(55) المثقفون التنويريون وفوادح العلماء المجددين: من الشيخ رشيد رضا إلى الدكتورحسن حنفى [2]
د - أحمد إبراهيم خضر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 10758
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
مرة أخرى نعود إلى قاعدة الإمام الشاطبى التى يتحدث فيها عن ميل الناس إلى ما ظهر منهم صلاح وفضل". يقول الإمام الشاطبى : " الإستدلال على تثبيت المعانى بأعمال المشار إليهم بالصلاح لا يكون إلا لمجرد تحسين الظن، ولكنه إذا أُخِذَ بإطلاق فإنه قد يكون من الفوادح". انظر مقالتنا : " الدكتور المسيرى : مع اليهود أم ضد اليهود).
كتب "أحمد تمام" فى موقع "الإسلام أون لاين" يعدد صلاح وفضل الشيخ "رشيد رضا" فيقول :"الشيخ رشيد رضا حمل راية الإصلاح والتجديد، وبعث في الأمة روحًا جديدة، تُحرِّك الساكن، وتنبه الغافل، لا يجد وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة إلا اتخذها منبرًا لأفكاره ودعوته ما دامت تحقق الغرض وتوصل إلى الهدف.
وكان - رحمه الله - متعدد الجوانب والمواهب، فكان مفكرًا إسلاميًا غيورًا على دينه، وصحفيًا نابهًا ينشئ مجلة "المنار" ذات الأثر العميق في الفكر الإسلامي، وكاتبًا بليغًا في كثير من الصُفَح، مفسرًا نابغًا، ومحدثًا متقنًا في طليعة محدثي العصر، وأديبًا لغويًا، وخطيبًا مفوهًا تهتز له أعواد المنابر، وسياسيًا يشغل نفسه بهموم أمته وقضاياها، ومربيًا ومعلمًا يروم الإصلاح ويبغي التقدم للأمة.....الشيخ رشيد رضا عالم موسوعي ملم بالتراث الإسلامى، محيط بعلوم القرآن، على دراية واسعة بالفقه الإسلامي والسنة النبوية، عارف بأحوال المجتمع والأدوار التي مر بها التاريخ الإسلامي، شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه، خبير بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية. كتب رشيد مئات المقالات والدراسات التي تهدف إلى إعداد الوسائل للنهوض بالأمة وتقويتها، وخص العلماء والحكام بتوجيهاته ؛ لأنهم بمنزلة العقل المدبر والروح المفكر من الإنسان، وأن في صلاح حالها صلاح حال الأمة ".
وعن موقف الشيخ " رشيد رضا من الرافضة يقول الكاتب : "اقترح رشيد رضا لإزالة أسباب الفرقة بين المسلمين تأليف كتاب يضم جميع ما اتفقت عليه كلمة المسلمين بكل فرقهم، في المسائل التي تتعلق بصحة الإعتقاد وتهذيب الأخلاق وإحسان العمل، والإبتعاد عن مسائل الخلاف بين الطوائف الإسلامية الكبرى كالشيعة، وتُرسَلُ نسخ بعد ذلك من هذا الكتاب إلى جميع البلاد الإسلامية، وحث الناس على دراستها والإعتماد عليها".
هذا عن الشيخ "رشيد رضا". أما عن الدكتور"حسن حنفى" فقد كتبنا عنه تفصيلا فى مقالتنا : " الفقيه القديم حسن حنفى وألمع العلمانيين فؤاد زكريا : قراءة فى فكر هدام". بقى أن نُعَرّف بالشيخ " مصطفى صبرى"- يرحمه الله- وتكمن أهمية هذا الشيخ الجليل فى أنه قد حدد بوضوح كيف أن (بعض) آراء الشيخ " رشيد رضا " تعد من الفوادح.
