ياسين أحمد
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8756
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لماذا ندرس التاريخ ..؟
من بين أحدى الحكم والعبر في دراسة التاريخ، استنباط للقواعد وسير التاريخ في سياقات معلومة، والتنبؤ بالمستقبل، يطلق عليها الناس من غير المؤرخون والمتابعين: التاريخ يعيد نفسه.
إذن ... هل يعيد التاريخ نفسه حقاً ..؟
التاريخ لا يعيد نفسه بالطبع ولكن ...!
حركة التاريخ محكومة بقواعد لا تتغير تقريباً، وهناك قواعد للتطور والنمو، وقوانين اجتماع، وهي التي تحكم التطورات بطابعها بما يظهرها وكأنها تكاد أن تكون متشابهة لدرجة التماثل.
هناك دائماً غزاة ومحتلون، يطلقون على أنفسهم المحررون، مندوبي الحضارة والمدنية، رسل الديمقراطية، والسلام، والإنسانية ... الخ .. ما في موسوعة القواميس السياسية من مصطلحات وتعبيرات .. وكل هذه المصطلحات تعبر في نهاية المطاف عن رغبة وإرادة في التوسع، ومهما اختلفت الحقب فالمسميات واحدة، والنتائج متشابهة.
وهناك في ميثولوجيا الشعوب أساطير مؤثرة على أعماق وجدان هذا الشعب أو ذاك، ولهذه الأساطير عقدها في تأسيس المناهج السياسية والثقافية، وتكون بالتالي مؤثرة في بناء النسيج الثقافي / النفسي لها.
الأمثلة كثيرة جداً سنكتفي ببعضها، فالاستزادة منها يحولنا لولوج موضوع مثير للكاتب والقارئ على حد السواء ..
الإنكليز شعب يقطن جزيرة، وهذه الحقيقة الموضوعية قادت إلى سلسلة من العوامل المؤثرة في أنماط التفكير والسلوك، منها: السعي سياسياً لإحباط التحالفات التي تتم في القارة(أوربا) لكي لا يتم عزلها أو الاستفراد بها. وتعزز هذه النظرية السياسية وجود بحري قوي عسكري / تجاري، يعمل على إحباط محاولات الغزو الخارجي والحصار، ويؤمن لها المواد الخام للصناعة التي هي عماد الحياة، ويتكفل الأسطول أيضاً بتصدير الإنتاج وحماية خطوط المواصلات.
الروس شعب يقطن بلاد شاسعة الأطراف مترامية الأبعاد، تقع في قارتين، تمتد من المحيط الهادئ متوغلة في أوربا، جزئها الصناعي الهام يقع في الجانب الأوربي، مرافئها الجنوبية تحدد من قيمتها الممرات الإجبارية في الدردنيل والبسفور، التي تغلق في وجهها في حالة قيام الحرب، فيما تحاصر الثلوج مرافئها الشمالية. وضع نجم عنه، لا سيما في العصور ما قبل التقدم التكنولوجي الهائل بما سمي في وقته " عقدة المياه الدافئة ".
اليهود أقليات مكروهة في البلدان التي يعيشون فيها، مما دفعهم للتقوقع في منعزلات أطلق عليها "غيتو" ثم حكمتهم عقدة الدياسبورا. فخلق المزيج بين الشعور بالكراهية، والاقلية، واحتراف المهن السوداء، والقبول بالموبقات من أجل التفوق المادي والهيمنة، شعوراً بعقدة التعذيب، كرست عندهم روح اعتدائية لا تجد متنفساً لها إلا بالعدوان على الآخرين.
الألمان شعب كبير ينتشر في مساحة كبيرة من الأرض، مما يحمل جيرانه من التطلع إليه بخشية، فتدور الدسائس منذ مئات السنين لمنع هذا الشعب من وحدته على كامل أرضه، ولتقتطع الحروب المزيد من أراض قومية لهذا الشعب متناثرة في أرجاء القارة، شعب كتب عليه تطميناً لمخاوف الآخرين أن يبقى غير موحد محروم من أراضيه، ولكن ذلك قاد الألمان إلى العبقرية والهمة الغير مألوفة في البناء والفلسفة والعلوم، وقادتهم إلى ترسيخ لغتهم الكبيرة.
ولكن ما هي عقد الفرس ..؟
الفرس شعب قديم، يحفل تاريخه الطويل بالكثير من المنجزات والإخفاقات على حد السواء، انتصارات باهرة، وهزائم مرة، شأنهم في ذلك شأن الكثير من الشعوب القديمة، ولكن ....
تحكم الجغرافية والتاريخ أن تقع بلاد فارس في موقعها التاريخي الذي عرفت به، تحدها جبال زاغروس العظيمة من الغرب لتحول بينها وبين وادي النهرين الخصيب والمؤدي الوحيد للبحر المتوسط، وجبال هندكوش من التوسع جنوباً في آسيا، وصحار وسلاسل جبال بعضها قاحل تحول دونها وأواسط آسيا، وإمبراطوريات قوية في آسيا الصغرى(تركيا الحالية) من التوغل في ذلك الاتجاه، عدا مغامرات لم يكتب لها النجاح في كل الاتجاهات عادت بعدها لتنكفئ في محيطها الجغرافي، ولكن عيناها ترمق الآخرين دوماً، وعبر مئات وألاق السنين صار التطلع إلى ما بأيدي الآخرين عقدة نفسية، حاولت الميثولوجيا تغطيتها بالميل للأساطير وأوهام العظمة، والشعور بالنقص أصبح محركاً للبهرجة والفخامة المفرطة كمحاولة لكسب الاحترام.
والفرس يرمقون بعين الحسد جيرانهم الروس والأتراك والعرب، فيحاولون التقليل من شأن الآخرين ورفع شأنهم في محاولات، بدا على البعض منها أنها بائسة مثيرة للشفقة.
والتنوع الحضاري الذي هو سنة الطبيعة الخالدة، وفي سياقاته تتعلم الشعوب من بعضها. الثقافة تنتقل، والحضارة لها آلياتها الخاصة في السفر والتنقل دون جواز سفر، وهي تفعل ذلك دون مراسيم إمبراطورية، لا أوامر سلطوية.
في خضم سلسلة لا تنقطع من المؤشرات التي لا تدل على حسن الجيرة، أغتنم الفرس كل سا نحة من أجل التدخل في شؤون غيرهم ولا سيما في بلاد العرب والعراق في مقدمتها.
ومن تلك الأساليب العسكرية والسياسية ولكنها دائماً بأسلوب واحد جبل عليه الفرس عبر العصور. وكما الروس يحاربون بأسلوب التمهيد المدفعي الكثيف يسبق الهجوم، ويحارب الألمان بأسلوب عرفوا به وهو الحرب الخاطفة (Blitz Krieg) وهو أسلوب الحرب السريعة الإيقاع التي تعتمد بدرجة أساسية على الآليات السريعة (دبابات سريعة، عربات نقل الجند المصفحة، مدافع ذاتية الحركة)، فيما أعتمد الفرس أسلوب زج القطعات بكثافة والتوهم دائماً بقوتهم وضعف خصومهم، وتلك أوردتهم المهالك قديماً وحديثاً، من هزيمتهم النكراء في ترموبيلي، إلى معركة سهل أربيل مع قوات الأسكندر المقدوني، إلى معركتهم مع الجيش العثماني في جالدران.
والفرس يميلون لأسلوب المؤامرة، والتسلل، على أساس أن الحيلة مشروعة في الحرب، ولكن التآمر أسلوب ينطوي على رذالة وخسة، وهو ما أتبعوه ضد دولة بابل عندما تآمر قائد الجيش البابلي العيلامي وأدخل جيوشهم لتحاصر القصر الملكي في بابل، أنتحر على أثرها الملك البابلي وأضرم النار في قصره.
وكذلك كررها العلقمي الذي تآمر وخان وهو رئيس وزراء دار الخلافة أيضاً لصالح المغول بنصيحة فارسية، ودخل هؤلاء بغداد عاصمة الخلافة، ولكن فقط بمعية المغول المشركين ....! متعاونين متآمرين .. ولكن من يسأل عن الخيانة وقد احترقت بغداد ...
وبدرجة ممائلة كانت صلاتهم مع الصليبيين في دخولهم أراض المسلمين، وبصورة مشابهة كانت صلاتهم مع أعداء الخلافة العثمانية أيام الصفويين، وفي كل مرة بوسع أي غاز الأجنبي أن يعتمد عليهم في الحرب ضد العرب والمسلمين، ويتمثل دورهم دائماً بوسائل التآمر الخسيسة، والأغتيالات التي يتنصلون منها.
