ياسين أحمد
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8448
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بسم الله الرحمن الرحيم
" من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً " 17 ـ الكهف ـ صدق الله العظيم
الفرس، وهم غالبية ليست ساحقة من الأثنيات التي تؤلف الشعب الإيراني، شعب قديم له تجاربه السياسية والعسكرية، في خوض النزالات على كافة الأصعدة، عبر التاريخ وبنتائج مختلفة. ولكن طالما ليست هناك قاعدة تكرس بصفة نهائية قوانين تخوض بموجبها الشعوب معاركها الكبرى والصغرى على أساسها، فالتاريخ مفتوح على نتائج متباينة، والنصر أو الهزيمة إنما هو تعبير عن محصلة قوى وعناصر ذاتية وموضوعية، داخلية وخارجية، وقد تحسن قيادة ما قراءة تداخل تلك العناصر، أو تسيء تقديرها، وبناء على هذه العوامل تدار الأزمات وصفحات السجال الاستراتيجي، الذي يستلزم في أولى شروطه تزويد صانعي القرار والعناصر المولجة بإدارة الأزمة بمعطيات دقيقة، من أجل نتائج دقيقة.
وتروج أفكار عن شدة بأس صناع القرار السياسي الإيراني وعناد الدوائر الحاكمة، والكثير من تلك الأفكار التي تفتقر إلى أدلة مادية ملموسة. ولكن من التجارب الحديثة في التاريخ السياسي الإيراني، الاحتلال البريطاني لإيران في الحرب العالمية الثانية 1942، وكذلك اجتياح الجيش السوفييتي لشمال إيران(أذربيجان)، وقد حدث ذلك في الحالتين دون أطلاق رصاصة واحدة. وكذلك أحداث تأميم النفط الإيراني في عهد د. محمد مصدق، وفرار الشاه محمد رضا بهلوي إلى العراق فأوربا، ومن ثم عودته لعرشه أثر انقلاب هزلي دبرته المخابرات الأمريكية CIA بقيادة العقيد زاهدي، عقب شرارة أطلقتها تظاهرة شهيرة بقيادة مدلك الحمامات الطهراني الشهير بشراسته.
ولكن الإيرانيون وهم من شعوب الشرق التي يعرف عنها الصبر، والقدرة على المناورة، وإبداء حسن الاستماع، والميل إلى تأجيل اتخاذ القرار، والعودة المتكررة إلى المراجع الحكومية، ولجوء المراجع إلى الاستماع إلى أراء الخبراء، وهكذا فإن المفاوضات مع الإيرانيين هي دوامة من الاستماع والمناقشات الاستيضاحية، والردود المرنة، والوصول إلى حافة الحسم، وبغتة التراجع إلى المربع الأول، وقد يتخلل ذلك تبديل في عناصر الوفد الإيراني المفاوض، وفي كل مرة يجري إيضاح مفردات العملية التفاوضية، بل وأسسها أيضاَ، فهم يطرحون ضمن سياق الموقف التفاوضي معطيات الأخوة والجيرة، أما إذا كانت تلك القواعد غير مفيدة لموقفهم التفاوضي، فسوف يتمسكون بقواعد القانون الدولي والمعطيات المادية المجردة. وهكذا حديث وحديث بلا نهاية، وكل فقرة تفرغ مناقشتها، تعود بعد عدة جلسات للمناقشة لأي سبب مهما بدا تافهاً. وليست هناك بديهيات، فلابد من أثبات كل شيء بالتفصيل الممل، والشك سيد الموقف دائماً، وبدلاً من القاعدة الفقهية (الشرعية والقانونية)التي تفترض البراءة في الأشياء أصلاً، فهم يفترضون العكس حتى يثبت الصحيح.
ويقف الإيرانيون اليوم أمام موقف دقيق، ووفق قراءة لمعطيات الموقف المحلي والقاري والدولي، فإن الوقت قد أزف لتنفيذ الفقرة الأعقد من برنامج الثورة. فالقيادة الإيرانية الحالية التي انحدرت من القيادة التي توصلت إلى سدة الحكم بعد الإطاحة بنظام الشاه الذي لم تعد له مبررات وجود، فكان لا بد من أجراء عملية جراحية لا تنطوي على العنف الدموي إلا بقدر ضئيل، والقبول بنظام الخميني الذي كان يضع تصدير الثورة في مقدمة جدول أعماله، والذي وصل إلى طهران بطائرة فرنسية خاصة تحف به طائرات حربية أمريكية رافقته من الأجواء التركية. والقيادة الإيرانية اليوم هي خلف تلك القيادة، التي استخلفتها أهداف الثورة أيضاً وفي المقدمة منها تصدير الثورة، بصرف النظر عن الشعارات والواجهات.
والسياسيون الإيرانيون براغماتيون(ذرائعيون)، وتلك حقيقة يلمسها بوضوح كل متابع لمسيرة الثورة منذ 1979 وحتى اليوم. ونظام الحكم الذي يعتمد نظام المرشد الأعلى للبلاد(وكيل الإمام المهدي/ ولاية الفقيه، كان الأمام الخميني المرشد الأول، واليوم خامنئي) فيما يعد رئيس الجمهورية موظف رفيع الدرجة يلي مرتبة المرشد في بروتوكول الدولة ويتقدم على رئيس الوزراء.
وبمعنى آخر، فأن كل من تولى منصب رئاسة الجمهورية: بني صدر / رجائي / خامنئي /رفسنجاني / خاتمي / أحمدي نجاد هم في الواقع اختيروا لهذا المنصب من قبل المرشد الأعلى، وما يقال من صفات كل واحد منهم، هي في الواقع بقدر ملائمته لمهمات وطبيعة المرحلة: بني صدر المثقف الليبرالي لمرحلة الثورة/ رجائي المقاتل لمرحلة الحرب/ خامنئي لمداواة جروح الحرب/ رفسنجاني ذو الأهواء الغربية / خاتمي لمجاراة مطالب الإصلاح الداخلية والخارجية.
أحمدي نجاد أبن الثورة الإسلامية والأجهزة الأستخبارية، سيكون رئيس لهذه المرحلة ... لماذا ؟
القيادة الإيرانية أشرت ظروف الوضع الداخلي:
ـ مرحلة طويلة من التفهم والتفاهم والعمل المشترك بين إيران والولايات المتحدة، أبرز منجزاتها هو الوضع الأفغاني ثم العراقي.
ـ حرب شاملة تشنها الولايات المتحدة تضعف من مواقع القوى العربية بصفة عامة، وحاجة الولايات المتحدة إلى حلفاء أقوياء في المنطقة وسط تراجع القدرات العربية، بما يمثل الفرصة الذهبية للعمل الإيراني في المنطقة اعتماداً على أجهزة الأمن بدرجة رئيسية.
ـ الوضع الاقتصادي الداخلي المتراجع في إيران برغم ارتفاع مداخيل النفط.
ـ رياح التغيير التي تعصف في كل مكان، سواء كمطلب خارجي يستغل للضغط، أو كاستحقاقات داخلية.
ـ نضج التطورات في المنطقة: العراق/ وجود عناصر تدين بالولاء لإيران، سورية/ التي تواجه تأزم داخلي وخارجي، لبنان، التداعيات المعروفة في الوضع الداخلي اللبناني سيما بعد اغتيال الحريري.
أنطوى برنامج التطوير الانتخابي لأحمدي نجاد على أهمية أحداث تحسين في حياة ومستوى معيشة الفئات الفقيرة في إيران. ولكن الفقرة التي لم ترد علناً في البرنامج الانتخابي كانت:
تحقيق تقدم في البرنامج النووي الإيراني، الأمر الذي سيكون له تأثيره الداخلي في إضافة القوة والهيبة على النظام الديني، يغطي بها إخفاقه في مجالات متعددة، مما يضمن صموده بوجه معارضيه، ومن جهة أخرى تحقيق نجاحات خارجية توسع من المجال الحيوي الإيراني وتنقله إلى أطراف بعيدة، وقد بدا الوضع السوري واللبناني خير مسرب للفعاليات الإيرانية السياسية والأستخبارية، ومثلت بذات الوقت أوراق مضافة لما هو موجود بين أيديها ومعترف بها، كورقتي الضغط: الأفغانية، حيث لا تحتمل الولايات المتحدة انتقال الهزارة الشيعة في أفغانستان إلى موقع المعارضة، ناهيك عن الانظمام إلى معسكر (الإرهاب). وكذلك الورقة العراقية التي نالت اعترافا علنياً بأهميتها بل ضرورتها للسياسة الأمريكية، والتي يمكنها أن تلحق ضرراً يصعب إصلاحه بالخطط الأمريكية حيال الشرق الأوسط.
ومن خلال عملية الجرد السريعة لمستودعات القدرة الإيرانية، أو للأوراق التي تتمتع بها القيادة الإيرانية أو المفاوض الإيراني، نجد أنها ليست بسيطة لو أحسن التعامل بها. وتشير التجارب التاريخية أن المفاوض الإيراني يتمتع بمزايا طيبة منها أنه يصعب التأثير عليه ويلتزم بموقفه ولا يحيد عنه قيد أنملة(وإن كان ذلك لا يعد محموداً في جميع الأحوال)، ولا يخلو من الدهاء، وهي جميعها صفات طيبة ولكن ...!
العقل السياسي الإيراني يعتقد أنه يحتكر الذكاء والدهاء، وأن العناد سيحمل الطرف الآخر على التنازل عن جزء من موقفه، ثم يبالغ الإيرانيون بقدراتهم، ويعتقدون أن الآخرين يفتقرون لمثلها. ثم أن الإيرانيون شديدوا الثقة بمراجعهم، وتلك من أصول العقائد الدينية التي تشترط الثقة المطلقة التي لا ينبغي أن يتسرب الشك إليها، وهي من أركان المذهب(عصمة الأئمة ووكيل الأمام الغائب)، ولكن التجربة تشير أيضاً أن الانهيار يكون شاملاً متى طرق الشك عقولهم.
ويخوض القائد السياسي الإيراني الأزمات والمعارك السياسية، بناء على قوانينه، وعلى قدر فهمه واستيعابه لها، ويستبعد أي تحويل في مجرى المساجلة الاستراتيجية قد تنطوي على تغير شامل لقواعد العملية. ومن الغريب أن القيادات السياسية الإيرانية تتعامل بذات القوانين التي تعامل بها القادة السياسيون والعسكريون الفرس عبر التاريخ.
ومن خلال دراستنا لمعارك الفرس (490 ق.م معركة مارثون / 480 ق.م معركة ترموبيلي مع اليونانيين / معركة كوكميلة 331 ق.م مع الأسكندر في سهل أربيل / معركة جالدران 1514 مع العثمانيين) في هذه المعارك جميعها أعتمد الفرس اعتمادا كلياً على التفوق العددي ويهملون سواها من أسباب الظفر(كما يعتمد الروس تاريخياً على القصف المدفعي التمهيدي). ومارسوا نفس الأسلوب في معاركهم مع العراق، بذات السياقات التكتيكية والاستراتيجية.
والسياسيون الإيرانيون اعتادوا حصد مكاسب سهلة بسبب مواقف براغماتية، أو التخلي عن التزامات قطعوها على أنفسهم، ومثل تلك مارستها القيادات الفارسية / الإيرانية عبر التاريخ أيضاً بسياقات متشابه. فهم حصلوا في مؤتمر برلين 1878 دون استحقاق على قضاء كوتور من الإمبراطورية العثمانية وكانت في ذروة أفولها. كما حصلوا على كرمنشاه وكانت تابعة لولاية العراق من العثمانيين في ضعفهم، وكذلك نالوا قضاء عبدان دون جهد، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم تمكنوا من انتزاع أذربيجان الجنوبية من قبضة السوفيت بفضل مساعي الغرب في الأمم المتحدة، واليوم يعيد التاريخ نفسه فتحصل إيران على مكاسب سياسية كبيرة جداً دون أطلاق رصاصة واحدة، بل بفضل مناورات من وراء الكواليس، واعتماد شعارات حرضوا شعبهم ضدها طويلاً(النضال ضد الشيطان الأكبر)، وتلك واحدة من أهم مزايا العقل السياسي الإيراني الذي يعتمد مذهب (التقية) أي التظاهر بعكس ما يبطن، ويفعل عكس ما يعتمد من منهج معلن.
وفي عام 1954 أظهرت حكومة د. محمد مصدق من القوة وشدة البأس أن أقدمت على تأميم النفط الإيراني، وفقد الشاه السيطرة على الدولة مما أضطره مغادرة البلاد إلى الخارج(إيطاليا) بصورة أقرب للفرار، ولاح للمراقبين آنذاك أن الموقف سيستقر على تلك الصورة لأمد غير معروف. وبدا أن حكومة د. مصدق قد تسيدت الشارع السياسي والبلاد بأسرها. ولكن المخابرات الأمريكية كانت قد أعدت نهاية دراماتيكية لنظام د. مصدق، عندما شهدت شوارع طهران تظاهرة شعبية عارمة نظمها شكلياً تجار البازار، وقادتها مجاميع من الشقاوات وعصابات السوق والمصارعين(الزورخانات) ومدلكي الحمامات الشعبية، فتخلت القوى المساندة لمصدق عن مواقفها وتبخرت الجماهير التي كانت تملأ الشوارع ضجيجاً وتأييداً لمصدق، الذي وجد أن أفضل ما يفعله هو أن يتوارى، فيتدخل في اللحظة الحاسمة ضابط مغمور برتبة عقيد ويدعى زاهدي ليقود انقلاباً عسكرياً يعود الشاه على أثره إلى عرشه عاصمته، ليبدي الولاء بلا حدود للولايات المتحدة.
وكاد أن يتكرر نفس المشهد بتفاصيله، عندما غادر الشاه البلاد تاركاً شخصية مرموقة في التاريخ الإيراني، بل هو أفضل شخصية سياسية في تاريخ إيران الحديث، د. شاهبور بختيار، على أن يعد هذا الأخير ترتيب المسرح السياسي الداخلي بإضافة مسحة ليبرالية والقضاء على الفساد ومحاسبة المقصرين، وليقوم الجيش بفرض النظام الذي سيحمل ملامح مقبولة. ولكن الولايات المتحدة كان لها قراءة مختلفة لمفردات الموقف تتعدى حدود إيران، إذ كانت الأزمة الأفغانية في ذروتها، وكان الأمريكان على استعداد لفعل أي شيء يعرض الوجود السوفيتي في أفغانستان للهزيمة، على أنها ستكون المقدمة لهزيمة الإمبراطورية السوفيتية(وكان حقاً كذلك)، ونظام الشاه المهترئ فساداً وهزالة، ينذر بسقوطه على أيدي راديكالية أبرزها: مجاهدي خلق وحزب تودة، والنقابات، وحركة تحرير إيران الليبرالية، وكان وجود أنظمة تناهض الإتحاد السوفيتي والشيوعية، هي أفضل من يؤدي في نهاية المطاف الخدمة للمصالح الأمريكية، إيرانياً ومحلياً ودولياً ...
إذن الملالي خير من يخدم السياسة الأمريكية ...!
وهكذا دارت دورة التاريخ.
كيف ستدير القيادة الإيرانية مسار الأزمة النووية ..؟ قلنا أن بحوزة القيادة الإيرانية، والمفاوض الإيراني، أوراقاً مهمة بشرط إتقان استخدامها. وذكرنا قي مبحث سابق أن أحد الطرفين سيرتكب الخطأ الذي يسهل اختراق صفوفه، وأن هذا الطرف هو الجانب الإيراني، بسبب آليات اتخاذ القرار السياسي التي تسمح بارتكاب الخطأ. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فأن أسلوب إدارة الأزمة لدى الإيرانيين لا تختلف كثيراً عن الأنماط السلوكية السياسية التي عرفوا بها، المبالغة في الثقة، والتوهم بالقدرة على خداع الآخرين، وإصدار القرارات دون خضوعها لعملية تدرج في إنضاج القرار، وهو أسلوب متقدم يعمل به على الأرجح صانعوا القرار في الدول المتقدمة والديمقراطية، حيث يساهم فيه العلماء في معاهد سياسية رفيعة المستوى الأكاديمي وبعيدة عن الضغوط الحكومية، ثم تزود تلك المعاهد الأجهزة الأستخبارية صناع القرار بمعلومات دقيقة مجرد، وقد ترتكب خطاً وستكون تكاليفه باهضة، وهناك آليات لإصلاح الخطأ في حال العثور عليه. وربما يصبح أصلاح الخطأ ينطوي على مجازفة تترد القيادات السياسية حتى في الدول الديمقراطية الأقدام عليه.
وفي تقديرنا فأن القيادة الإيرانية سترتكب خطأً ما في فقرة ما، في مرحلة ما، وقد يكون هذا الخطأ جسيماً يصعب إصلاحه، والخطأ سيكون على الأرجح نتيجة لقراءة خاطئة، أما في مبالغة في تقدير قواهم الذاتية، أو مبالغة في استصغار شأن خصومهم، أو التصور بأن الخصم يمارس الخدعة Bluff. فمن الصحيح التصور بأنهم في موقف قوي في العراق وأنهم يحرجون الإدارة الأمريكية هناك، بل ربما يصيبونهم بالشلل. ولكن قد يفوتهم أن صفوفهم هناك قابلة للاختراق ما لم تكن مخترقة منذ الآن ..! ويتصورون أن حزب الله يفرض موقفاً في جنوب لبنان يحرج إسرائيل، ولكنهم يستبعدون أن صفقة تعقد أو صدمة في سورية تفسد هذه التوازنات الهشة أصلاً، كما أنهم يستصغرون قوى المعارضة الداخلية وهي ليس بسيطة في تقديرنا، والقوى البسيطة لن تبقى بسيطة إن تلقت دعماً مهماً، أليس في المعارضة العراقية العميلة عبرة لمن يريد أن يعتبر..؟
أليس من قبيل المبالغة الاعتقاد بأنهم سيلحقون الخراب بالاقتصاد العالمي بقطع أو بتقليص ضخ النفط ..؟ أليس تطرفاً الحديث عن حرب اقتصادية ضد الغرب ..؟
أو قد يقف الحظ إلى جانبهم ويخطأ سائر اللاعبين في المنطقة، أو في هذا المسار التاريخي الذي سيطبع بمؤثراته مسار الأحداث في الشرق الأوسط ..!
نعم، الأوربيون فاقدون للإرادة السياسية الموحدة، ولكن ليس من الحكمة الاستهانة بدول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا، فهذه دول استعمارية قديمة تهوى ألعاب الهيمنة ولديها حنين مرضي Nostalgie لممارستها، وإن كشرت عن أنيابها، فقد لا تفعل أو تعني ذلك للاستعراض.
ثم، إلى أي مدى يمكن الوثوق بالروس والصينيين ..؟
في بلدان الغرب تتخذ القرارات السياسي في سياق عملية طويل جداً، وربما يلوح للبعض أن الإدارات قد تخلت عنها، ولكن العملية قد تستغرق سنوات وسنوات طويلة، والقرارات السريعة المرتجلة تبدو فجة وتنطوي على المجازفة. وما زال ماثلاً أمامنا تهور الإدارتين البريطانية والفرنسية في اتخاذ قرار الهجوم الثلاثي على مصر 1956 وكيف أنها أطاحت بالمستقبل السياسي لأثنين من ألمع الساسة البريطاني(أنطوني إيدن) والفرنسي (جي موليه)، والعملية واجهت إدانة واسعة النطاق حتى في العالم الغربي، لأنها طبخت على عجل تلبية لمقتضيات آنية سريعة(تأميم القناة وتفاعلات حرب التحرير الجزائرية).
من يتخذ القرار السياسي في طهران ...؟
من المشكوك به أن يتمكن سياسي إيراني من مخالفة رأي مرشد الجمهورية (خامنئي)، بما في ذلك الرئيس أحمدي نجاد، فآية الله العظمى خامنئي يمثل وكيل الإمام الحجة المعصوم، وإيران تعمل بمبدأ ولاية الفقيه. فالعملية تبدو بشكلها المبسط، تقديم المعطيات والأسانيد للإمام المرشد، ولا بد أن تكون دقيقة جداً، وأن يقيم الإمام المرشد عملية السجال وهي لا تخلو بدورها من التعقيد، لا علاقة لها في الغالب بالأدلة الدينية، بل هي سياسية/ اقتصادية / استراتيجية متداخلة بصورة يصعب فرزها. وإذا كانت الدول المتقدمة تتأنى في إصدار القرار السياسي، ذلك أن تعقيدات العملية تستحق هذا العناء والدقة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن عملية التأني تستهدف أيضاً إنضاج وعي الشعب لتلقي القرار وتبعاته، ومن نافلة القول أن لا ينبغي الاعتماد على الفورات الحماسية لدى الجماهير، فالفورات السريعة يعقبها خمود سريع لها، والقرارات الحصيفة تبتعد عن مثل هذا المناخ الذي لا يساهم في اتخاذ قرارات عقلانية لا تستند إلى أحكام الهوى.
والمشاهد لمناظر الهيجان الشعبي في تظاهرات طهران، له الحق أن يعتقد: أن القادة والجماهير إنما يرزحان تحت ثقل هائل من العواطف، لا شك أنها ستكون مؤثرة بشكل فعال على صانعي القرار والجماهير معاً. ولكن صخب الجماهير الشعبية لا يدل حتماً على صواب القرارات، نعم ( الشعب لا يفسد أبداً ... ولكنه كثيراً ما يخدع ـ جان جاك روسو )، نعم إن التفاف الشعب حول قيادته تمثل علامة طيبة، ولكن ما هي وسائل قياس ذلك ..؟ أو لم نشهد تجارب كان التأييد فيها جارفاً للقيادات، ولكن نتيجة المنازلة السياسية والعسكرية كانت كارثية، وأمامنا تجربة القيادة الأرجنتينية حيال أزمة فوكلاند 1982، خير مثال حيادي على ذلك.
وينطوي الموقف السياسي ومفرداته في سوريا ولبنان على قنابل موقوتة عديدة، بما لا يصح اعتبارها نقاط ارتكاز، وكان على القيادة الإيرانية أدراك أن عملية أخراج القوات السورية من لبنان تمت بسهولة وسلاسة فاقت التقديرات، والمبالغة بمتانة صفوف حزب الله في لبنان، لا ينبغي اعتبارها الأساس الوحيد الذي يمثل قاعدة انطلاق لفعاليات لاحقة. ألم تكن الغالبية المطلقة في جيش لبنان الجنوبي العميل لإسرائيل تتألف من عناصر لبنانية جنوبية (مسلمة) شيعية ...؟
قادة الفرس اليوم يعملون (بالتقية) وهذا يمنحهم مساحة عمل واسعة، وهي ترجمة لقاعدة: أفعل ما تشاء خارج القواعد والأخلاق.
أن الوضع الداخلي الإيراني، والتيارات التي تكتنف القيادات الدينية، ستحاول أجراء تصحيح على مسار الأحداث، وسيرحب الغرب بأي محاولة تصحيح، وسيدرك الإيرانيون أن تنفيذ برامج كبيرة وطموحة، تصطدم بإرادة أطراف أخرى، وتأجيل هذا الطموح خير من نحره وانهياره الكامل، في ظل قاعدة رئيسية:
الغرب والولايات المتحدة الأمريكية غير متناقضة من نظام الملالي، بل لا يوجد سبب واحد لذلك، وعلى العكس، فالنظام في إيران قدم لهم خدمات (جليلة) ولا يزال، وإلى مستقبل غير منظور فلماذا دق الأجراس وقرع الطبول.
ربما ستكون هناك جعجعة، ولكن ضمن السيناريو.. وابشروا فهي جعجعة ولكن لا طحين ولا من يحزنون