ولد الشيخ " مصطفى صبرى" في توقاد من الأناضول سنة 1286/1869، ونشأ طالباً في كنف المذهب الحنفي الغالب في تركيا، وصار مدرساً في جامع السلطان محمد الفاتح وهو في الثانية والعشرين من عمره وكان أصغر المختارين لتولي هذا المنصب، وأجاز خمسين طالباً وهو رقم ضخم. اختاره السلطان عبد الحميد يرحمه الله تعالى ليكون أميناً لمكتبة قصره قصر يلدز، وهذا أتاح له أن يطلع على الكتب الثمينة التي كان قانون حفظ التراث يمنع إخراجها خارج القصر. عينه السلطان وحيد الدين شيخاً للإسلام في الدولة العثمانية، وعضواً في مجلس الشيوخ، وناب عن الصدر الأعظم - رئيس الوزراء - أثناء سفره لباريس للمفاوضات ستة أشهر، وهذا كله يدل على المكانة العالية التي كانت للشيخ آنذاك، ومنصب شيخ الإسلام يلي في الأهمية منصب الصدر الأعظم حسب لوائح الدولة العثمانية آنذاك. ( انظر سيرة الشيخ تفصيلا فيما كتبه عنه " محمد بن موسى الشريف " فى موقع " طريق الإسلام".
كان الشيخ "صبرى" - يرحمه الله - أول من أشار إلى خطورة آراء علماء الإسلام المعروفين بدعوتهم إلى الإصلاح والتجديد على المثقفين العصريين فقال فى كتابه المعروف " موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين " ج1/332: " لا يعنينى زيغ الشيخ وضلاله إذا اهتديت أنا وسَلِم المسلمون من سريان زيغه إليهم، ولكنه يعنينى كل العناية إذا رأيته يجر من ورائه الجيل الحاضر من مثقفى المسلمين الذين سحرتهم شهرته فى التجديد، ولم تكفل لهم ثقافتهم بالتمييز بين الحق والباطل من الجديد".
بَيّن الشيخ "صبرى" كيف أن كتابات المجددين من المشايخ وغيرهم هى دسم مخلوط بالسم، وأنهم يقومون بالتشكيك فى الدين، لا يلقونها فى الأكثر على أنها شكوك فى الدين صراحة، أو أنهم يريدون التشكيك والتوهين فى عقائد المؤمنين، بل يُلقُونها على طريقة الدّس وتهيئة الأذهان لما يريدون التعرض له. (ج1/43).
كشف الشيخ "صبرى" عن أن خلاصة النهضة الإسلامية المنسوبة إلى الشيخ " محمد عبده" هى أنه زعزع الأزهر عن جموده فى الدين فقرّب كثيرا من الأزهريين إلى اللادينيين خطوات، ولم يقرب اللادينيين إلى الدين خطوة، وهو الذى أدخل الماسونية إلى الأزهر بواسطة شيخه جمال الدين الأفغانى، كما أنه هو الذى شجع قاسم أمين على ترويج السفور فى مصر. وهو الذى وصم علماء الدين بالجمود. (ج1/134).
يقول الشيخ "صبرى" :" كان المسلمون قبل عهد الشيخ محمد عبده على طول ثلاثمائة وألف عام يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ومعجزات رسله، وبكل ما ورد فى نصوص كتاب الله وسنة رسوله السليمة الإسناد من الأوامر والنواهى والقصص وأحوال الآخرة.........حتى جاء الأستاذ الإمام فوضع منهجا عجيبا لتأويل النصوص يمثل - بإسم النهضة الدينية – الحركة القهقرية أمام خصوم الإسلام المتسلطين على كتابه، ويلقى الشك فى قلوب المسلمين الذين يعتقدونه كتابا منزلا من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه...قائلا :" إن وجود شيئ فى القرآن لا يقتضى صحته".(ج1/346-347). وتعليقا على شهرة وسمعة الشيخ محمد عبده، يقول الشيخ " صبرى": لا يسعنى أن أضحى بالله وبالحقيقة فى سبيل إكبار الشيخ محمد عبده ".ج1/136. وردا على مهاجميه هو شخصيا كان يقول:" الحُجّة إن كانت قوية، لا يضعفها كون المستند إليها متهما بعيب فى نفسه فالعبرة بالقول لا بالقائل" ج1/138.
تتبع الشيخ "صبرى" فوادح العلماء المشار إليهم بالصلاح والفضل من دعاة الإصلاح والتجديد، وكشف كيف أن أحدهم وكان وقتها عضوا فى جماعة كبار العلماء وعضوا فى لجنة التقريب بين المذاهب الإسلامية وعضوا فى مجمع اللغة العربية، قد أنكر وجود الشيطان الرجيم الذى يستعيذ منه المسلمون كل يوم فى الصلوات الخمس، وأنكر كذلك رفع سيدنا عيسى " عليه السلام" ونزوله آخر الزمان.(ج1/34). كما كشف الشيخ " صبرى " كيف أن شيخا آخر أنكر معجزات الأنبياء وأنكر البعث بعد الموت. (ج1/46). وكيف أن شيخ الأزهر الأسبق جعل حملة العلم فى مقابل حملة الدين واعتبر علماء الدين خالين عن العلم بالمرة، لعدم كون ما عندهم من الدين جديرا بإسم العلم".(ج 1/98).
نالت قضية تأثر المثقفين العصريين بفوادح العلماء اهتمام الدكتور "هانى السباعى"، فكتب فى موقع المقريزى للدراسات التاريخية كيف تأثر علماء الأزهر المعاصرين بالفكر الإعتزالى. وكيف انتقل هذا التأثر إلى الفلاسفة والمثقفين العصريين ومنهم " حسن حنفى". يقول الدكتور السباعى:
أن " فتاوى هؤلاء العلماء صارت :" عمدة وتكأة لآراء العلمانيين ومن يسمون أنفسهم بالإسلام المستنير!! وصار كل من هبّ ودبّ يتكلم في الإسلام..............وفي ظل هذا الجو الكئيب وسيطرة الفكر الإعتزالي على جامعاتنا ومراكز الدراسات كان من الطبيعي أن يفرز ذلك المناخ الدكتور حسن حنفي أستاذ الفلسفة فأخرج لنا مؤلفاته التي تسير على غرار المنظومة الماركسية.، ولما كان مصراً على الاحتفاظ بإسم مسلم فإنه صار على منهج المتناقضات بغية التوفيق أو قُل التلفيق في تأويل الحدث التاريخي الطويل من البحث والتنقيب ظهر سَلْخ جديد اسمه اليسار الإسلامي. وخلاصة فكر هذه المدرسة (اليسار الإسلامي). أنها امتداد للفكر الاعتزالي وما يسمى بالمدرسة الإصلاحية بزعامة الأفغاني ومحمد عبده "
" انظر تفصيلا مقالة الدكتور " السباعى": " حسن حنفى أنموذج للزندقة المعاصرة" فى موقع مركز المقريزى للدراسات التاريخية".
يقول الدكتور " حسن حنفى" مشيرا إلى الشيخ" رشيد رضا " أن هذا الأخير " درس وقَيّم الأساليب الدينية وحاول القضاء على الأسطورى منها والرجوع إلى الأساليب الدينية البسيطة ". وبعد أن مزج " حسن حنفى" بين الفكر الإعتزالى ودراساته الغربية حاول هدم النبوات، فانطلق بقلمه يكتب فى مقالاته أن : " الانبياء جهلوا الكثير من الحقائق وأن النبوة ليست ذات مصدر الهي، وأنها واقعة إنسانية، وأن الدليل هو وجود النبي وليس وجود الله، وأن النبوة لا تتطلب إلا خيالاً خصباً، وأنه لم يكن للأنبياء فكر أكمل بل خيال أخصب، وأنه لا يجوز لنا تصديق الأنبياء إلا في الأمور النظرية، وأنه لا فرق بين النبي والفيلسوف، وأن الفيلسوف يستطيع إدراك حقائق الوحي بالنور الفطرى وأن الفيلسوف لا يحتاج إلى الرواية التي هي ضرورية للعوام فقط، وأن الأنبياء ساروا وراء خيالاتهم وانفعالاتهم، وأنهم كثيرا ما فعلوا الشر وأن الأنبياء بدءاً من إبراهيم – عليه السلام – لم يدركوا أوامر الله إدراكاً كافياً , وأن المسيح عليه السلام لم يكن نبياً وإنما كان فيلسوفاً، وأن المسيح قد أرسل للجنس البشرى قاطبة".
تعلم " حسن حنفى" من (فولتير) كما تعلم (طه حسين) من قبل أن إبراهيم – عليه السلام – لم يكن نبياً حقيقياً أو أن حياته كانت تجرى بعناية إلهية، وإنما هو شخصية تاريخية وجغرافية ونفسية بحته تخضع لنفس العوامل التي يخضع لها البشر جميعاً أنبياء كانوا أم غير انبياء. وما أن وعى " حسن حنفى" هذا الدرس جيداً حتى قلد النبوة نفسها لكل من (فولتير) و(روسو) واعتبرهما من أنبياء العصر الحديث لأنه إذا كان الوحي يهدف لمصحلة البشر فإن هذين النبيين يعملان أيضاً لمصلحة البشر. هذا الدرس الذي تعلمه "حنفى" من الغرب جعله يتحسر على أن (الرازى) و ( ابن الرواندى) لم يستكملا جهدهما في نقد النبوات وأنهما كنموذجين قد استئصلا من تراثنا القديم وأن هذا الاستئصال قد تسبب في غيابهما عن وعينا القومي ووجداننا المعاصر.
جعل "حنفى" النبوة ملكا مشاعاً بين من يستوفون المواصفات اللازمة لإرشاد الناس لما يتصورون أنه في صالحهم. وهو وإن كان يستهدف تنزيل الأنبياء إلى درجة الناس العاديين فإنه قد فتح الطريق لنفسه لكى يحرزمرتبة النبوة، فرأى فى نفسه نبي الثورة ومفكرها وفيلسوفها.
وبعد أن جف قلمه فى مسألة هدم النبوات، انطلق بقلمه لهدم المعجزات فاعتبر أن :" المعجزة ليست شيئاً خارقا لعوائد الكون وإنما هي عمل من أعمال الطبيعة. وقال أن وجود المعجزات يجعلنا نشك في وجود الله وأن الإنسان الساذج هو الذي ينسب الأشياء التي يجهلها إلى الله، وأن المعجزة التي تخرق قوانين الطبيعة لا تؤدى إلى معرفة الله، وأن الإيمان بالمعجزات يؤدى إلى الكفر والإلحاد، وأن كل واقعة مناقضة للطبيعة خرافة يجب اعتبارها زيادة في كتاب الله، وأن إثبات المعجزة يعنى استحالة وجود الله. ورأى " حنفى" أيضا أن عصر المعجزات قد انتهى منذ عشرين قرنا وأن آخر المعجزات كانت ظهور المسيح عليه السلام، وقال أنه لا يؤمن بتدخل قوى مجهولة في الطبيعة لتأكيد المعجزات ".
هذه هى خلاصة الأفكار التى حاول بها " حنفى" هدم النبوات والمعجزات بعد أن مزج بين الفكر الإعتزالى القديم الذى تبناه المجددون من علماء الأزهر ودراساته فى السوربون.
كانت مسألة " إنكار النبوات والمعجزات " من بين العديد من المسائل التى كرّس لها الشيخ " مصطفى صبرى" جهوده فى الرد علي مدعيها.. تعامل " الشيخ " مع منكرى النبوات والمعجزات بشدة بالغة، وكان شعاره عند مناقشة المحاربين لعقيدة الإسلام محاربة مباشرة أو من وراء الحواجز :" اللين مع المحارب شيمة الأحمق والعاجز ". كان " الشيخ" يرى أنه لا بد أن يكون صوت القراع والصدام شديدا، لاسيما مع أصحاب الأقلام الذين طالما تلاعبوا بعقول قرائهم، وباعوا الضلالة بيع الهدى. وكان يعرف تماما أن إنقاذ القراء واجتذابهم من أيديهم يتطلب عملا عنيفا وصراعا قاسيا. (ج 1/ 51). راجعه بعض أصدقائه بسبب الشدة والقسوة فى مناقشاته فرَدّ قائلا:" إنى ما قسوت فى القول إلا على الذين قست أقوالهم على أساس من أسس الدين أو علم من علومه، أو طائفة من علمائه، وما فرطت فى جنوب من ناقشتهم وفيهم المفرطون فى جنب الله " ( ج1/ 46). كان " الشيخ" يرفض عند نقد أقوال هؤلاء أن يضع توطئة لعملية النقد فى كلمات متقدمة تتضمن مدحهم وإكبارهم. وقال فى ذلك :" أن هناك شخصيات وأسماء أكبرت واتخذ قدوة ولكن فى مجال الزيغ عن محجة الإسلام....وأن الأولى بالحق هو رد الحق إلى نصابه، وهو الحط من مراكزهم فى القلوب بقدر ما حازوه منها بغير حق". (ج1/45).
وضع "الشيخ " قاعدة هامة تتعلق بقضية نقل الأقوال المنافية للعقيدة وأقوال الملاحدة مع التنصل منها دون الرد عليها. يقول الشيخ :" أن القدح بعينه فى العقيدة هو نقل أقوال القائلين وعدم الإجابة عنها حينما لا يكون هناك جواب لها، فإن الإستنكاف عن الجواب على منتقدى العقيدة مع عدم الإستنكاف عن نقل هذه الإنتقادات يعنى أن ناقلها يرى أن هذه الإنتقادات واردة". (ج4/137 ).
أنكر الشيخ "مصطفى صبرى"على الشيخ " رشيد رضا " ما سطره فى كتابه " الوحى المحمدى" الذى دافع فيه عن كتاب " محمد حسين هيكل" عن " حياة محمد" قوله : أن القرآن وحده هو حجة الله القطعية على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالذات، ونبوة غيره من الأنبياء بشهادته.. وأن الخوارق الكونية شبهة لا حجة، لأنها موجودة فى زماننا ككل زمان مضى، وأن المفتونين بها هم الخرافيون من جميع الملل. ج4/44. كما أنكر عليه أيضا تفسيره لقوله تعالى :" اقتربت الساعة وانشق القمر" باقتراب الساعة وظهور الحق" ج4/172. وهى ذات القضايا التى تبناها المثقفون التنويريون.
يعلل الشيخ "صبرى"كل التأويلات التى لا يقبلها العقل على أنها مفهومة من النص القرآنى بأنها ترتكب لإحساس أصحاب هذه التأويلات بالحاجة إلى تطبيق الإسلام على رغبات المستشرقين من الغربيين وإمالة الإسلام نحو هوى هؤلاء المستشرقين، فهؤلاء المتأولون للنصوص القرآنية يضحون بدينهم لإرضاء منتقدى الإسلام من الغربيين وللتخلص من هذه الإنتقادات" (ج4/105).
يقول الشيخ " صبرى" ما نصه: " أن علماء الإسلام يؤمنون بجميع مانص عليه القرآن من قصص الأنبياء ومعجزاتهم التى تدخل أيضا فى قصصهم، وأحوال الآخرة..... كما ورد فى القرآن ولا يتصورون وجود أى شيئ يخالف الواقع ويحتاج إلى التأويل والتغيير لأن هذه المذكورات إخبارات لا تحتمل حتى النسخ من عند الله وإلا كانت كذبا أو جهلا يجب تنزيهه تعالى عنه.
وعقيدة المعجزات الخارقة لسنة الكون - ولا بد أن تخرقها لتكون معجزة- تنبنى على ثلاثة أسس عند الشيخ " مصطفى صبرى":
الأول: الإقتناع بأن الله تعالى خلق المعجزة -لا النبى الذى تظهر على يديه - قادر على أن يخلقها بمعنى أنها ليست مما يستحيل عقلا حتى تكون خارقة عن متناول قدرة الله.(ج1/348). يقول الشيخ:" أليس واضع هذا النظام المسمى بسنة الكون هو (الله)، فكيف تقيدون الله بالنظام الذى وضعه بقدرته وإرادته واختياره، فهل يكون القادر المختار عاجزا عن تغيير ما وضعه متى شاء ذلك ". (ج1/49).
الثانى: أنها، فضلا عن إمكانها فى حد ذاتها، يشهد كتاب الله الذى لا يجيز العقل أن يحوم حوله الكذب بوقوعها...فيمكن أن يكذب التاريخ أو يخطئ، ولا يمكن أن يكذب الله أو يخطئ. ومن شك فى صدق وقوع ما أخبر الله به، من غير مانع عن وقوعه يتصوره فى عدم إمكانه عقلا أو عدم كفاية قدرة الله على إيجاده، فهو كافر...وهذان الوجهان لعقيدة المعجزات يجريان فى قصص القرآن كما يجريان فى أحوال الآخرة أيضا.
الثالث : حاجة الأنبياء إلى المعجزات ليستندوا إليها فى دعوى نبوتهم وفى دعوة الناس إلى أن يثقوا بهدايتهم..فهذه الحالة الواقعة من وجود المقتضى وعدم المانع، توجب علينا الإيمان بما نص عليه كتاب الله من معجزات الأنبياء وقصصهم فى أحوال الآخرة...والذين لا يؤمنون بصدق النصوص الواردة فى القرآن متعلقة بهذه الموضوعات كما ورد فيه ويحتاجون إلى تأويلها، فهم لا يؤمنون لمانع ناشئ من ضعف دينهم وعقولهم التى تعتمد على أقوال المؤرخين والمستشرقين من أعداء الإسلام والقرآن ولا تعتمد على نصوص كتاب الله" (ج1/348-349).
وأضاف الشيخ فى مواضع أخرى من كتابه الآتى:
1- أن عدم إيمان المثقفين بالنبوة ناتج عن تأثرهم بالكثرة الساحقة من الفلاسفة الغربيين، المؤمنين بالله دون الإيمان بالنبوات، حتى أنهم أغفلوا مبحث النبوة فى دراساتهم الفلسفية. كما أن المذهب السائد اليوم بين المثقفين الغربيين هو الإعتراف بوجود الله دون وجود الأنبياء.( ج1/ 114-115). ولهذا فإن تأثير حياة النبى صلى الله عليه وسلم على من يَطّلع على سيرته يتوقف على طهارة عقل هذا المُطّلع من الأمور العقلية التى تمنعه من الإيمان بالخوارق لسنن الكون ونفى كل ما يغيب عن الحواس، أواعتبار أن هذه الخوارق لا يمكن قبولها عقليا كما لا يمكن إثباتها علميا.( ج1/112).
2- أن تأويل المعجزات بما يُخْرجُها عن خوارق العادة، يُخْرجُها أيضا عن كونها معجزات، ويؤدى بالتالى إلى إنكار النبوات. فإنزال الوحى والكتب وإرسال المَلََك إليهم هو خرق لسنن الكون، ولا تكون المعجزات بمعجزات بدون خرقها.(ج1/47).
3- أن المنكرين للمعجزات اعتبروا قول الفلاسفة الغربيين فى أمر المعجزات حجة لا شبهة – كالشيخ "رشيد رضا"، وهذا يعنى أن تعبير القرآن عن تلك المعجزات – تارة بالحق، وتارة بالبينات، وتارة بالآية الكبرى، وتارة بالسلطان، وتارة بالبرهان، وتارة بالفرقان- شبهة لاحجة. (انظر الآيات العديدة التى استند إليها الشيخ "مصطفى صبرى" فى بيان تعبير القرآن عن هذه المعجزات. (ج4/124).
4- أن أصل إنكار المعجزات يرجع لعدم الإيمان بوجود الله ، فمن لا يؤمن بموجود فوق الطبيعة ولا بتدخله فى شئون العالم لا يقبل فعل إنسان خارق للعادة على أنه معجزة، فيعمل على تأويله مطلقا بما يخرجه عن كونه معجزة".(1/49).
5- أن المنكرين للمعجزات ليس لهم حق التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وهم محرومون من بركة هذين المنبعين، وهم إن تمسكوا بهما فقلّما يستفيد المرء من تمسكه بما لايكون متمسكا به أصلا. ولهذا يخطئون كثيرا فى فهم معانى القرآن.(1/115). يقول الشيخ "صبرى" أن هؤلاء المثقفين العصريين لو نظروا إلى قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم نظر المحايد غير المقيد بعقيدة مانعة عن قبول ما يخالفها، لأمكننا وقفهم فى حدود قول الله ورسوله. (ج4/23).
6- أن القرآن الذى يستثنيه الرافضون للمعجزات ويعتبرونه وحده حُجّة قطعية لا يكون حُجّة إن لم يكن كغيره من المعجزات خارقة من الخوارق، وهو متوقف على كونه كلام الله إذ لو كان كلام سيدنا محمد لا يكون معجزة كما لا يكون خارقة. (ج1/47).
7- أن منكرى المعجزات لا يفرقون بين خارق العادة الممكن وخارق العادة المستحيل، ولا يدرون أن دائرة الإمكان أوسع بكثير مما يظنون. (ج1/48).
8- أن إنكار المعجزات يعنى أن الله تعالى لم يكن صائبا- والعياذ بالله فى اختيار المعجزات لأنبيائه. يقول الشيخ "صبرى" :"إن فى إنكار المعجزات إيهاما بأن المعجزات الكونية التى أظهرها الله على أيدى رسله هى عبث لأنها لن تنجح فى تأييد رسالته، ولم تكن خير وسائل إلى اقتناع الناس بصدقهم ولو بقدر اقتناعهم بصدق السحرة والمشعوذين والدجالين فى دعاويهم، فكأن الله تعالى ما أصاب – والعياذ بالله – فى اختيار المعجزات لأنبيائه إلا فى معجزة القرآن التى تخاطب العقول والأفهام. (ج4/128).
9- أن قول الشيخ "رضا" أن المفتونين بالمعجزات هم الخرافيون من جميع الملل – وهم العوام فى نظر الدكتور حنفى- لزم أن يكون القرآن نازلا على وفق أهواء الخرافيين مكبرا لما يكبرونه وذلك ينقص من قدر القرآن.
يقول الشيخ " صبرى" فى شرح ذلك :أن الشيخ " رضا" قد أخطأ فى احتقار المؤمنين بالأنبياء المتقدمين بسبب معجزاتهم الكونية التى سماها " عجائب" فاستهان بها أيضا، وقال بأن أكثرهم من الخرافيين، فكأنه قال آمن بهم السذج ولم يؤمن بهم أصحاب العقول الراجحة مع أن رجحان العقل وخفته يجب أن يوزن بميزان الإيمان بالنبى الحق وآياته التى هى آيات الله والإعراض عنه. فمن آمن فهو أعقل الناس ومن كفر فهو أغباهم وأجهلهم.....أنزل الشيخ " رضا" معجزات الأنبياء منزلة السحر والدجل الذى لا يؤثر إلا فى قلوب السذج والخرافيين، وهذا يلزم أن يكون القرآن قد نزل وفق أهواء الخرافيين مكبرا لما يكبرونه، وهذا ينقص من قدر القرآن. (ج4/131-128 ).
10- أن تفسير الشيخ " رشيد" لقوله تعالى ( وانشق القمر ) بظهور الحق هو لغو فى القرآن، وهومن أنواع اللغو الذى توسل به الأولون إلى عدم السماع للقرآن، وهو رفض فى الوقت نفسه للأحاديث المتواترة عن انشقاق القمر التى أخرجها أحمد والبخارى ومسلم والترمذى وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه وابن عمر وابن عباس وأنس " (ج4/173).
هذا هو قليل من فيض رد الشيخ " مصطفى صبرى" على العلماء المجددين ومقلديهم من المثقفين العصريين أمثال " محمد حسين هيكل" و" محمد فريد وجدى" والدكتور "توفيق الطويل" وغيرهم من المثقفين القدامى، وهو ينطبق على تابعيهم من المثقفين العصريين أمثال " حسن حنفى " وغيره.
لم ينس الشيخ " مصطفى صبرى" أن يقدم نصيحة ثمينة للغيورين على الدين الذين يتولون الرد على المُتعَدّين على الإسلام بإسم العقل والعلم. يقول الشيخ :" يتحتم على كل من يَدّعى الإنتصار للإسلام ويجلس للدفاع عما جاء فى كتابه، أن يقتنع بأنه يدافع عن أعظم حقيقة، ولا يخاف عليه من مناقضة عقل أو علم بشرط أن يكون العقل عقلا والعلم علما ، فيعمل فى دفاعه وانتصاره بكل صراحة، ولا يسلك سبل الإبهام والإيهام، ولا يحدث نفسه باحتمال الإنهزام، فيعد نفسه للتراجع إلى الوراء ويترك الإسلام وسط المعركة مخزولا وينجى نفسه فحسب....إن عليه أن يحيا مع الإسلام ويموت معه، وأن يعلم أن الله الذى له الدين الخالص حىّ لا يموت " ( ج4/401-402).
---------------
د. أحمد إبراهيم خضر
الأستاذ المشارك السابق بجامعات القاهرة، وأم درمان الإسلامية، والأزهر، والملك عبد العزيز.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: