د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9564
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
"مايكل بيرليج " مسئول بريطانى وعضو فى لجان ما يسميه الغرب " بمكافحة الإرهاب" . جلس يتحدث مع كبار مسئولى البنتاجون وآخرون غيرهم من الغارقين فى قضايا محاربة الجهاديين الإسلاميين.
لاحظ المسئول البريطانى أن الجدية الفكرية والسياق العالمى الذى يتحرك عبره التفكير الأمريكى يختلف اختلافا لافتا للنظر عن هذا الذي ينطلق منه المسئولون البريطانيون، فالأخيرون مشغولون بهاجس " تماسك المجتمع البريطانى " وما يسمى بتطرف الشباب المسلم ".
تابع " بيرليج" جلسة استماع لجنة الأمن القومى فى مجلس الشيوخ الأمريكى حول احتمالية قيام هؤلاء الجهاديين بهجوم نووى على واشنطن العاصمة. السيناريو كما تخيله السناتور " جو ليبرمان" وكما قال بنفسه " يصعب مناقشته ويصعب توقعه ، وهو على المستوى العاطفى درامى ومقلق" . تساءل "بيرليج": " ماهذا الذى يتحدث عنه " ليبرمان" ؟ قنبلة تزن ألف طن محمولة فى شاحنة عند البيت الأبيض ...يمكن أن تقتل مائة ألف شخص وتمحى من الوجود العديد من المبانى الفيدرالية على امتداد ميلين . معظم الضحايا سيحترقون وغالبيتهم من الأمريكيين الأفارقة الذين يعملون لصالح الحكومة الفيدرالية. خمس وتسعون فى المائة من الضحايا سيموتون بعد عذاب ومعاناة ، ذلك لأن القدرة الحالية لعلاج هذه الحالات محدودة ولا تكفى إلا ألف وخمسمائة شخص. ولأن الرياح تهب من الغرب إلى الشرق فإن الإشعاع الناتج عن التفجير سيصل إلى مناطق السود الفقراء فى العاصمة حيث لا يوجد هناك غير مستشفى واحد".
يقول " ليبرمان" : لقد حان الوقت لنقاش صعب ، فلنسأل أسئلة غير عادية ونبذل قصارى جهدنا للإجابة عنها". يقول " بيرليج" تعليقا على سيناريو" ليبرمان" :" إنى لأتعجب ، وأتساءل فى نفس الوقت : ماهى الاستعدادات التى أعدتها بريطانيا لهذا الكابوس الأسود ؟ هل يسأل البرلمانيون البريطانيون مثل هذه الأسئلة وهل هم قادرون على مناقشة مثل هذا السيناريو؟ . برر " بيرليج" هذه النظرة الأمريكية للأمور بأن الولايات المتحدة تخشى عنف الجهاديين.ولهذا تضع تصورا واقعيا للتهديد الذى يمكن أن تواجهه. كما تضع استراتيجيات متعددة للتعامل مع الحدث.
" دافيد كيلكولن" رائد استراتيجى استرالي ألحق للعمل مع الخارجية الأمريكية. كان أول من استخدم مصطلح " التمرد الجهادى العالمى" ، وقد راق هذا المصطلح لـ " بيرليج" ورآه البديل لمصطلح "الحرب على الإرهاب" والأكثر صلاحية فى نظره للإستخدام فى الحالة البريطانية.فقد اعتقل البريطانيون فى عام 2007 مائة وثلاثة ممن يشتبه فيهم بأنهم " إرهابيون". وعلى امتداد أوربا لا يزيد عددهم عن مائتى وواحد.
أثنى " بيرليج" على إسهامات المخابرات الأوربية فى الحد من نشاط الجماعات الجهادية . ورأى أن كل دولة قدمت للأخرى خبراتها فى هذا الميدان . المخابرات الألمانية على سبيل المثال لديها باع طويل فى متابعة أعمال الجهاديين على شبكة الإنترنت وغرف الشات ، بينما نجح الفرنسيون فى متابعة أنشطتهم فى المساجد ولعل هذا هو السبب فى اختيار "باريس" لتكون موقع قيادة وحدات مكافحة الإرهاب التابعة للمخابرات الأوربية والموساد الإسرائيلية. ولم يمنع هذا الأمر من أن تواصل فرنسا جهودها الدبلوماسية فى الشرق الأوسط.
على النقيض من خط الولايات المتحدة فى مواجهة ماتسميه بخطر الجماعات الجهادبة التى تحمل السلاح والفكر معا، عرض " بيرليج" لما يمكن أن يكون بمثابة نظرية لهزيمة الجهاديين. وحدد بعض أبعاد هذه النظرية على النحو التالي:
أولا: نظرية هندسة الفوضى
ينصح المحللون من رجال المخابرات وغيرهم من الذين كرسوا أنفسهم لمحاربة هذه الجماعات بالتعامل مع كبرى الجماعات الجهادية بنفس الطريقة التى تدمر بها الشركات العملاقة فى سوق الصناعة .
وعلى هذا على رجال المخابرات أن يذهبوا بأكبر هذه الجماعات بوصفها ملهمة للجهاديين عبر العالم إلى نفس طريق شركة فورد التى وصمت بسوء السمعة فى سوق السيارات ، والعمل على تقوية شركات أخرى كشركة أودى وكوكاكولا أو نايك .
وبمعنى آخر تصوير " هذه الجماعة الملهمة " على أنها " مهندس الفوضى" ، وهو المصطلح الذى استخدمه الجنرال البريطانى " جريم لامب" . يقول " مايكل دوران" مساعد وزير الدفاع ورئيس شعبة مكافحة الإرهاب فى البنتاجون " إن هذه الجماعة لا تبنى ، إنها تدمر فقط ". الذى يهدف إليه " دوران" ومحللى المخابرات من هذا كله هو بذر الشكوك فى عقول المسلمين ، حول الجهاديين ووصفهم بأهم نرجسيون أشرارا. لكن " دوران" يعترف بأنه على الرغم من نجاح هذا التكتيك وظهور دلالات على خفة حدة التأييد الشعبى للجهاديين فى بعض المناطق كالحال فى جنوب شرق آسيا، فإن هذه التنظيمات الجهادية مطاطية بمعنى أنها تستعيد حيويتها فى مناطق أخرى.
ثانيا: القضاء على التصور الأخلاقى الراقى للجهاديين فى أعين المسلمين
الغرب فى نظر المسلمين فى حالة انحطاط أخلاقى وعملاؤه فى بلادهم فاسدون كذلك . هذا التصور المتدني للغرب فى نظر المسلمين لا بد من مواجهته بتصور آخر يفسد هذه الصورة المشرفة النبيلة للجهاديين فى أعين المسلمين . ولهذا يستلزم الأمر بذل جهود كبيرة لإلصاق الفساد بهم وربطهم بجرائم التزييف والسرقة والدجل وتجارة المخدرات ...الخ. ويلوم " بيرلج" الحكومة البريطانية لأنها لازالت لا تبذل جهودا لتخريب صورة الجهاديين فى أعين هؤلاء الذين انجذبوا إلى كبرى الجماعات الجهادية.
ثالثا: اختراق الجماعات الجهادية
تعتبر أحد أكبر جهود الولايات المتحدة فاعلية فى تدمير الجماعات الجهادية هو اختراقها. من المعروف أن هذه الجماعات تتكون من جهاديين ينتمون إلى عرقيات مختلفة ، وهذا من أكبرنقاط الضعف فى هذه الجماعات. أدى استجواب رجال المخابرات للجهاديين المحتجزين إلى الوقوف على تفاصيل دقيقة عن الإختلاف بين العرب والعرقيات الأخرى من الشيشان والأوزبك ، وما يسمونه بمحاولة العرب السيادة فوق هذه العرقيات ، وما يتصورون أنه احتقار العرب لهم. كما كشفت عمليات الاستجواب هذه عن محاولة قيادة الجماعات القضاء على الخلافات بين الجهاديين الجزائريين والليبيين وتأسيس مغرب موحد.
يرى رجال المخابرات أنه يمكن الإستفادة من هذه الخلافات وهذه الجهود فى ضرب هذه الجماعات فيمكن – على سبيل المثال- استثمار انشقاق الجهاديين الجزائريين حول أولويات الجهاد كمحاربة النظام الحاكم أو تنفيذ أجندة الجماعات الجهادية أو استهداف الولايات المتحدة التى وضعت فى الجزائر اضخم قاعدة مخابرات لها ، فى تشتيت هؤلاء الجهاديين وصرفهم عن القيام بعمليات ضد مصالح الغرب فى المنطقة . ويرى " بيرليج" أن الجهود التى قامت بها مؤسسة " كويليام" فى الاستفادة من الجهاديين السابقين فى منع ماتسميه بتطرف الشباب البريطانى الذى ترجع جذورهم إلى باكستان وبنجالاديش هى نموذج متواضع يعكس نجاح هذه الاستراتيجية.
رابعا: التركيز على تقديم مساعدات إيجابية للمسلمين
المعاناة التى يعيش فيها الشباب فى البلاد الإسلامية هى أحد أكبر الأسباب التى تقودهم إلى الإنضمام إلى الجماعات الجهادية ، ولهذا يجب أن يقدم الغرب لهؤلاء الشباب مساعدات إيجابية ملموسة. مثال ذلك إمداد المناطق الفقيرة بالمياه العذبة وتقديم الإغاثة لهم فى أوقات الكوارث الطبيعية كالزلازل والفياضات كما حدث فى أيام إعصار تسونامى. لكن الربط بين هذه المساعدات وإعادة تأهيل الجهاديين التائبين واستخدام القوة مع هذه الجماعات أمر ضرورى . ولعل تجربة جنوب شرق آسيا فى هذا المجال دليل على نجاح هذه الإستراتيجية. ويرى " بيرليج " أن رسالة إيجابية يقدمها الغرب للشباب المسلم هى أكثر أهمية من جهوده فى نشر الديموقراطية فى بلادهم.
خامسا: إستخدام القوة العسكرية والبوليسية
يرى " بيرليج" أن استخدام القوة العسكرية والعمل البوليسى مع الجماعات الجهادية أمر لا غنى فى هزيمة هذه الجماعات . كما أن القبض على قياداتهم وقتلهم أمر ضرورى وهو بمثابة سد أوحاجز للأمواج المتدفقة من هذه الجماعات.
سادسا: تأسيس جماعات سنية مناهضة للحركات الجهادية
نجحت الولايات المتحدة فى هذه الإستراتيجية حينما أسست مجالس الصحوة العراقية. وهى جماعات سنية تناوئ الحركات الجهادية السنية. وهى قد لا تميل إلى تأييد الإحتلال لكنها لا تريد سيادة الجهاديين فى مناطقهم .
سابعا: تدعيم الأصوات الليبرالية فى البلاد الإسلامية
يرى " بيرليج" أن أى جهد تبذله الأصوات الليبرالية فى البلاد الإسلامية يجب تدعيمه وتشجيعه خاصة فى بلاد مثل أندونيسيا وتركيا التى ترفض الأفكار القادمة إليها من الخليج العربى. ويضرب " بيرليج " مثالا بجهود وزارة الأديان فى تركيا التى تحركت بجرأة من أجل تطويع أحاديث النبى محمد صلى الله عليه وسلم التى يعتمد عليها المسلمون بصفة أساسية مع واقع القرن الحادى والعشرين.
يقول المفكرون الإسلاميون :" ما يحجم ذو عقيدة في اللّه عن النفرة للجهاد في سبيله , إلا وفي هذه العقيدة دخل أى عيب وريبة وفي إيمان صاحبها بها وهن أى ضعف . لذلك يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم - " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق " . فالنفاق - وهو دخل في العقيدة يعوقها عن الصحة والكمال - هو الذي يقعد بمن يزعم أنه على عقيدة عن الجهاد في سبيل اللّه خشية الموت أو الفقر , والآجال بيد اللّه , والرزق من عند اللّه . وما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل" .
وهذه النظرية التى عرضناها للمسئول البريطانى ما هى إلا محاولة لاستقراء المنظوروالمنهج الذى يفكر به الغربيون ويعملون على أساسه فى محاربة الجهاد والجهاديين .
انظر:
Michael Burleigh, how defeat global jihadists, Standpoint online, June 2008.
------------------------
د - أحمد إبراهيم خضر
دكتوراة فى علم الإجتماع العسكرى
الأستاذ المشارك بجامعات القاهرة، والأزهر، وأم درمان الإسلامية، والملك عبد العزيز سابقا