الفرس ليسوا مسلمين بالدرجة الأولى، وكذلك ليسوا شيعة بالدرجة الأولى، بل هم فرس بالدرجة الأولى، ألم يصرح خامنئي بصراحة مذهلة: " لقد أحتلونا بالدين وسنحتلهم بالطائفية " وأمامهم خريطة بلاد فارس بتنوعها العرقي والديني والثقافي، ولا بد من أحكام سيطرة الفرس على هذا الموازئيك، وهذا لن يتم(بتصورهم) إلا عبر إثارة التعصب الطائفي ليكون محور الحياة السياسية والثقافية في إيران وليضمن لهم بالتالي أن لا تتحول بلادهم في المحيط العربي والإسلامي إلى كتلة لا تتمتع بدور مهم ويستحق الذكر، توجه يتساوى فيه الدولة الصفوية والبهلوية الإمبراطوري والخمينية الطائفية، لذلك ينص دستورهم صراحة على أن إيران هي دولة شيعية تتبع المذهب الإثنا عشر ..
وكان محمد رضا قد أستوعب درس مناكفة والده للأمريكان والإنكليز وغزله مع الألمان الهتلريين، بدواعي التعاطف مع العرق الآري، على أن ينال دوراً إقليمياً مهماً في المنطقة إن أنتصر المحور في الحرب العالمية الثانية. وقدرت له الدوائر الغربية أن يلعب دورها الحارس في منطقة تعج بالنشاطات المعادية للغرب.
وكان الأمريكان والإنكليز قد احتلوا إيران دون أن تطلق رصاصة واحدة، بل وأكثر من ذلك فقد أعطوا الإشارة إلى عملاء ووكلاء مخابرات صغار أن يلعبوا لعبتهم في هز غصون الشجرة الإيرانية، فقامت جمهورية مهاباد الكردية برعايتهم، ولعبت عناصر المخابرات الأمريكية الدور الأساسي في تلك المسرحية التي انتهت فيما بعد على أعواد مشانق نصبت على عجل في ساحة جوار جرا في مهاباد بتاريخ 30 / 03 /1947، بعد أن نفض الاتحاد السوفيتي يده عنها عندما أدرك أنها غدت ملعباً للمخابرات الاستعمارية.
والمتتبع لتاريخ إيران الحديث، يرى أن الأحداث تتكرر بشكل مثير بما يدعو حقاً الناس أن تطلق تساؤلها وعبارتها الشهيرة " التاريخ يعيد نفسه ". وكان نظام مصدق التقدمي الديمقراطي قد اسقط بواسطة رعاع طهران ولم تكن حركة الجنرال زاهدي (1954) سوى طلقة الرحمة في نظام مصدق الذي زعزعته حقاً ويا للدهشة حركة الرعاع من مدلكي الحمامات ومصارعي الزورخات، وعاد بفضله الشاه محمد رضا البهلوي ملكاً على العرش القاجاري.
لحد الآن لم نقل أن التاريخ يعيد نفسه ...!
والد الشاه أعتقل ونفي إلى جنوب أفريقيا ثم عاد بطريقة ما إلى القاهرة ليموت ويدفن فيها، وتدور دورة التاريخ لتتحول ثورة من أجل الديمقراطية أطلقتها البورجوازية الإيرانية ونقابات العمل، إلى حركة ملالي.. لماذا ..؟
لأنه كان المسموح الوحيد والطريق السالكة إلى دور إيراني كان الأمريكان يخططون له منذ نهاية حرب تشرين / أكتوبر / 1973
هل يعيد التاريخ نفسه ..؟
كلا بالطبع .. أو .. ليس هكذا على الأقل، ولكن ...
المعطيات تتشابه، الأطماع الاستعمارية هي واحدة، مناهضة رغبة شعوب المنطقة في التحرر وبناء الذات بعيداً عن الهيمنة الغربية ، وفي ذلك لهم أدواتهم المعدة سلفاً، أو تلك المستعدة دائماً لتلقف أي دور يسند لها من أجل أي شيئ أو لا شيئ
وهنا لعبت إيران بقيادة الملالي دورها المرسوم بعناية فائقة، فهي قادرة على تجنيد عناصر لها في المنطقة، وأضعاف الولاء الوطني والقومي، مقابل إثارة النعرات الطائفية، والمخابرات الغربية قادرة بدورها على اتخاذ الأقليات متكأ لهم وأدوات وقنوات يتسربون من خلالها .. بداعي كلمة سحرية هي .. الديمقراطية وحقوق الأقليات.
ومن يرتضي دور الأجير أو المشارك بالتبعية لا يسأل عن التفاصيل، رغم أن زبدة الموضوع وجائزته تكمن في التفاصيل .. ولماذا يسأل عن التفاصيل ..؟ ثم هل يحق له السؤال عن التفاصيل ..؟
وفي العراق هناك مثل لا يخلو من البشاعة نأسف لقوله هنا ولكن للضرورة أحكام: الحمار يموت بأجرته. الأجير يقبل أن يقوم بالدور مقابل أجر يتناوله نقداً وعداً، وقد سن الكونغرس الأمريكي عام 1992 قانون سمي بقانون (تحرير العراق) يتناول بموجبه عدد من الأحزاب العميلة والشخصيات السياسية العراقية رواتباً من المخابرات الأمريكية والقائمة معروفة وقد نشرت أكثر من مرة، وبينهم من يضع على رأسه عمامة سوداء كبيرة، ويطلق على نفسه آية الله، عدا عن قادة قبضوا من كل من هب ودب حتى الضب، وبالإضافة لذلك فهناك عدد من الشخصيات السياسية التي تعتبر نفسها أصيلة في العراق يقبض قادتها سراً من وكلاء الأمريكان في المنطقة الشمالية ويوقعون كالعادة على سجل الرواتب لتبقى رقابهم أوهى من خيط العنكبوت.
هل تصيب العقد النفسية دوائر القرار السياسي ..؟
نعم ن فقد حدثني يوماً أحد مشاهير علماء النفس العرب ممن له دراسات علمية عميقة في هذا المجال، أن هناك مثل هذه العقد التي تحكم على متخذيها سلوك عصابي، وقد أفاض هذا الصديق العالم في شرح نظريته للمسألة التي أطلق عليهاLeadership Sociology ويرجح أن قادة مشاهير أصيبوا بهذه الأعراض واتخذوا قرارات مهلكة، وقد تصاب أيضاً قيادات سياسية، بفعل عوامل الفشل أو النجاح الكاسح، وتعمل العقدة على جذب أنظار القائد أو قيادة برمتها لرؤية هذا الجانب دون سواه، أو فشلاً يحيق بقيادة ما فيصيب بالإحباط أوساط القرار ومتخذيه، كما حصل للقيادات السياسية الأمريكية عقب هزيمة فيثنام.
عقدة الفرس أنهم لا يجيدون إدارة الأزمة السياسية والصراع السياسي إلا بوسائل التآمر، وعندما لا يطيقون إحراز مكتسب سياسي أو عسكري يلجون إلى قوى أكبر منه ويقبلون الأنظواء تحت قيادتهم للتكتل السياسي / العسكري والقبول بدور المقاول الثانوي في عمليات الظلام يخجلون من قولها صراحة.
وعندما تكرر قيادة معينة سلوكها السياسي تحت وطأة عقدتها التي تحكمها، يقول الناس في هذه الحالة إن التاريخ يعيد نفسه ...!
وفعلاً يعيد الفرس أسلوب تدخلهم وتحرشهم في بلاد الرافدين مرة أخرى عن طريق التآمر والدخول بمعية الأجنبي والقبول بدور المقاول الثانوي أو ممثل الكومبارس، ثم يثير المتاعب عند توزيع الحصص ليريد أكثر ما يستحق، فيتلقى لطمة تعيده إلى صوابه، ويبدأ بإطلاق فنون الكلام والتعبيرات المزخرفة لتخفيف الفشل على نفسه ..!
الفرس كالفأر المذعور الذي يخرج رأسه الصغير المثلث من جحره .. يتلفت يميناً وشمالاً مرة ومرتين وثلاث .. إلى أن يتأكد أن الأسد قد وقع جريحاً (وليس صريعاً كما يتوهم) ويبدأ بالمنفخة وتمثيل دور البطل الرئيسي، وهو ما فعله حقاً مرة أخرى عندما دخل بغداد من أبوابها الخلفية ومن الشبابيك المنسية كحارس للدبابات الأمريكية ..
للمرة الثالثة أو الرابعة ...
كوم حجار ولا هذا الجار .. هكذا يقول المثل العراقي
ولكن أسود الرافدين سيفعلوها كما في كل مرة .. سيحررون بلادهم من المقاول الرئيسي، أما المقاولين الثانويين، فسيطلقون سيقانهم للريح عندما يسمعون صوت الزئير ...
جاء أسود الرافدين .. والفرار دائماً في الممرات المشهورة في جبال زاغروس: ديزفول ـ الخفاجية ـ بايطاق ـ حلبجة ـ حاج عمران
تلك سيفعلها التاريخ مرة أخرى .. كالعادة
فيقول الناس كما درجوا عبر التاريخ:
حقاً يعيد التاريخ نفسه ....!