د- أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11665
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
أوضحنا في مقالَيْنِ سابقَيْنِ، أنَّ عودة آلاف الجنود إلى الولايات المتحدة، بعد اشتراكهم في الحرب في العراق وأفغانستان - قدْ كشفتْ عَنْ حَجْمِ الأعباء الاجتماعية للحرب التي بدأتْ ملامحُها في الظُّهور. كما ألقتْ أحدثُ تقاريرِ الحربِ الضَّوْءَ على انهيار الصحة البدنية و العقلية للجنود العائدِيْنَ، و ازديادِ معدلات الانتحار بينهم، و معاناتِهم مِنَ التشرد و إدمانِ المُخَدِّرات، و الاعتقالِ بسبب جرائمَ مدنيةٍ ارتكبوها، و ما ارتبط بذلك مِنَ النقص الحادِّ في حجم المساعدات المالية والطبية
التي يحتاجونها، و حالة الفقر المُدْقِع الذي يُعَانون منه.
جيش أمريكا العظيم فَقَدَ أربعة آلافِ قتيلٍ في العراق و أُصِيْبَ منه أكثر مِنْ ستين ألفَ جنديٍّ في العراق و أفغانستان، منذ عام 2001م ! و الجديد هنا هو أنَّ التقدُّم الطبيّ و التكنولوجيا الحديثة، ساهَمَتَا في بقاء آلافِ الجنودِ أحياءَ في هذه الحرب الحالية، أكثر مِنْ أيِّ حربٍ مَضَتْ في التاريخ الحديث، و لكنها حياة ارتبطتْ بإصاباتٍ بدنية و دماغية، لا يمكنُ علاجُها؛ فحينما يعود هؤلاء الجنودُ إلى بلادهم، يواجهون صعوباتٍ عدَّةً؛ منها انتظارُ دَوْرِهم في العلاج الطبيّ، و هو علاجٌ يحتاج إلى انتظارٍ طويلٍ، بالإضافة إلى أنه علاجٌ غيرُ منظَّمٍ و مُزْدَحِمٍ، و غيرُ مُمَوَّلٍ ماليًّا؛ ممَّا يؤدِّي بالجنود العائدين إلى حالةٍ مِنَ البؤس الاجتماعيِّ الشديد.
تشهد إحصائيات الهيئات المَعْنِيَّة بهؤلاء الجنود، أنَّ هناك 264000 مُقَاتِلٍ عائدٍ مِنَ الحرب - عُوْلِجُوا في العيادات و المستشفيات - رفعوا دَعَاوَى قضائية ضدَّ الهيئات التابعين لها؛ بسبب معاناتهم هذه. و مِنَ المتوقع في عام 2008 أنْ يُعَالَجَ 300000 جنديٍّ عائدٍ مِنَ العراق و أفغانستان، و تُقَدِّرُ الحكومة الأمريكية تكاليفَ علاجِهم بـ 650 بليون دولار، كما أنَّ التقديراتِ المحافظة للجيش الأمريكيّ، تُشير إلى انتشار ما تُسَمِّيه بـ " وباء المرض العقليّ " بين الجنود العائدين، و تشهد الإحصائيات كذلك، أنَّ 38 % مِنْ جنود الجيش، و نصف الحرس الوطنيّ العائدين، يُعَانون مِنَ اضطراباتٍ عقلية و نفسية.
و تُعْتَبَرُ الإصاباتُ الدماغية، أكثرَ الإصابات الشائعة بين الجنود العائِدِيْن، و هي إصاباتٌ يَصْعُبُ تشخيصُها، كما يصعب علاجُها، و تتراوح أعراضُها مِنْ سرعة الغضب، إلى الإحساس بالدوار الكامل، و تصل إلى حالةِ نسيانِ طريقةِ المشيِّ و كيفيةِ الكلام، و تسوءُ الحالةُ عَبْرَ الزمن. و طبقًا لتقاريرِ مركزِ علاجِ الإصاباتِ الدماغيةِ للجنود العائدين، هناك أكثرُ مِنْ 4200 جنديٍّ عائدٍ دخلوا المستشفياتِ العسكريةَ هذا العام، و يعتقد الأطباء أنَّ هناك عدةَ آلافٍ أخرى مِنَ الجنود، يعانون مِنْ هذه الإصاباتِ، لكنهم غيرُ مُسَجَّلِيْن، و أنَّ واحدًا مِنْ كلِّ خمسةِ جنودٍ عائدين، يُعَانون مِنْ هذه الإصاباتِ الدماغية، و التي يعودُ أغلبُها إلى اقترابِهم مِنَ المتفجرات، التي تُزْرَعُ على جانبَيِ الطريق.
و تُشير التَّقاريرُ كذلك، إلى أنَّ الطبيعة القاسية للحرب؛ أدَّتْ إلى إصابةِ نسبةٍ عاليةٍ مِنَ الجنودِ باضطراباتِ ما بعد ضغوطِ الصدمة، و أوضحتُ مُسُوْحُ هيئةِ " والتر ريد " أنَّ هذا النوع مِنَ الإصابات، قد لَحَقَ بما يَقْرُب مِنْ 22000 جنديٍّ عائدٍ، أنَّ أربعةً مِنْ كلِّ خمسةِ جنودٍ، إمَّا صدرتْ لهمُ الأوامرُ باستخدام سلاحهم للقتل، أو شاهدوا أحدًا قد قَتَلَ أو جَرَحَ. و ترتفع ذه النِّسبُ سواءً بين جنودِ الخدمة الفعلية، أو جنودِ الاحتياطِ الذين خدموا في العراق و أفغانستان. كما تضاعفت حالاتُ الاكتئاب الحادِّ، أما حالاتُ الصِّراعِ مع العائلة و الأصدقاء، فقدْ ارتفعتْ مِنْ 3.5 % إلى 14% عند أفراد الخدمة الفعلية، و مِنْ 4% إلى 21% عند جنودِ الاحتياطِ العائدين مِنَ الحرب. و ترى هيئة " والتر ريد " أنَّ التقديراتِ المُشَارَ إليها، قد تكون غيرَ دقيقةٍ؛ بمعنى أنها قد تكونُ أعلى ممَّا هي عليه؛ بسببِ النقصِ في الإمكانيات، و عدمِ توافُرِ العدد الكافي مِنَ الأطباء المُعَالِجِيْن.
و أشار مكتب الإحصاء الحكوميِّ، إلى أنَّ نصفَ ما يُعْرَفُ بالوحدات القتالية الانتقالية، لديها قصورٌ شديدٌ في الهيئ&;#1577; الطبية، تزيد نسبتُهُ عَنْ 50%، كما أنَّ أعدادًا كبيرة مِنَ الجنود، تحمَّلُوا - هم و أُسَرُهم - أعباءَ العلاج الطبيّ؛ بسبب عَجْز الجيشِ عَنْ ذلك. غالبية أفراد جيش أمريكا العظيم، ينتمي إلى بيئاتٍ فقيرةٍ اقتصاديًا، و مَنْ رجع منهم إلى هذه البيئة، بعد خدمتِهِ القتالية؛ رجع بأمراضٍ بدنية و نفسية. يقول أحد تقاريرِ " هيئة التَّحالُف الوطنيّ للقضاء على التَّشرُّد " : " إنَّ آلافَ الجنودِ العائدين مِنَ العراق و أفغانستان، دخلوا في نطاق الملايين الأمريكيين الذين يعيشون بلا مَأْوى؛ ففي عام 2006 م، كان هناك 194254 جنديًا عائدًا بلا مأوى ، يعيشون في الشوارع ، و في عام 2007 م ، قَدَّرَتْ إدارة الجنود المُسَرَّحِيْنَ، أنَّ واحدًا مِنْ كلِّ ثلاثةِ مُشَرَّدِيْنَ ، هو مِنَ الجنود العائدين مِنَ الحرب؛ هنا تقدِّمُ الحكومة 15 ألف مأوى ، أما التنظيمات غير الربحية ، فقد قدمتْ ثمانية آلاف ؛ هذا يعني أنَّ آلافًا أخرى مِنَ العائدين، على حافَّةِ التَّشرُّد؛ بسبب الفقر، و الافتقادِ إلى الدَّعْمِ الأُسَرِيّ ، و الأصدقاء، و يعيشون في ظروفٍ سيئةٍ، و منازلَ رخيصةٍ و دون المستوى . إنَّ الجنود الشبان الذين يلتحقون بالجيش، في سِنِّ السابعة عشرة و الثامنة عشرة؛ رغبةً في تحسين ظروفهمُ الاقتصادية و المعيشية السيئة - يخرجون مِنَ الجيش فيجدون أنفسَهم في نفس هذه الظروف، إنْ لم يكن أسوأ ".
أما إحصائيَّاتُ وزارة العدل، فتبيِّنُ أنَّ 12% مِنْ مجموع 7 ملايينَ سجينٍ، كانوا قد خدموا في الجيش، و أنَّ أربعةً مِنْ كلِّ خمسةِ مساجينَ مُسَرَّحِيْنَ مِنَ الخدمة، هم مِنَ المُدْمِنِيْنَ على المخدِّرات، و أنَّ ربع المُعْتَقَلِيْنَ في السجون، هم مِنَ المشرَّدين لمدة عامٍ على الأقلِّ، قبل دخولهمُ السجن، أو مِنَ المُصَنَّفِيْنَ على أنهم مرضى عقليين.
هناك نصفُ مَليون عائدٍ مِنَ الحرب يعيشون بلا مأوى، هناك 467877 مِنَ العائدين، غيرُ قادرين على دَفْعِ إيجاراتِ المنازلِ التي يسكنونها، و يدفعون أكثرَ مِنْ نصفِ دخولِهم؛ إيجارًا لهذه المساكن؛ و هذا يعني أنهم على حافَّةِ التشرُّد، و أنَّ أكثر مِنْ نصف العائدين مِنَ الحرب تحت خَطِّ الفقر؛ فهناك 43% مِنَ العائدين يحصلون على تذاكر طعامٍ مِنَ الحكومة.
إنَّ مشاكل الجنود العائدين مِنْ حرب جيش أمريكا العظيم، في العراق و أفغانستان - لا تقفُ عند حدود الاضطرابات العقلية التي يعانون منها، و محاولةِ إعادةِ تَكَيُّفِهم مع مجتمعاتهم مرةً أخرى، فهناك مشكلةٌ كبرى أخرى تواجههم، إنها مشكلةُ إعادةِ تعبئتِهم مرةً أخرى للقتال، رَغْمَ ما يُعَانون منه مِنْ هذه الاضطرابات.
لم تَعُدِ الحربُ تَحْظَى بشعبيَّةٍ بين الشباب الأمريكيّ؛ لهذا فإنَّ الجيش لم يَعُدْ يتمسكُ بمستوياتٍ صارمة، لا بُدَّ أنْ تتوفرَ فيمَنْ يريدُ الالتحاق به؛ حيثُ سمح الجيش للأفراد الذين يعانون مِنْ بعض الاضطرابات النفسية و العقلية، و حتى مِنْ ذوي التاريخ الإجراميّ بالالتحاق به، و انتهك الجيش و الحرس الوطنيّ معاييرَ التجنيدِ بوضوحٍ، حينما سَمَحَا لهذه الفئةِ مِنَ الشباب بالالتحاق بهما، إذا ثبت لهما أنَّ حالة هذا الشباب، كانتْ مستقرةً قبلَ ثلاثةِ أشهرٍ مِنَ التجنيد.
و عَمَدَ البنتاجون إلى إطالة فترة الخدمة في الميدان، فلم يَعُدْ يسمح بالتسريح مِنَ الخدمة بسهولة؛ الأمر الذي جعل الجيش يُعَاني مِنْ عدم الإقبال على التجنيد و هذا يُمَثِّلُ عائقًا في وجهِ الإدارة الأمريكية، إذا ما حاولتْ توسيع نطاقِ عملياتِها العسكرية في مناطقَ أخرى مِنَ العالم. هذا هو جيش أمريكا العظيم الذي يُقَاتِلُ في العراق و أفغانستان، كما وَصَفَتْهُ "ناعومي سبنسر" في مقالتِها، عمَّا أَسْمَتْهُ " بالكارثة الاجتماعية للجنود المُسَرَّحِيْنَ مِنَ الخدمة القتالية ". و لعلَّ أبلغَ التعبيرات عَنْ حالة هذا الجيش العظيم - جاء على لسان والدة الجنديّ " داميان فيرانديز " الذي قالتِ عنه أمُّهُ: " إنَّ عمره لا يزيد عَنْ خمسةٍ و عشرين عامًا، و يُعاني مِنِ اضطرابٍ عقليٍّ، تزيدُ نسبتُهُ عَنْ 70% " . قال " فيرانديز " لأمِّهِ: "أعيشُ في العام ثلاثمائة و خمسةً و ستين يومًا، تحت وَطْأَةِ القنابل و الألغام الأرضية في الشوارع، أشاهدُ زملائي يُقْتَلُون، كلَّ يومٍ أعيشُ في قلقٍ أكثرَ و أكثر، إني أُفَضِّلُ أنْ أقتلَ نَفْسِي، و لا أعودُ مرةً أخرى إلى الحرب ".
أمَّا الجنديّ " مايكل دي فلايجر"، و الذي جاءتْهُ الأوامرُ مِنْ قيادته، بالعودة إلى وحدته، بعد يومٍ واحدٍ مِنْ خروجه مِنَ المستشفى العسكريّ، حيث كان يتلقَّى العلاج مِنْ أزمةِ اضطرابٍ حادةٍ كان يُعاني منها - فقد قال لأمِّهِ: " يا أمي، إني ذاهبٌ لأموتَ، أنا لنْ أعودَ مرةً أخرى حيًّا، أنا أشعرُ بالموت، أَحْلُمُ به دائمًا ".
هؤلاءِ هم جنودُ جيشِ أمريكا العظيم، فيهم مِنْ سِمَاتِ المنافقين الذين يَتَفَوَّهُون بالإسلام الكثير، "وَ إِذَاْ رَأَيْتَهُمْ تعجبك أجسامهم، وَ إنْ يَقُوْلُوْا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ، كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَّنَدَةٌ، يَحْسَبُوْنَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ " ( المُنَافِقُون 4) . جيش أمريكا العظيم، نرى فيه قوله تعالى:" و ظَنُّوْا أَنَّهُم مَّاْنِعَتُهُمْ حُصُوْنُهُم مِّنَ اللهِ؛ فَأَتَاْهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوْا، وَ قَذَفَ فِيْ قُلُوْبِهِمُ الرُّعْبَ، يُخْرِبُوْنَ بُيُوْتَهُمْ بِأَيْدِيْهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِيْنَ " ( الحَشْرُ 2) ، " لاَ يُقَاْتُلُوْنَكُمْ جَمِيْعًا إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِِ جُدُرِ" (الحَشْرُ 14) . إذا خرجوا مِنْ هذه الجُدُر، و معهم أحدثُ التكنولوجيا ، يحملونها على ظهورهم ؛ تَلَقَّفَهُمُ الموتُ بالقنابل و الألغام المزروعة على جانبي الطريق، و إذا احْتَمَوْا بهذه الجُدُر المُحَصَّنة، و المُزَوَّدَة بأحدثِ التكنولوجيا ؛ نجوا من الموت السريع، هنا يأتيهمُ الله بالموت البطيء مِنْ حيث لم يحتسبوا، و إنْ لم يموتوا انتحروا.
فعَلامَ الدَّنِيَّة في ديننا إذًا ؟! و هذه هي حقيقة العدوِّ و جيشه العظيم !!!
---------------------------
الدكتور أحمد إبراهيم خضر
دكتوراه فى علم الإجتماع العسكرى
عضو هيئة التدريس السَّابق بجامعات القاهرة ،و الأزهر ، و أمِّ درمان الإسلامية ، و جامعة الملك عبد العزيز
29-05-2009 / 15:37:41 فريد