نراقب إعداد مائدة حوار وطني ثان بتونس يهدف إلى حل الأزمات السياسية المتراكبة. لا نرى نضوج شروط حوار حقيقي منتج، بل نرى قبل الحوار اكتمال حالة الانسداد السياسي، ولا نعلق أملا كبيرا على جدية المتفاوضين الذين دقوا بينهم من الأسافين ما ينسف كل إمكانيات التقارب ولكننا نراهم مجبرين بقوة خارجية.
الحجج على وجود ضغوط خارجية تدفع فرقاء الوطن الواحد إلى حوار غير ظاهرة بجلاء، لكن كل كواليس اللقاءات مع السفارات الفاعلية تشير إليها، والذين عجزوا عن التفاهم على قاعدة الثورة والغيرة على البلد يخنعون ويتسللون إلى الحوار برؤوس مطأطئة. لكن لا بد من إشارة في البداية شروط الحوار الثاني مختلفة عن شروط الحوار الأول الذي جرى تحت ضغوط مختلفة. لقد تغيرت معطيات كثيرة على الأرض، وسيكون لها تأثيرها على مخرجات الحوار الثاني.
في أفق مقارنة ضروري بين الحوارين
في 2013 كانت ضربات الإرهاب والاغتيالات السياسية قد أربكت القوى المنتمية للثورة والفائزة في انتخابات 2011 وأخضعتها لشروط القوى المعادية للثورة والحكومة القائمة حينها بأعمدتها الثلاث. وكان لهذه المعارضة رجل بمثابة زعيم هو الباجي قائد السبسي. والذي لم يجلس إلى الطاولة بشخصه لكن شروطه نفذت بحذافيرها وكان أقصى ما حصلت عليه الحكومة والرؤساء هو الإبقاء على المجلس التأسيسي ووضع تسيير الأعمال إلى حين إصدار الدستور في نسخة نهائية مرضي عنها. وكانت المصادقة على الدستور بشبه إجماع يحمل معنى (هيا غادروا بسرعة لنستعيد الحكم من الثورة) وكان كذلك.
استلمت منظومة الحكم القديمة الحكم من جديد، وقادت مرحلة من الفشل الجديد أفضت إلى تشتتها وذهاب ريحها، وكان موت الباجي الضربة التي قسمت ظهرها فلم تقم لها قائمة بعده. الخسائر طالت أيضا شقي الترويكا التي حكمت، فقد اندثر حزب المؤتمر وحزب التكتل تقريبا، وغاب عن ساحة الفعل الرئيس المرزوقي والرئيس بن جعفر وهما الآن ضمن الشخصيات الاعتبارية غير ذات الثقل في اللحظة. ولكن بقي من الترويكا حزب النهضة وتجاوز كل العثرات متماسكا إلى درجة استعراض قوته في الشارع يوم 27 شباط/ فبراير، كأنه كان يتحسس مائدة الحوار القادمة أو يمهد لها من موقع جديد (أو يطلبها متحديا) في مواجهة معارضة مشتتة لم تفلح لثلاث مرات متتالية في تمرير عريضة سحب ثقة من الغنوشي، رئيس النهضة ورئيس البرلمان.
في الحوار الثاني نشهد ضعف موقف النقابة التي فرضت مع الباجي الحوار الأول، ونراها تدخل الحوار الثاني وحدها بل ربما وجد داخلها من يقترب من الخصم القديم ويمهد له. لقد فقدت النقابة الكثير من قوتها نتيجة إفراطها في استعمال هذه القوة ضد كل الحكومات، وهو ما خلق رأيا عاما معاديا لها في مواقع كثيرة ومعرضا عن السير وراءها في مناوراتها التي ظاهرها نقابي وباطنها سياسي. وقد تلقت النقابة صفعات متتالية إعادتها إلى حجمها وذكرتها بحدود قوتها المصنوعة في الإعلام لا في الواقع، فقد فشلت منذ مطلع السنة الجارية في تسيير إضراب عام بجهة قفصة، وهربت من إضراب عام في صفاقس فألغت ثالثا في القيروان.
كانت النقابة تعول على تحالف مع الرئيس وقد نسجت خيوطها حوله، لكن تبين أن الرئيس كالعنكبوت لا يقبل شريكا في شبكته فوجدت النقابة نفسها بلا حليف يقوي موقعها في الحوار. هذا فضلا عن أن الرئيس ينسج شبكته الخاصة وحده ولا يكتفي بحل المشاكل الحالية، بل يبحث عن نقطة عودة إلى الوراء لينطلق منها بشروطه، أي تغيير النظام السياسي برمته ونسف كل مكتسبات السنوات العشر التي تراكمت بعد الثورة بثمن مكلف، وهو الأمر الذي لم تسايره فيه النقابة وعبرت عن مواقف مساندة لحكومة تفاوض وتقبل.
الصورة الآن في 2021 ليست نفسها في 2013 والفرقاء تغيروا وظهرت معطيات جديدة بالداخل، وتغير المشهد السياسي الدولي المحيط وأطلق إشارات مختلفة عن تلك التي سار فيها في السابق، والجميع يتحدث الآن على أن الوضع الدولي صار أميل إلى دعم الديمقراطية.
من سيكون شركاء الحوار الجديد إذن؟
ما زال حزب النهضة قطبا وحده، ولكنه جمع حوله شركاء وتفرق آخرون من أمامه. لقد استخلصت الفاشية أسوأ من كان في حزب النداء مع الباجي، وكان تحركها في البرلمان وفي الشارع ينقلب ضدها كل يوم حتى عزلت نفسها في شرنقة المخربة التي لا تقترح حلولا. وقد جرى خلفها حزبا المعارضة الرئيسان فنالهما من سوادها ما لم ينله من عطر البقاء.. وحدهما يقودان المعارضة بشكل عقلاني، وأعني حزبي التيار وحركة الشعب واللذين لم يكن على جدول أعمالهما إسقاط الغنوشي من رئاسة البرلمان. وسيدخل الحزبان الحوار بثقل ورطتهما مع الفاشية، ولا ندري على ماذا سيفاوضان أعلى نفس الأجندة (عزل الغنوشي)، أم يطرحان أفكارا أخرى ولم نعد نرى لهما في الواقع أية أفكار أو مشاريع.. لقد ذوبتهما فيها، فهما يدخلان الحوار وعاءين فارغين.
سيكون أمامهما أن يلحّا على إصلاحات اجتماعية وعلى مقاومة الفساد، وسيجدان الغنوشي غريمهما (المستهدف) يقبل بكل شروطهما ويورطهما في التنفيذ، وسينهي ذلك آخر أوراقهما، ويكشف أن حديث مقاومة الفساد ليس بالجدية التي يعنيانها في خطابهما المعارض. لقد انكشفت أوراق كثيرة بسقوط حكومة الفخفاخ وجرتهما معها إلى حضيض أخلاقي، فوق ذلك سيكون عليهما أن يعلنا براءتهما من كل صلة بالفاشية، وهو ما يضعفهما في برلمان ما بعد الحوار الوطني، حيث ستنتهي عرائض سحب الثقة.
في الجانب المقابل سيكون الرئيس وحده، هذا إذا قبل أخيرا الدخول في حوار لا يحدد معالمه. فالرجل لا يزال مصرا على إدارة حوار هيولي بلا معالم بين شباب بلا وجه سياسي، وقد عارض به الدعوة إلى الحوار كما تصورته النقابة، ثم قبل الدعوة ثم تراجع، بما أفقده المزيد من المصداقية ويحتمل أن يغير موقفه مرة أخرى ويكون الحوار دونه. وفي تونس الآن لا أحد يستطيع الإجابة عن السؤال ماذا يريد الرئيس، فضلا عن معرفة كيف يفكر في إدارة الشأن العام. وقد انطلقت الألسن بالحديث عن أمراضه الكثيرة، وبعضها يفقده الأهلية الدستورية للمنصب.
ماذا سيضيف الرئيس إلى حوار يرفض موضوعه أصلا؟ لقد حشر نفسه في واحد من احتمالين أفضلها سيئ له: إما التخلي عن مشروعه الغريب في ديمقراطية مباشرة لم يحدد معالمها والخضوع للدستور الحالي، أو رفض كل مخرجات الحوار والمكوث في صومعته أعزل من كل دور. ويمكن القول منذ الآن إن هذا الحوار سينهي أحلام الرئيس أو ينهي وجوده.
أما النقابة وان كانت تزعم قيادة الحوار فإنا نراها في موقع الدفاع الأخير. لقد أفحشت في حق التونسيين وهي تناور لإنقاذ زورقها من الغرق في الغضب الشعبي، وخلافاتها الداخلية تضعفها وطموحات قيادتها الحالية في البقاء في مواقعها بالتعدي على قانونها الداخلي تعزلها عن قواعدها.
سيكون هناك حوار رغم ذلك
سيكون هناك حوار هو بمثابة ورطة من دعا له ولم يجد مخرجا للتراجع عنه، وقد راقت الفكرة في ما يبدو للقوى الخارجية لتحرض على مخارج من الوضع المتأزم، والذي لا يريد فرقاء الداخل الخروج منه. كل له أجندته، لكن القوى الخارجية ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع واقع جديد. وأهم مفردة في هذا الواقع هي عجز فرقاء الداخل دون العدو اللدود حزب النهضة. لقد مهدوا له بكثير من الغباء ليدخل الحوار منتصرا، وفي وضع فرض الشروط على الفرقاء الأضعف (لقد استثمر في غبائهم).
ونظن أن أجندته واضحة؛ أولها إنهاء الحديث عن عزل الغنوشي، وسيكسب ذلك وسيقبل أجندة محاربة الفساد في الداخل، فهو أكبر مستفيد من ذلك. فقد صار الفساد مكشوفا ونعرف في تونس من يدعمه سياسيا ومن يستفيد منه فعلا. وسيفرض احترام الدستور على الرئيس ويجبره على إنهاء مشروعه الغامض، وهذا انتصار جبار للحزب (الذي سيخرج من الحوار بسمعة الحزب الحامي للدستور).
ستكون طبقة رجال الأعمال التي تشتغل في المناولة مع الاقتصاد الفرنسي هي الهدف الفعلي لكل مقاومة، وهنا تخسر فرنسا حلفاءها الأقوياء ويربح حزب النهضة، فهؤلاء هم من يمولون الإعلام ضده ومن يخربون عليه كل محاولة خروج من الأزمة الاقتصادية التي تعيق استقراره في الحكم (وهو طموحه المشروع).
ليس لخصوم حزب النهضة حول مائدة الحوار ما يدينونه به في مسألة العلاقة مع الفساد (ولو وجدوا لذهبوا إلى المحاكم)، بل يمكن إدانة النقابة وبقية الأحزاب المتحالفة مع النقابة، فضلا عن أن الرئيس ليس نظيف اليد من التمويل القذر، وفي أسوأ الاحتمالات الجميع له علاقة بالفساد تخرس كل مزايد.
هل يسقط الحوار حكومة المشيشي؟ هذا سيكون ملفا على الطاولة؟ ولكن الغنوشي سيكون له رأي مختلف من موقع قوة، ولن يضحي بحكومة أسندها في ظرف صعب، وقد تغيرت الريح لصالحه وهو في موضع فرضها لا عزلها، وإن لم يكن له فيها وزراء. سيجعل النقاش يدور حول سبب الانحباس السياسي ليوقع الوزر على الرئيس وحلفه البرلماني، وسيكون أيضا في موقع فرض الهدنة الاجتماعية على القيادة النقابية التي تناور من أجل البقاء، بل قد يضع ضمن أجندته تغيير القانون الانتخابي سيئ السمعة.
لقد مهدوا الطريق لجر حزب النهضة وهو في أضعف حالاته (54 نائبا فقط) لحوار وطني سيملي عليه، ولن يخضع كما خضع في 2013، وهو يحتكم إلى 89 نائبا غير الحلفاء الموثوقين. لقد أضعفوا أنفسهم أمامه، إذ لم يقدموا أي برنامج سياسي فعال غير الرغبة الغريزية في إسقاطه، حتى بقي قطبا أوحد فاعلا في الساحة ولن تجدي معه كمية الإشاعات السخيفة حول ثروة الغنوشي التي رميت في الساحة للمس من سمعته الأخلاقية، ولم يجدوا لها مروجا ذا مصداقية حتى سقطت من تلقاء نفسها، مثيرة موجة من السخرية عن الغباء المركب.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: