رغم ارتفاع سقف الآمال التي أوجدتها تونس باعتبارها بلد "الثورة الأم" للربيع العربي، ورغم أنها ما زالت تمثل استثناءً في مسارات تلك الثورات ومآلاتها، لا يخفى على أي مراقب للشأن التونسي حدة الأزمات الدورية التي عصفت - وما زالت تعصف - بمجمل مسار "الانتقال الديمقراطي" وتهدد بالانقلاب على مكاسبه الهشة. وقد بيّنّا في مقالات سابقة الجذر "التأسيسي" لتلك الأزمات - أي ارتباطها بالمرحلة التأسيسية للجمهورية الثانية - بصورة تنفي إمكانية تجاوزها في المدى المنظور، خاصة بعد احتلال "الفاشية" لمركز الحقل السياسي، وإصرار الرئيس قيس سعيد على أن يكون عامل تأزيم يضاف إلى بقية العوامل السابقة.
ما هي جذور الأزمة السياسية الحالية؟
عندما تولّى السيد إلياس الفخفاخ رئاسة الحكومة السابقة، عبّر في خطاب التكليف عن "وهم معمّم" من أوهام النخب السياسية، ألا وهو نجاح "الانتقال السياسي" مما يستوجب التركيز على "الانتقال الاقتصادي والاجتماعي". لقد كان اختيار السيد الفخفاخ نفسه يعبّر عن وجود أزمة سياسية بين رئاسة الجمهورية ومجمل التشكيلات الحزبية الرئيسية في مجلس النواب، وكان ينذر – من جهة أولى - بتعميق الهوّة بين النهضة وحلفائها وبين رئاسة الجمهورية (باعتبار أن الفخفاخ لم يكن خيار النهضة ولا خيار أغلب الكتل البرلمانية)، وكان ينذر - من جهة ثانية - بظهور "تقاطعات موضوعية" أو تحالفات/ تسويات بين بعض القوى "الثورية" وبعض ممثلي المنظومة القديمة وواجهاتها الحزبية (كان الفخفاخ مرشح حزب "تحيا تونس" الذي هو أحد شقوق نداء تونس وأحد الواجهات الحزبية لورثة التجمع، وكان الفخفاخ أيضا مرشح التيار الديمقراطي المعروف بتوجهه الثوري، وهو "تقاطع" سيدعمه رئيس الجمهورية وسيكون له ما بعده من جهة "تأزيم" المشهد السياسي وترسيخ الانقسامات السياسية والاجتماعية).
لم يكن اختيار الفخفاخ هو المظهر الأول لهشاشة الانتقال الديمقراطي في المستوى السياسي، وبالتالي لم يكن هو أول دليل موضوعي على استحالة المرور إلى الانتقال الاقتصادي والاجتماعي - خاصة ملف مكافحة الفساد - وما يقتضيه من استقرار سياسي ومن تحالفات سياسية صلبة. فاختيار السيد الفخفاخ لرئاسة الحكومة – بعد انتقال حق الترشيح إلى رئيس الجمهورية - كان نتيجة سقوط حكومة السيد الحبيب الجملي (مرشح حركة النهضة باعتبارها الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية) وعدم حصولها على تزكية مجلس نواب الشعب.
كان سقوط حكومة الحبيب الجملي قد أعاد هندسة الحقل السياسي بصورة تجعله يتباعد تدريجيا عن انتظارات أولئك الذين استبشروا خيرا بإمكانية بناء حكومة "إصلاحية"؛ تُحرج النهضة وتخرجها من منطق "تبرير" التوافق مع المنظومة القديمة، لأنها ستسندها بالقوى "الثورية" الصاعدة من جهة التمثيل النيابي، خاصة "التيار الديمقراطي" و"حركة الشعب".
سطوة الأيديولوجيا وفشل مشروع "الكتلة التاريخية"
بعد انتقال حق الاختيار إلى رئيس الجمهورية ، كان واضحا أن حركة النهضة تتوجه عمليا إلى ترشيح شخصية من "المنظومة القديمة" وإلى الاستمرار في سياسة التوافق باعتباره خيارا استراتيجيا جاء "إسقاط" الحكومة لتأكيد وجاهته. أما التيار وحركة الشعب فقد كان واضحا أن دورهما في إسقاط حكومة الجملي -والتقائهما موضوعيا مع بعض مكوّنات المنظومة القديمة، مع تواتر الرسائل"الإيجابية" الموجهة لرئيس الجمهورية - قد أوجد شرخا كبيرا في علاقتهما بحركة النهضة، وهو شرخ سيزداد اتساعا بعد تحولهما إلى ما يشبه "الحزام الحزبي" لرئيس الجمهورية، وبعد تبنيهما "واقعيا" منطق اليسار الثقافي القائل بالتناقض الرئيس (مع حركة النهضة) والتناقض الثانوي (مع الفاشية ومجمل ورثة التجمع وحلفائهم داخليا وخارجيا).
عندما نربط الأزمة السياسية الحالية بأسبابها التأسيسية أو بمقدماتها التي أسفرت عن وجهها بعد ظهور نتائج الانتخابات الأخيرة، فإنها تصبح أزمة طبيعية في نظام سياسي مشوّه "بنيويا". وليس أدل على على هذا التشوّه من المـآلات الكارثية لجميع الوعود الانتخابية، سواء أتلك التي أطلقتها الأحزاب المحسوبة على الثورة أم تلك التي أطلقها رئيس الجمهورية.
وقد يبدو من باب التناقض أن نقول إن الصادق الأعظم في الحقل السياسي التونسي هي "الفاشية" التي بقيت وفيّة لأطروحاتها منذ هروب سيدها إلى السعودية. أما باقي الفاعلين فقد غلب عليهم الانفصام أو ازدواجية الخطاب والمواقف، وهو وضع جعل "المنظومة القديمة" تستيعيد احتلال مركز الحقل السياسي، وجعل التحالف معها هو الخيار الاستراتيجي الحقيقي لكل "الثوريين" و"الإصلاحيين" منذ المرحلة التأسيسية.
التحالف الموضوعي بين "أدعياء الثورة" وأعدائها
إن الحديث عن نجاح الانتقال الديمقراطي السياسي في تونس - وما يعنيه من عقلنة وأخلقة للفعل السياسي - هو مجرد مجاز تأتي كل الوقائع لتأكيد مجازيته. فذلك النجاح الموهوم كان يفترض وجود توافقات عقلانية صلبة لا مجرد توافقات براغماتية هشة، كما كان يفترض الانتقال من سلطة "المشاعر" و"التخييل" (سواء في تمثل الأنا الجماعية أو في تمثل الآخرين) إلى سلطة "الأفكار" وما تتأسس عليه أية عقلانية من مراجعات جذرية ونقد ذاتي.
ولا شك عندنا في أن النخبة التونسية في مجملها ما زالت أسيرة المشاعر والصور النمطية والمجهود الذهني الأدنى المتماهي مع مبدأ الرغبة والخادم للقضايا "الصغرى" (التموقع في منظومة التخلف والتبعية وتحسين شروط التفاوض لخدمة نواتها الصلبة)، لا المتماهي مع مبدأ الواقع ومع استحقاقات الثورة، وما تعنيه من قطع مع الترسبات المنتمية إلى المنظومة السابقة بمنطقها ورهاناتها ورساميلها المادية والرمزية.
ولا شك عندنا أيضا في أن الرابح الأعظم من هذا الوضع هو كل الأطراف التي لا يمكنها أن تعيش "الثورة" إلا باعتبارها "آلة صيد" أو باعتبارها لعنة، وهو ما ينتهي عادة بالتحالف بينهما - ضد كل الانتظارات المشروعة لعموم المواطنين - كما هو حاصل الآن، وكما سيظل حاصلا في المدى المنظور بحكم غياب الشروط الفكرية والموضوعية لتجاوز هذا المأزق التاريخي.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: