لا جدال في أن عملية اغتيال زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري تعد نجاحاً للولايات المتحدة في سياق الحرب على "الإرهاب"، وهي حرب صممت لديمومة الهيمنة والتفوق الأمريكي، لكنه نجاح تكتيكي رمزي مؤقت غير مستدام، فقد كان الظواهري يعاني أصلاً من المرض والوهن وتجاوز نحو 71 من العمر، كما أن تنظيم القاعدة قد تحول منذ زمن ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر من منظمة مركزية إلى حالة من اللا مركزية، وشبكة جهادية واسعة منتشرة في مناطق عدة. فمن المستبعد أن تؤثر وفاة الظواهري على مسار العمليات اليومية للفروع الإقليمية للتنظيم، وخصوصاً فروع القاعدة الصاعدة والنشطة في أفريقيا، بل إن غياب الظواهري قد يؤدي إلى تجديد معالم التنظيم وإعادة بناء وهيكلة القاعدة على أسس تتجاوز الخلافات الأيديولوجية والتنظيمية داخل التنظيم نفسه، وقد تمهد لحقبة جديدة من التعاون والتنسيق مع مكونات الجهادية العالمية أمثال "تنظيم الدولة"، وحركة "طالبان" في مواجهة الأعداء المشتركين.
ادعى الرئيس الأمريكي جو بايدن نجاح بلاده في توجيه ضربة قوية إلى تنظيم القاعدة باغتيال الظواهري، ودافع عن استراتيجية "عبر الأفق" في محاربة الارهاب، وزعم أنها فعالة دون وجود قوات على الأرض، وذلك في خطاب الإعلان عن مقتل الظواهري في 1 آب/ أغسطس 2022، بعد أن تمكنت وكالة الاستخبارات المركزية بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2022 من قتله وهو في مسكنه في العاصمة الأفغانية كابول، عبر استهدافه بصواريخي هيلفاير نفذته طائرة مسيّرة بدون طيار.
لكن مقتل الظواهري لا يعد ضربة قوية للقاعدة، فالقيادة المركزية في "خراسان" كانت تعاني أصلاً من حالة ضعف وانحدار وترهل، إذ لم يكن الظواهري يتمتع بكاريزما سلفه ابن لادن وحضوره وذكائه وقدراته التنظيمية والإعلامية، حيث فقد الظواهري السيطرة والتحكم بالفروع الإقليمية، وبدت خطاباته طويلة ومملة وغير جذابة. ففي عهده تمردت على قيادته عدة فروع، وفي مقدمتها تنظيم الدولة الإسلامية في العرق وسوريا عام 2013 وجبهة النصرة في سوريا عام 2018.
وقد يشكل مقتل الظواهري فرضة لتدشين حقبة جديدة للقاعدة، فقد تعمد القيادة المركزية الجديدة للقاعدة إلى تجديد وإحياء نشاطها المركزي في أفغانستان، وتجديد الروابط الأيديولوجية والتنظيمية مع كافة فروع القاعدة الإقليمية التي تعمل بصورة لا مركزية دون أن تتأثر باختلالات المركز.
اختارت إدارة الرئيس جو بايدن استراتيجية "عبر الأفق" التي تعتمد على طائرات مسيرة وأخرى للتجسس منذ انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في آب/ أغسطس 2021، بعد حرب دامت نحو 20 عاماً، بهدف تعقب عناصر تنظيمي "القاعدة" و"الدولة" داخل أفغانستان واستهدافهم. ودافع بايدن عن استراتيجية عبر الأفق في محاربة الإرهاب، وادعى بعد النجاح بقتل الظواهري أنها استراتيجية فعالة دون وجود قوات على الأرض.
لكن معظم الخبراء يشككون في نجاعة هذه الاستراتيجية، فهي تركز على أهداف محددة عالية القيمة في سلم قيادات الحركات الجهادية، لكنها لا يمكن أن تؤثر على بنية هذه التنظيمات وقدراتها على الأرض. وتعاني الاستراتيجية من قصور وصعوبات عدة، فبدون اتفاقيات لإقامة قواعد في الدول المجاورة، فإن الطائرات الأمريكية المسيرة ستواجه صعوبة في مراقبة الأهداف في المناطق النائية من أفغانستان وغيرها من البلدان، ومن الصعب تنفيذ العمليات عبر الأفق دون وجود شبكات من رجال الاستخبارات على الأرض.
يشير وجود الظواهري في كابول الى العلاقة الوثيقة بين القاعدة وطالبان وخصوصا شبكة حقاني، وعندما وقّعت واشنطن اتفاقاً تاريخياً مع حركة طالبان في الدوحة في 29 شباط/ فبراير 2020، كان أحد أهم بنود الاتفاق عدم سماح طالبان لأي من أعضائها أو أفراد أو مجموعات أخرى، بما في ذلك تنظيم القاعدة، باستخدام أراضي أفغانستان لتهديد أمن الولايات المتحدة وأمن حلفائها، وهو بند يشير إلى أنه بعد مرور عشرين عاماً على هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، لم تحقق الحملة الدولية على الإرهاب بقيادة واشنطن سوى انتصارات تكتيكية دون تحقيق نجاحات استراتيجية. إذ تدرك الولايات المتحدة وحلفاؤها أن فك ارتباط طالبان بالجهادية العالمية ضرب من المستحيل، فطالبان لا تعتبر نفسها عضواً في النادي الجهادي العالمي، بل تقدم نفسها قائدة للجهادية العالمية.
يقدّر أحد تقارير "الأمم المتحدة" العام الماضي إن تنظيم "القاعدة" ما زال يضم حوالي 400 إلى 600 عضو في أفغانستان، وهم يقاتلون إلى جانب حركة "طالبان" بشكل دوري، ويشاركون في جمع الأموال وصنع القنابل. كما تكثر الروابط الاجتماعية التي تجمع التنظيمين عبر الزيجات بين المجموعتين، وخلص تقرير للأمم المتحدة في تموز/ يوليو الماضي، إلى أن "السياق الدولي مواتٍ للقاعدة، التي تنوي أن تكون مرة أخرى قائدة للجهاد العالمي.. وتم تطوير دعاية القاعدة بشكل أفضل الآن للتنافس مع تنظيم الدولة باعتبارها الفاعل الرئيسي في إلهام بيئة التهديد الدولي، وقد تصبح في النهاية مصدرا أكبر للتهديد الموجه".
وحذر تقرير آخر للأمم المتحدة من أن القاعدة وجدت "حرية عمل متزايدة" في أفغانستان منذ وصول طالبان إلى السلطة. وأشار التقرير إلى أن عدداً من قادة القاعدة ربما كانوا يعيشون في كابول، وأن الزيادة في التصريحات العامة ومقاطع الفيديو للظواهري تشير إلى أنه كان قادراً على القيادة بشكل أكثر فاعلية وانفتاحا بعد سيطرة طالبان، لكن المعلومات الاستخباراتية التي شاركتها الدول الأعضاء في الأمم المتحدة في تقرير تموز/ يوليو الماضي، أشارت إلى أن "القاعدة" لا يشكل التهديد المباشر ذاته مثل تنظيم الدولة في أفغانستان.
إن مقتل الظواهري قد يشكل فرصة لخلفائه لإعادة إحياء القاعدة وحقبة جديدة تتجاوز حقبة الظواهري التي شهدت خلافات وانقسامات ونزيفاً في قيادات القاعدة في كافة مناطق تواجدها. ففي حقبة الظواهري خسرت القاعدة مجموعة من القيادات من أمثال أبو الزبير مختار، أمير حركة الشباب- الفرع الصومالي بشرق أفريقيا، والذي قتل بطائرة أمريكية مسيرة بداية أيلول/ سبتمبر 2014، الأمر الذي تكرر مع مقتل أبو بصير ناصر الوحيشي أمير القاعدة في جزيرة العرب في اليمن بطائرة أمريكية بدون طيار في 9 حزيران/ يونيو 2015.
وكان تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي قد فقد زعيمه التاريخي عبد الملك دروكدال، الملقب بأبي مصعب عبد الودود، في عملية عسكرية فرنسية بشمال مالي في 3 حزيران/ يونيو 2020، وقد خسر الفرع السوري "حراس الدين" معظم قياداته خلال الفترة بين 2018 و2021، أمثال أبي محمد السوداني وأبي القسام، وفي آب/ أغسطس 2019، قتل حمزة بن لادن، نجل زعيم القاعدة التاريخي أسامة بن لادن، في عملية أمريكية خاصة في منطقة واقعة على الحدود بين أفغانستان وباكستان، وفي السابع من أغسطس/ آب 2020 خسرت القاعدة عبد الله أحمد عبد الله (أبا محمد المصري)، وهو الرجل الثاني في القاعدة، وقد اغتيل المصري في إيران عن طريق عملاء للموساد.
رغم تراجع تنظيم القاعدة في زمن الظواهري لكنه حافظ على وجوده وهيكليته، وفي الوقت الذي تراجعت فيه قدرات التنظيم في مركزه في أفغانستان وفي بعض الفروع انتعشت فروع أخرى. فقد تراجع تنظيم "قاعدة الجهاد في جزيرة العرب" في اليمن، الذي صنفته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية في العام 2010 بأنه أكثر فروع التنظيم خطورة، وتمكن من السيطرة على مناطق واسعة بين 2012 و2015، وفقد عددا من قياداته التاريخية أمثال أبي بصير ناصر الوحيشي وأبي هريرة قاسم الريمي، رغم الظروف الموضوعية التي كانت تشير إلى حتمية صعوده. ومع ذلك لا يزال التنظيم يحافظ على وجوده ويمكن أن يعاود نشاطه.
أما تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية، فقد شهد انتكاسة منذ تأسيسه عام 2014، حيث فقد زعيمه أسامة محمود الذي تولى قيادة التنظيم بعد مقتل أميره السابق عاصم عمر في أفغانستان في 23 أيلول/ سبتمبر 2019. ومع ذلك، فمن المرجح أن يوفر النجاح المستمر لطالبان المزيدَ من الزخم لتنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية، والتنظيم الأم، لإعادة تشكيل أهدافه والتفكير في توسيع وجوده وعملياته، في جميع أنحاء جنوب آسيا. وهذا ممكن نظرا لأن التنظيم لديه ملاذ آمن في أفغانستان التي تسيطر عليها طالبان، حيث يمكنه إعادة تجميع صفوفه، وزيادة عدد أفراده .
إذا كان تنظيم القاعدة قد تراجع في مركزه في أفغانستان وبعض فروعه في الخليج العربي وجنوب شرق آسيا، فقد شهدت فروع أخرى في أفريقيا انتعاشاً كبيراً. وقد شهدت السنوات الماضية توسعاً في تحالفات تنظيم القاعدة القبلية والعرقية على غرار جماعة نصرة الإسلام والمسلمين التي تعبر عن أكبر تحالف للقاعدة، والتي ضمت إلى جوار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي كلاً من جبهة تحرير ماسينا التي تمثل عرقية الفولاني، وجماعة أنصار الدين التي تعبر عن الطوارق في مالي، إضافة إلى تنظيم "المرابطون" الذي يمثل العرقية العربية. فعقب انسحاب فرنسا من مالي انتعشت جماعة نصرة الاسلام والمسلمين المبايعة للقاعدة وكذلك القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، واستغل تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي حالة الفوضى التي عمت منطقة الساحل ليصبح أحد أكثر فروع التنظيم العالمي نشاطا وقيمة؛ عبر تنفيذ عمليات اختطاف لرهائن غربيين وشن هجمات عبر مساحات شاسعة من الأراضي.
وتشكل حركة الشباب المجاهدين في الصومال حالة استثنائية في ازدهار القاعدة، فهي تشهد صعوداً وتوسعاً، وبعد سحب ترامب الجنود الأمريكان من المنطقة وهم نحو 700 جندي؛ أعاد بايدن الجنود، وحصل الظواهري على ثمار قراره تقوية حركة الشباب في الصومال.
ويمكن القول إن مسيرة العشرين عاماً من الدعم الأمريكي السابق الذي انتهى عام 2021 دون أن تتمكَّن الصومال من إضعاف قوة حركة الشباب إلا جزئياً؛ تطرح مخاوف أقلها احتمالية انهيار الحكومة المركزية في البلاد، إذ تسيطر حركة الشباب على أكثر من ثلث مساحة البلاد، وهي تتمدد في إثيوبيا.
ربما يعتمد مستقبل تنظيم القاعدة على من سيخلفه في قيادة التنظيم، حيث سيحدد ذلك شكل ونشاط وخيارات القاعدة المستقبلي، إذ تبرز ثلاثة احتمالات؛ الأول هو أن يتولى سيف العدل قيادة التنظيم، وهو أحد الأعضاء المخضرمين في القاعدة وتولى مناصب رفيعة؛ كمسؤول للأمن ورئاسة لجنة حطين التي تدير القاعدة في بلاد الشام، أو عبد الرحمن المغربي، وهو صهر أيمن الظواهري والمسؤول عن مؤسسة "السحاب" الجناح الإعلامي للقاعدة، وهو يرأس مكتب الاتصالات الخارجية. لكن كليهما يقيمان حالياً في إيران، وتعيين أحدهما قد يخلق انقسامات وخلافات داخل التنظيم وتشكيك في شرعية قيادتهما باعتبارهما أسيرين، ونظراً لموقفهما من العلاقة مع إيران التي لا تحظى بقبول الفروع.
والاحتمال الثاني أن يتولى قيادة القاعدة أحد أمراء الفرعين الصاعدين في القارة الأفريقية، وهما يزيد مبارك الملقب بأبي عبيدة يوسف العنابي، أمير القاعدة في المغرب الإسلامي المتحالف مع جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" في مالي والساحل، أو أبو عبيدة أحمد عمر (أحمد ديري)، أمير فرع القاعدة في شرق أفريقيا و"حركة الشباب المجاهدين" في الصومال، لكن ذلك يعني نقل القيادة العالمية لتنظيم "القاعدة" من معاقله التاريخية في منطقة "أفغانستان- باكستان" إلى أفريقيا، وهو ما سيغير من القاعدة على عدة صعد يصعب تقبلها.
والثالث أن يعمد تنظيم القاعدة إلى بيعة قائد شاب جديد يتمتع بكاريزما وقبول من القيادة والفروع لتجاوز إشكاليات الخيارين الأول والثاني، لكن ذلك يتطلب وقتاً طويلاً من التداول والشورى، ومع ذلك فهو الخيار الأمثل.
خلاصة القول أن قتل الظواهري لن يؤثر على تنظيم القاعدة، وقد يشكل فرصة لإحيائه وتجديده. فقد تراجع تنظيم القاعدة في حقبة الظواهري وضعفت قدراته العملياتية على تنفيذ هجمات خارجية، وتعرض لانشقاقات وانقسامات، إلا أن مستقبل التنظيم يرتبط بجملة من الظروف والتحديات. ويتمثل التحدي الأول باختيار خليفة للظواهري يتمتع بالكفاءة والقبول من كافة الفروع الإقليمية، وسوف تلعب العلاقة مع حركة طالبان دوراً جوهرياً، وهي علاقة رهن بموقف الولايات المتحدة والمجتمع الدولي من حركة طالبان، فإذا أصرت الولايات المتحدة على عدم الاعتراف السياسي بحكومة طالبان، وعزلها اقتصادياً، فإن الجناح الراديكالي داخل طالبان سيعزز علاقته بالقاعدة وبقية الحركات الجهادية، وهو ما سيؤدي إلى إعادة بناء القاعدة من خلال توفير ملاذات آمنة وجلب أعضاء جدد.
وفي ظل تراجع جهود مكافحة الإرهاب وخصوصاً في أفريقيا، سوف تتنامى قوة الفروع الإقليمية في الصومال ومالي ومنطقة الصحراء والساحل وشمال أفريقيا، وقد ينتقل مركز ثقل القاعدة من أفغانستان إلى أفريقيا. وفي ظل اعتماد الولايات المتحدة على استراتيجية "عبر الأفق" بالاعتماد على الطائرات المسيرة والعمل الاستخباري، دون وجود قوت على الأرض، فإن استراتيجية قطع رؤوس القادة لن تحدث فرقاً كبيرا، وسوف يتمدد تنظيم القاعدة على الأرض.
ونظراً لانغلاق المسارات السياسية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب الصحراء والساحل والقارة الأفريقية عموماً، وفي جنوب شرق آسيا، وهي مناطق تعاني من أزمات سياسية واقتصادية ومشاكل اثنية وعرقية، فإن تنظيم القاعدة يمكن أن يعيد بناء نفسه وسط الأزمات، فهو لا يخلق الأزمات بل يستغلها.
ورغم بروز نهج أكثر راديكالية وجاذبية للجهاديين والذي يمثله تنظيم الدولة، إلا أن تنظيم القاعدة لا يزال يتمتع بقدرة على التكيف والتجديد، ورغم العداء بين ممثلي الجهادية العالمية لكن فرص التعاون ممكنة في ظل وجود عدو مشترك، ولذلك قد يكون غياب الظواهري فرصة لتنظيم القاعدة. فقد ارتبطت حقبة الظواهري بالانشقاقات والانقسامات.
وفي ظل غياب إجماع دولي على حرب الإرهاب، ومع تراجع الاهتمام الدولي بالإرهاب العابر للحدود، وبروز حقبة من التنافس بين الدول في ظل تعددية قطبية قيد التشكل، فإن فرص القاعدة والجهادية العالمية قد تكون واعدة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: