مباحث في اللغة والأدب/34
الحجاج رجل الدولة الحقيقي
ضحى عبد الرحمن - العراق
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 658
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
غالبا ما يصنف الكتاب الشيعة الحجاج بأنه طاغية العصر، ينظرون الى هذه الشخصية العظيمة من زاوية طائفية ضيقة، يقزمون افعاله العظيمة، وايجابياته، ويكبرون سلبياته، مع انه كقائد اسلامي او غير اسلامي شأنه شأن بقية القادة في العالم له مزايا وعيوب، فالكمال لله وحده، ليس من العدل الإشارة الى السلبيات وتناسي الأفعال العظيمة، ان عبارة (واحججاه) كافية للإشادة به، في التأريخ الإسلامي لدينا فقط استغاثتين من سيدات مسلمات عانيين الأمرين في دولة الروم، إستجاب لهن قادة عظام وهما الحجاج والمعتصم (وا معتصماه). صحيح ان الحجاج كان في غاية القساوة مع العراقيين، لأنهم كما هو معروف في التأريخ لا يقومهم الا قائد شديد المراس، وإلا جعلوا منه إضحوكة وتلاعبوا به، قارن بين حكم الرئيس الراحل صدام حسين، وحكم الشراذم الذين أتوا بعد عام 2003 فهذا شاهد على كلامنا
العراقيون بحاجة الى قائد قوي يشكم وقاحة وتمرد وعصيان الغالبية العظمى منهم.
قام الحجاج بعدة فتوحات منها (بلخ والسند وأواسط آسيا وطخارستان والبنغال وبعض مدن فارس)، بل هو من وصل الى حدود الصين/كاشغر) حيث فتحها ابن عمه (محمد بن القاسم) وكان عمره لا يتجاوز العشرين عاما. ومن اعماله في العراق انه بنى الجسور، وانشأ سدود لخزن مياه الأمطار في حال شحة المياة، وتوفيرها للقوافل، ومنع التبول والتغوط في الأماكن العامة، ومنع بيع الخمور، وأهرق الموجود منها.، وضرب بقوة على أيدي اللصوص وقطاع الطرق فإستتب الأمن في حكمه.
من المعروف ان الحجاج كان من حفظة القرآن الكريم، وكان ابوه يعلم الناس قراءة القرآن دون أن يستوفي أجرا. وكان الحجاج من تلاميذ عبد الله بن عباس، وسعيد بن المسيب وأنس بن مالك. وقد تولى عدة مناصب بعد أن قضى على فتنة ابن عبد الله بن الزبير الذي إعتصم بالكعبة، فقد تولى ولاية الحجاز واليمن واليمامة. وقد عمر الكعبة، وبنى مسجد ابن سلمة في المدينة.
من غرائب المفكرين الشيعة انهم يتناسوا ان علي بن أبي طالب هو أول من حارب الخوارج، والحجاج ايضا قد حارب الخوارج، فهل كان علي والحجاج على خطأ عندما قاتل كلاهما الخوارج؟
بل يتناسوا ان الحجاج هو من بنى مدية واسط واعتبرها عاصمة له، وهو أول من قدر مساحة العراق، وأقام القنوات الجديد وأدام وصانة المهملة والمتروكة لسقي المزارع، وأنشأ السدود وحفر الآبار، وقد نظم الجيش وجعل الخدمة العسكرية إلزامية، وهو أول من وحد الأوزان والمقاييس والمكاييل، وقد سك العملة باللغة العربية، ربما كراهية الحجاج من قبل الكتاب الشيعة تتلخص في هذه الأمور:
الأول: محاربة المتمردين على الخليفة من آل البيت.
الثاني: غير دواوين الحكومة من اللغة الفارسية (الفهلوية) الى العربية. وفتح خراسان وبخارى وكاشان والطلقان وغيرها.
الثالث: انه إنتقم من قتلة الخليفة عثمان بن عفان، وهؤلاء كانوا من جماعة علي بين أبي طالب، وقد سلمهم علي أعلى المراتب خلال حكمه.
الرابع: حارب الرعاع والغوغاء من أهل البصرة بعد أن أمن واسط، وقال قولته المشهورة" أيها الناس من أعياه داؤه فعندي دواؤه، ومن استطال اجله فعليّ ان أعجّله، ومن ثقل عليه رأسه وضعت عنه ثقلة، ومن استطال ماضي عمره قصّرت عليه باقيه. إن للشيطان طيفا و للسلطان سيفا، فمن سقمت سريرته صحّت عقوبته، و من وضعه ذنبه رفعه صلبه، و من لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة، و من سبقته بادرة فمه سبق بدنه بسفك دمه. إني أنذر ثم لا انظر، وأحذّر ثم لا أعذر، وأتوعّد ثم لا أعفو. إنما أفسدكم ترنيق ولاتكم، ومن استرخى لببه ساء أدبه. إن الحزم والعزم سلباني سوطي و أبدلاني به سيفي، فقائمه في يدي، ونجاده ( في عنقي، وذبابه قلادة لمن عصاني. واللّه، لا آمر أحدكم أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلاّ ضربت عنقه".
الحقيقة ان الحجاج لم يمارس العنف والقسوة إلا مع المتمردين والغوغاء، أما الناس الصالجين فلم يكن له شأن بهم، بل له مواقف كثيرة تؤيد نزعته الإنسانية وعدالته. من المعروف ان العراق كان يعاني من الفوضى وعدم الإستقرار والأمن، وكفوا العراقيون عن فريضة الجهاد، وتمردوا على الخلافة. وكان لابد من قائد جسور وحازم يعيدهم الى النظام ويجعلهم يحترموا القانون.
قصة واحججاه
استغاثت إمرأة عربية مسلمة بالحجاج بن يوسف لما سباها الهنود في عمق البحر ووصل الخبر إلى الحجاج فقال: يا لبيك يا لبيك. جهز جيوشه(6000) مقاتل تلبة لندائها ونصرتها، ففتح بلاد الهند وبلاد السند وغيرها من البلدان، وكان قاد هذا الجيش العرمرم محمد القاسم وهو ابن اخو الحجاج بن يوسف وعمره (17) سنة. وعاد الجيش مع المرأة المسبية التي استغاثت بالحجاج.
الحجاج والتكبير
قال الهيثم بن عدي " خرج الحجاج بن يوسف يوما من القصر بالكوفة، فسمع تكبيرا في السوق، فراعه ذلك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يأهل العراق، يأهل الشقاق والنفاق ومساويء الأخلاق، وبني اللكيعة، وعبيد العصا، وأولاد الإماء، والفقه بالقرقر، إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله وإنما يراد به الشيطان؛ وإنما مثلي ومثلكم ما قال ابن براقة الهمداني:
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهــم فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم؟
متى تجمع القلب الذّكيّ وصارما وأنفا حميا تجتنبك المظالم!
أما والله لا تقرع عصا بعصا إلا جعلتها كأمس الدابر". (العقد الفريد4/204).
ـ كتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، أصلح الله أمير المؤمنين، فإن النفاق قد فرخ بيضه في العراق، وشب فيها وأشيب، ووكر فيها وقر، وأوطن عقر دارها، ونفث حمته عل أهلها، فلكل ناعق مجيب، ولكل داع ملب، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في اجتثاث هذه العروق الناجمة، استئصال هذه المقادح الناشبة فعل، فإن في ذلك صلاح جنده ودهمائه".(البصائر والذخائر6/188).
من خطب الحجاج
خطب الحجاج أهل العراق فقال: يأهل العراق إني لم أجد لكم دواء أدوى لدائكم من هذه المغازي والبعوث، لولا طيب ليلة الإياب وفرحة القفل، فإنها تعقب راحة وإني لا أريد أن أرى الفرح عندكم ولا الرّاحة بكم؛ وما أراكم إلا كارهين لمقالتي، أنا والله لرؤيتكم أكره، ولولا ما أريد من تنفيذ طاعة أمير المؤمنين فيكم ما حمّلت نفسي مقاساتكم والصبر على النظر إليكم؛ والله أسأل حسن العون عليكم! ثم نزل". (العقد الفريد4/207).
ـ خطب الحجاج أهل العراق فقال يأهل العراق، إني أردت الحج، وقد استخلفت عليك ابني محمدا، وما كنتم له بأهل. وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الأنصار؛ فإنه أوصى أن يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، وأنا أوصيته أن لا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم! ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم. من إظهارها إلا خوفي، تقولون: لا أحسن الله له الصحابة! وإني أعجّل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة! ثم نزل". (العقد الفريد4/207).
ـ ذكروا أن الحجاج مرض ففرح أهل العراق؛ وقالوا: مات الحجاج! فلما بلغه تحامل حتى صعد المنبر فقال: يا أهل الشقاق والنفاق! نفخ إبليس في مناخركم فقلتم: مات الحجاج، ومات الحجاج فمه؟ والله ما أحب أن لا أموت! وما أرجو الخير كلّه إلا بعد الموت، وما رأيت الله عز وجل رضي الخلود لأحد من خلقه، إلا لأهونهم عليه: إبليس؛ ولقد رأيت العبد الصالح سأل ربّه فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. ففعل؛ ثم اضمحل كأن لم يكن". (العقد الفريد4/211).
ـ خطب الحجاج في أهل العراق فقال: يأهل العراق، إن الشيطان استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف : ثم أفضى إلى المخانخ والصمائخ، ثم ارتفع فعشش؛ ثم باض وفرخ، فحشاكم شقاقا ونفاقا، أشعركم خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه،ومؤامرا تستشيرونه، فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم وقعة، أو يحجزكم إسلام، أو يردكم إيمان؟ ألستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر؛ وسعيتم بالغدر، واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله تعالى يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا؛ وتنهزمون سراعا؛ ثم يوم الزاوية؛ وما يوم الزاوية؟ بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليّكم عنكم؛ إذ ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها؛ لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح، وقصمتكم الرماح، ثم يوم دير الجماجم: وما دير الجماجم؟ بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله. يأهل العراق والكفرات بعد الفجرات؛ والغدرات بعد الخترات، والنّزوة بعد النزوات، إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم؛ لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة! يأهل العراق: هل استخفّكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزكم عاص أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع- إلا وثقتموه وآويتموه وعزّرتموه ونصرتموه ورضيتموه. يأهل العراق؛ هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو نعق ناعق، أو زفر زافر، إلا كنتم أتباعه وأنصاره. يأهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟". (العقد الفريد4/205).
ـ قال أبو العباس المبرد في الكامل: حدثني الثوري في إسناد ذكره آخره عبد الملك أبن عمر الليثي قال: بينما نحن بالمسجد الجامع بالكوفة وأهل الكوفة إذ ذاك في حال حسنة يخرج الرجل منهم في العشرة والعشرين من مواليه إذ أتانا آت فقال: هذا الحجاج قد قدم أميرا على العراق! فإذا به قد دخل المسجد معتماً بعمامة قد غطى بها أكثر وجهه متقلدا سيفاً متنكباً قوساً يؤم المنبر فمكث ساعة لا يتكلم. فقال الناس بعضهم لبعض: قبح الله بني أمية حيث تستعمل مثل هذا على العراق! حتى قال عمير بن ضابئ البرجمي: ألا أصبه لكم؟
فقالوا: أمهل حتى تنظر! فلما رأى عيون الناس أليه حسر اللثام عن فيه ونهض فقال:
أنا أبن جلا وطلاع الثنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني!
ثم قال: يا أهل الكوفة أني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها كأني أنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى! ثم تمثل فقال:
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ** قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبلٍ ولا غنم ** ولا بجزارٍ على ظهر وضم
ثم قال:
قد لفا الليل بعصلبي أوزع خراجٍ من الدوي
مهاجرٍ ليس بأعرابي
وقال:
قد شمرت عن ساقها فشدوا ** وجدت الحرب بكم فجدوا
والقوس فيها وترعــــــــــد ** مثل ذراع البكر أو اشد
أي والله يا أهل العراق ما يقعقع لي بالشنان ولا يغمز جانبي كتغماز التين. ولق فررت عن ذكاء وفتشت عن تجربة. وإنَّ أمير المؤمنين نثر كنانته فعجم عيدانها فوجدني أمرها عودا واصلبها مكسرا فرماكم بي لأنكم طالما أوضعتم في الفتنة واضطجعتم في مراقد الضلال. والله لأحزمنكم حزم السلمة ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل! فإنكم كأهل قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف. وإني والله ما أقول إلاّ وفيت ولا أهم إلاّ أمضيت ولا أخلق إلاّ فريت! وإنَّ أمير المؤمنين أمرني بإعطائكم أعطياتكم وأن أوجهكم إلى محاربة عدوكم مع المهلب بن أبي صفرة وإني اقسم بالله لا أجد رجلا تخلف بعد أخذه عطاءه بثلاثة أيام إلاّ ضربت عنقه! يا غلام اقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين1 فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عبد الملك أمير المؤمنين إلى من بالكوفة من المسلمين. . فلم يقل أحدٌ منهم شيئا. فقال الحجاج: اكفف يا غلام! ثم أقبل على الناس فقال: أسلم عليكم أمير المؤمنين فلم تردوا عليه شيئا؟ هذا أدب أبن لهيعة! أما والله لأؤدبنكم غير هذا الأدب أو لتستقيمن! اقرأ يا غلام كتاب أمير المؤمنين! فلما بلغ إلى قوله: سلام عليكم! لم يبق أحد في المسجد إلاّ وقال: على أمير المؤمنين السلام! ثم نزل فوضع للناس أعطياتهم. فجعلوا يأخذون حتى أتاه شيخ يرعش كبرا فقال: أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي أبن هو أقوى مني على الأسفار أتقبله بدلا مني؟ فقال له الحجاج: نفعل أيّها الشيخ! فلما ولى قال له قائل: أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا. قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله
ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا فوطئ بطنه فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه! فقال له الحجاج: أيها الشيخ هلا بعثت إلى أمير المؤمنين بدلا يوم الدار إنَّ في قتلك أيّها الشيخ لصلاحاً للمسلمين! يا حرس اضربا عنقه! فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل ويأمر وليه أن يلحقه بزاده. وفي ذلك يقول عبد الله بن الزبير الأسدي:
تجهز فإما أن تزور أبن ضابئ ** عميراً وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا خسف نجاؤك منهما ** ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فأضحى ولو كانت خرسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي اقربا!
وفي هذه القصة ألفاظ تخفى. فقوله: أنا أبن جلا، أي المنكشف الأمر، وهو لسحيم بن واثلة وفيه كلام يجامعا". (زهر الأكم في الأمثال والحكم3/221)
------------
ضحى عبد الرحمن
العراق
آذار 2023
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: