الإعلامية والثقافية بصورة مستمرة أن الغرب لم ينهض إلا بعد أن تخلص من سلطان الدين على العقول، وبعد أن حكّم العقل في كل أمور حياته، ومن ثم يتوجب على المسلمين أن يفعلوا الشيء نفسه حتى يتقدموا كما تقدم الغربيون.
وللأسف الشديد فقد تأثر الكثيرون من المنهزمين نفسيًا وثقافيًا من المسلمين بهذا الكلام، وأخذوا يرددونه وينشرونه.
وأولو العلم والنهى يعلمون تهافت هذه الشبهة وتلك المقولة، فهناك فرق حاسم بين الإسلام والكنيسة المسيحية في الغرب، سواء أكان ذلك من ناحية وجود سلطان كنسي روحي، أم من ناحية موقف الكنيسة من العقل والعلوم والمكتشفات، أم من ناحية موقفها من الحياة المادية والروحية للإنسان.
وما يمكن أن يقال عن الدين والكنيسة في الغرب لا ينطبق ولا ينسحب على الإسلام والتجربة الإسلامية التاريخية.
فصراع العقل مع الدين هو صراع الفكر الإنساني مع مسيحية الكنيسة، دوافعه هي الظروف التي أقامتها الكنيسة في الحياة الأوروبية، أما موقف الإسلام من العقل والعلوم فلا ترقى إليه شبهة، لذلك نرى الإسلاميين الأكثر حماسة للعقل وضرورة إطلاقه واستخدامه وتحكيمه يستندون.
فاحترام الإسلام للعلم وتوقير أهله وإجلالهم بكل وسائل الإجلال أمر معروف ومؤكد، فالإسلام لم ولن تدانيه شريعة في عنايته بالعلم والمعرفة، فهو الذي جعل العلم والتأمل والبحث من أعظم المقربات إلى الله سبحانه، فالإسلام يحرر العقل، ويحث على النظر في الكون، ويرفع قدر العلم والعلماء ويرحب بالصالح والنافع من كل شيء.
لا مجال في الإسلام لدعوى التعارض أو العداوة بين الدين والعلم، فالدين في الإسلام علم، والعلم فيه دين.
الدين في الإسلام علم، لأنه لا يعتمد على الوجدان وحده، بل يقوم على النظر والتفكير ورفض التقليد الأعمى والاعتماد على البرهان اليقيني لا على الظن واتباع الهوى.
والعلم في الإسلام دين، لأن طلبه فريضة على كل مسلم ومسلمة، وهو فريضة عينية أو كفائية، تبعاً لحاجة الفرد أو حاجة المجتمع. والاشتغال بالعلم النافع ـ دينياً كان أم دنيوياً ـ عبادة وجهاد في سبيل الله. وهذه حقيقة شهدها وشهد بها كثير من الباحثين والمؤرخين الغربيين. ولا بأس أن نذكر هنا بعض هذه الشهادات تأكيداً وتثبيتاً لمن تهمهم أقوال الغربيين.
مشكلة التعارض بين الدين والعلم، إنما نشأت في أوروبا بعيدة عن الجو الإسلامي. إنها تصور نزاعاً في بيئة بعيدة كل البعد عن الروح الإسلامية، التي حثت الإنسانية على التعليم والتعلم، والتي نشأ المنهج العلمي ـ الذي يعتبرونه حديثاً ـ بين ربوعها، قديماً بقدمها، والتي أنشأت على أساس من هذا المنهج حضارة ضخمة ملأت العالم نورًا.
لقد تعود علماء الاجتماع الغربيون الحديث عن الانتصار الكاسح لحركة العلمنة من خلال التأكيد على تدني نسبة المتدينين ومرتادي الكنائس وتراجع الحضور الديني في مجال الحياة العامة، وغالبا ما يستند هؤلاء إلى معطيات الرصد الحسابي والجداول الإحصائية التي تثبت دعواهم في الكثير من الحالات.
ولكن كل ذلك لا يقدم صورة كاشفة عن دور الدين ومجال فعله وتأثيره سواء في الحياة الخاصة أو في الهيئة الاجتماعية والسياسية العامة.
المتابعة الدقيقة تبين أن الدين في المجتمعات الغربية مازال يتمتع بحضور قوي ونشيط، ويشهد الدين والمؤسسات الدينية في الغرب نوعا من الانتعاش والصعود قياسا لما كان عليه الأمر قبل عقد أو عقدين من الزمن.
هذا ما نشهده اليوم في روسيا ودول أوروبا الشرقية وأمريكا وأوروبا الغربية، ودليل ذلك أن الرموز المسيحية مازالت تمارس حضورا قويا في تحديد الهوية العامة ومخازن الشعور الفردي والجماعي لدى الغربيين رغم القرون المتتالية من حركة العلمنة.
الكنيسة لم تختف من المشهد الثقافي والاجتماعي الغربي على نحو ما تنبأت به نظريات العلمنة، فقد غدت الكنيسة جزءا هامًا وأساسيًا مما يسمى اليوم بالمجتمع المدني حيث تتولى الدفاع عن فئات المحرومين والمهمشين، وتشد أزر المتساقطين من ضحايا الآلة الرأسمالية القاسية، والعلمانية الكالحة، وهي إلى جانب ذلك تلعب دورا بارزا في مجال التعليم وحتى الحياة السياسية الرسمية.
أما على صعيد التجربة العملية فيكفي أن يتأمل المرء في حالة الحماية والدعم اللذين توفرهما الدول الغربية للتعليم الديني الكنسي بما في ذلك تلك الدول الموصوفة بالعلمانية، وأن يتأمل في دور الكنائس والجماعات الدينية في الحياة السياسية في بلد مثل الولايات المتحدة الأميركية حيث تتحكم الكنائس بل الجماعات الأصولية المسيحية المهودة في مسار الأحزاب ومستقبل الانتخابات وفي صعود السياسيين وإسقاطهم، فضلا عن توجيه السياسات الدولية.
دور الكنيسة في حياة الغربيين العامة والسياسية حاضر ومتزايد, بل إن الولايات المتحدة اليوم بقيادة بوش الأصولي اليميني تبدو دولة دينية متطرفة.
الكنيسة الغربية، إذّا، موجودة على نحو أكثر تعقيدا وشمولا مما سبق، فالصلاة والموت والاعتراف والزواج مرتبطة أساسا بالمؤسسة الدينية بلا فكاك منها، بخلاف الإسلام الذي يتيح للناس والأفراد ممارسة العبادة والطقوس والمراسم والحياة بلا حاجة لرجل دين أو مؤسسة دينية وإن كان وجودها ضرورة تنظيمية وإدارية وليس دينية كما في المسيحية.
ولم تؤد موجة العلمانية وفصل الدين عن الحياة والسياسة التي اجتاحت أوروبا في القرن التاسع عشر أو قبل ذلك بقليل إلى تغييب الكنيسة كما كان يبدو للوهلة الأولى في منتصف القرن العشرين، فقد ظهرت الكنيسة بسرعة وبوضوح محركا للحركات السياسية في الحكم والمعارضة والإصلاح في بولندا ودول الاتحاد السوفيتي وفي أميركا اللاتينية وفي الولايات المتحدة أيضا.
وفي الولايات المتحدة ركزت الحملة الانتخابية للجمهوريين بشكل واضح علي الدين، كما عبر الجمهوريون بصراحة عن معتقداتهم الدينية طارحين بذلك الديانة موضوعا في الحملة الانتخابية الرئاسية رغم أنهم يجازفون بذلك بفقدان تعاطف بعض الناخبين.
وعندما سئل بوش الابن الذي ينتمي إلى الكنيسة الأنجليكانية عن اسم الفيلسوف والمفكر الذي كان تأثيره عليه كبيرا، قال: إنه يسوع المسيح، وقال إنه بحث طوال حياته عن الخلاص، وأكد حرصه على "الاقتداء بيسوع" في حياته اليومية، وكانت الموضوعات الدينية والأخلاقية محورا للبرامج والحملات الانتخابية.
وفي صربيا التي يشكل المسلمون 25% من سكانها تقود الكنيسة الأرثوذكسية تقريبا الحياة السياسية والعمليات العنصرية ضد المسلمين والكروات الكاثوليك.
وكان للكنسية أيضا دور حاسم في تنحية ميلوسوفيتش الرئيس الصربي السابق وانتخاب فويسلاف كوستونيتشا في عام 2000، وذلك بسبب الخلاف الذي أنهى التحالف الذي كان قائما بين ميلوسوفيتش والكنيسة.
ويحاول كوستونيتشا رد الجميل إلى الكنيسة بسبب تأييدها له في فرض سياسات وتشريعات قد تحول صربيا من دولة علمانية إلى أرثوذكسية تخضع لإرادة وسيطرة الكنيسة، فيحرص الرئيس الصربي على زيارة الكنائس والمشاركة في الاحتفالات الدينية وأن يشارك قادة الكنيسة إلى جانب الوزراء والمسئولين في المهمات والاحتفالات الرسمية.
وأعيدت إلى الكنيسة الأملاك التي صودرت منها في العهد الشيوعي بقيادة تيتو، وأعيد التعليم الديني المسيحي إلى المدارس والجيش والسجون، وتساعد الحكومة في بناء ستمائة كنيسة ومبنى ديني في أنحاء البلاد، إلى درجة أثارت حفيظة المسلمين في صربيا وفي البوسنة والهرسك، بل وأدت إلى انتقادات صربية أيضا، مثل الفيلسوف الصربي نيناد جاكوفيتسش الذي قال إن صربيا تشهد قومية دينية غير ديمقراطية.
وفي أمريكا اللاتينية تقوم الكنيسة بدور نضالي في مواجهة الاستبداد وسوء توزيع الموارد والفرص، فالساندينيون الماركسيون في نيكاراغوا على سبيل المثال يستلهمون تعاليم المسيحية ومبادئها في العدالة ومناصرة الفقراء والمستضعفين، ويعتبر القائد السانديني أورتيغا أن المسيح عليه السلام يمثل القائد الاجتماعي المتواضع والمنحاز للفقراء.
وتجربة الكنيسة في كل من بولندا والبرازيل تعطي مؤشرات على إمكانيات وتحولات في دور الكنيسة توثق أهمية الدور التاريخي للكنيسة باعتبارها مؤسسة دولة لتصبح مؤسسة مجتمع.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: