البدايةالدليل الاقتصادي للشركات  |  دليل مواقع الويبالاتصال بنا
 
 
 
المقالات الاكثر قراءة
 
تصفح باقي الإدراجات
أحدث المقالات

تونس: ماذا يريد هذا "الرئيس المشكل"؟

كاتب المقال عادل بن عبد الله - تونس   
 المشاهدات: 1870



كان التوحيدي قد عبّر قديما في "الهوامل والشوامل" عن صعوبة فهم الإنسان فقال: "إن الإنسان قد أشكل عليه الإنسان". وهي ملاحظة أنثروبولوجية تشمل الإنسان بما هو حيوان عاقل أو حيوان سياسي. وما من شك في أن "الإشكال" سيزداد طرديا كلما اتجهت الحضارات من البساطة إلى التعقيد، ولا شك أيضا في أن المقاربة العفوية - قبل المقاربة العالمة - ستلاحظ تفاوت ذلك "الإشكال" بين الناس، خاصة عندما يكونون في مركز الحياة العامة.

وليس من باب المبالغة أن نقول إن السيد قيس سعيد الرئيس الحالي للجمهورية التونسية من أكثر الشخصيات السياسية إشكالا، سواء أحملنا هذا "الكائن المشكل" على معنى "الإشكال النظري" (معرفيا) أو على معنى "المشكل العملي" (سياسيا).

من أين جاء هذا الرئيس؟

قد لا يكون الفاعل السياسي هو مجموع تاريخه أو قابلا للاختزال في السردية المتخلية والمعترف بها لذلك التاريخ. فقد أثبتت لنا الثورة التونسية زيف العديد من السرديات، وأثبتت لنا أيضا أن العديد من الوجوه لم تكن إلا أقنعة لم تستطع الصمود بعد انهيار المنظومة القديمة وتعدد مصادر التلقي، بعد أن كان تشكيل الوعي الجمعي منحصرا أساسا في أجهزة السلطة ومنابرها المشبوهة. وإذا كان الأهم في المعرفة هو "القول" لا القائل، فإن السياسة تجري على قاعدة أن الأهم هو "القائل" قبل القول. لكننا من غير استحضار التاريخ لن نستطيع فهم الفاعلين السياسيين، ومنهم رئيس الجمهورية السيد قيس سعيد. وقد أشرنا في مقال سابق إلى أن الرئيس كان في عهد المخلوع "إنسانا مستقرا" مثل عموم المواطنين، وكان "تقني معرفة" يوظف معرفته في خدمة المنظومة الحاكمة كلما التجأت إليه.

لم يكن التونسيون في عهد المخلوع يسمعون قيس سعيد أو يسمعون عنه. كان "إنسانا مستقرا" يكاد اسمه أن ينحصر في دوائر ضيقة من الخبراء الدستوريين، ولم يكن من المقدّمين في تلك الجماعة العلمية. ولعل التجاء السلطة في زمن المخلوع إلى الاستعانة بخدماته للانقلاب على الدستور - أو ما سُمّى باطلا بالتعديلات الدستورية - يغنينا عن البحث عن تاريخه السياسي المعارض، فما كان النظام ليلتجئ إلى "خبير" معارض أو حتى إلى خبير يُشتبه في وقوفه على مسافة نقدية من الخيارات السياسية الكبرى لذلك النظام.

ولعل "الإشكال" الذي يطرحه قيس سعيد بعد الثورة هو التالي: كيف يمكن فهم "الطفرة" التي حصلت للرئيس بعد الثورة، بالانتقال من "الإنسان المستقر" و"تقني المعرفة" الموضوعة في خدمة المنظومة الحاكمة؛ إلى "الإنسان الثوري" و"المثقف" الذي يحمل مشروعا سياسيا يضعه في تقابل مطلق مع مخرجات الدستور ومع المنظومة الحزبية المهيمنة على الديمقراطية التمثيلية؟

هل هو فعلا معارض جذري لمنظومة الحكم؟

لفهم السلوك السياسي للرئيس وما يثيره من إشكالات/ مشاكل قد يكون من المفيد أن نطرح الأسئلة التالية: هل كان "الاستثناء" السياسي التي يريد الرئيس أن يجسده في المشهد السياسي مصحوبا بمراجعات جذرية أو بنقد ذاتي لتاريخ "الإنسان المستقر" و"تقني المعرفة" الذي كانه زمن المخلوع؟ هل أخذ الرئيس فعلا مسافة نقدية من المنظومة السابقة ومن ورثتها تعادل تلك المسافة التي يصرّ عليها مع العديد من مكوّنات المنظومة الحالية، خاصة تلك القريبة من حركة النهضة؟ هل إن الرئيس هو معارض حقيقي لمنظومة الحكم الحالية ولآليات اشتغالها، أم إنه معارض لجزء منها يتقاطع في معارضته مع ورثة المنظومة القديمة ومع سرديات "الاستئصال الناعم" و"الاستئصال الصلب"؟ ما هي مصداقية الرئيس عندما يتحدث عن غياب "الإنجاز" وعن خيانة الأمانة من طرف النواب والحكومة، في الوقت الذي لا يمكن أن يكون أفضل من خصومه إذا نظرنا إلى محصول أدائه في الصلاحيات التي أسندها له الدستور، أي ملف السياسة الخارجية، خاصة ما يتعلق منه بالدبلوماسية الاقتصادية، وملف الأمن القومي، خاصة ملف الاغتيالات السياسية وملف الوردانين؟

يستطيع أي محلل للجملة السياسية الرئاسية أن يلاحظ تقاطعا كبيرا مع الجمل السياسية لورثة المنظومة القديمة وشركائهم "الاجتماعيين"، خاصة الاتحاد العام التونسي للشغل. فالرئيس – مثل الاتحاد، بل مثل أغلب ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني الناشطة في الثقافة والإعلام وحقوق الإنسان - لا يضيع فرصة للحديث عن "ضرب مؤسسات الدولة" ومحاولة "اختراقها"، وعن دوره في حماية تلك المؤسسات والتصدي للمؤامرات التي تستهدفها. ولا شك في أن "الاختراق" لا يمكن أن يكون من طرف المهيمنين تقليديا على تلك المؤسسات، وهم تحديدا التجمعيون وبعض قوى اليسار الثقافي، وهو ما يجعل المعني بسياسات الاختراق - رغم ضبابية خطاب الرئيس وهلامية مفرداته - طرفا سياسيا معلوما هو حركة النهضة ومن يتحالف معها.

ما هو مشروع الرئيس؟

إن عداء الرئيس لمنظومة الحكم الحالية هو ادعاء لا يصح إلا إذا اختزلنا تلك المنظومة في الحكومة، واختزلنا الحكومة في النهضة وحلفائها حتى لو كانوا من ورثة المنظومة القديمة. فمعيار الرئيس للفرز ليس الانتماء للمنظومة القديمة (أغلب ترشيحاته للمناصب الرسمية منذ حكومة الجملي تكاد تنحصر في المنتمين إلى المنظومة القديمة أو "المطبعين" معها)، كما أن ذلك المعيار ليس هو "الفساد" (فالرئس لم يأخذ يوما موقفا نقديا واحدا من فساد النقابات أو دورها في تفشي الزبونية والإفلات من العقاب). إن معيار الرئيس للفرز هو "معيار أيديولوجي" معاد للإسلام السياسي الذي يمثل التناقض الرئيس مع مشروعه. وسواء أكان هذا العداء مرتبطا بسبب سياقي هو مركزية حركة النهضة في النظام البرلماني المعدل أم كان بسبب ترسبات يسارية تعود إلى مرحلة الشباب أو إلى قناعات أعقبت الثورة، وسواء أكان الرئيس يريد فعلا تغيير النظام السياسي برمته وإقامة ديمقراطية قاعدية أم كان يطمع فقط في نظام رئاسي يُحجّم دور البرلمان والأحزاب ويعيد مَركزه السلطة في مؤسسة رئاسة الجمهورية، فإن الرئيس قد اختار مسلكا سياسيا هو في التحليل الأخير صياغة "شبه مؤسلمة" (في مفرداتها الدينية ومرجعياتها التاريخية) لمنطق التناقض الرئيس والتناقض الثانوي المهيمن عند مكونات اليسار التونسي قبل الثورة وبعدها.

بعيدا عن التوصيفات المهيمنة على السجالات السياسية في تونس، يصعب على أي محلل جاد أن يحسم في طبيعة مشروع الرئيس. فمن الصعب أن نصف السيد قيس سعيد بـ"الثوري"، سواء أنظرنا إلى تاريخه قبل الثورة أم إلى مواقفه بعدها، كما يصعب أيضا وصفه بـ"الإصلاحي"؛ لأن سجله الإصلاحي في القطاعات التي أسندها إليه الدستور (السياسة الخارجية والأمن القومي) يكاد يكون خاليا مما يشفع له أو يعطي مصداقية لمنازعته البرلمان أو رئاسة الحكومة صلاحياتهما والتشكيك في "مشروعيتهما".

أمّا ما يشاع عن تبنيه لمشروع الديمقراطية القاعدية، فهو كلام مرسل يحرص الرئيس على اتخاذ مسافة ملتبسة منه. وهو ما يجعلنا نقول إن اليقين الأوحد الذي يمكن أن نبنيه على خطابات السيد قيس سعيد ومواقفه هو توظيفه حالة الفوضى السياسية التي كرّسها البرلمان؛ ليمارس دوره وكأنه في نظام رئاسي وليتعامل مع رئيس الوزراء وكأنه وزير أول.

وسواء أكان الرئيس يريد الدفع بتناقضات المشهد السياسي إلى الحد الأقصى تمهيدا لطرح مبادرة تشريعية قصد تعديل النظام إلى نظام رئاسي، أم كان يهدف إلى "جمهوية ثالثة" تقطع مع الديمقراطية التمثيلية برمتها، فإنه يعكس "إشكالا" خطيرا يدفع إلى مراجعة المرحلة التأسيسية كلها؛ باعتبار تلك المرحلة هي السبب الأساسي فيما تعانيه تونس من هشاشة في الانتقال الديمقراطي ومن أزمات دورية تكاد تعصف بكل مخرجاته.


 اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:

تونس، قيس سعيد، فرنسا، الثورة المضادة،

 





تاريخ نشر المقال بموقع بوابتي 21-02-2021   المصدر: عربي 21

تقاسم المقال مع اصدقائك، أو ضعه على موقعك
لوضع رابط لهذا المقال على موقعك أو بمنتدى، قم بنسخ محتوى الحقل الذي بالأسفل، ثم ألصقه
رابط المقال

 
لإعلام أحدهم بهذا المقال، قم بإدخال بريده الإلكتروني و اسمك، ثم اضغط للإرسال
البريد الإلكتروني
اسمك

شارك برأيك
لوحة مفاتيح عربية بوابتي
     
*    الإسم
لن يقع إظهاره للعموم
     البريد الإلكتروني
  عنوان المداخلة
*

   المداخلة

*    حقول واجبة الإدخال
 
كم يبلغ مجموع العددين؟
العدد الثاني
العدد الأول
 * أدخل مجموع العددين
 
 
 
أكثر الكتّاب نشرا بموقع بوابتي
اضغط على اسم الكاتب للإطلاع على مقالاته
فتحـي قاره بيبـان، أبو سمية، عمار غيلوفي، رافد العزاوي، يحيي البوليني، المولدي اليوسفي، خبَّاب بن مروان الحمد، فتحي العابد، حاتم الصولي، د - الضاوي خوالدية، الهادي المثلوثي، محمد العيادي، سيد السباعي، علي الكاش، تونسي، د - المنجي الكعبي، د. طارق عبد الحليم، د. عادل محمد عايش الأسطل، سلام الشماع، إسراء أبو رمان، محمد علي العقربي، وائل بنجدو، أحمد بن عبد المحسن العساف ، ماهر عدنان قنديل، رافع القارصي، عراق المطيري، عبد الغني مزوز، محمد عمر غرس الله، د- محمد رحال، المولدي الفرجاني، أحمد النعيمي، محمد شمام ، ضحى عبد الرحمن، فتحي الزغل، أشرف إبراهيم حجاج، صفاء العراقي، طارق خفاجي، عبد العزيز كحيل، محمود سلطان، أ.د أحمد محمّد الدَّغَشِي ، د - عادل رضا، حسن عثمان، د- جابر قميحة، د - صالح المازقي، فوزي مسعود ، عبد الله زيدان، أ.د. مصطفى رجب، د. كاظم عبد الحسين عباس ، كريم فارق، صفاء العربي، سليمان أحمد أبو ستة، مراد قميزة، د. مصطفى يوسف اللداوي، بيلسان قيصر، إياد محمود حسين ، عواطف منصور، د - محمد بن موسى الشريف ، عمر غازي، عزيز العرباوي، الناصر الرقيق، جاسم الرصيف، د. أحمد محمد سليمان، حسني إبراهيم عبد العظيم، د. ضرغام عبد الله الدباغ، أنس الشابي، محمد يحي، د - مصطفى فهمي، سامر أبو رمان ، أحمد الحباسي، محمود فاروق سيد شعبان، محمد الياسين، كريم السليتي، د. أحمد بشير، خالد الجاف ، د - شاكر الحوكي ، صالح النعامي ، عبد الرزاق قيراط ، حميدة الطيلوش، حسن الطرابلسي، طلال قسومي، العادل السمعلي، سامح لطف الله، مصطفي زهران، د. عبد الآله المالكي، فهمي شراب، د - ‏أحمد إبراهيم خضر‏ ، منجي باكير، عبد الله الفقير، ياسين أحمد، صباح الموسوي ، أحمد بوادي، سعود السبعاني، محمود طرشوبي، د. صلاح عودة الله ، الهيثم زعفان، د - محمد بنيعيش، محرر "بوابتي"، رحاب اسعد بيوض التميمي، رشيد السيد أحمد، صلاح المختار، صلاح الحريري، محمد الطرابلسي، يزيد بن الحسين، محمد اسعد بيوض التميمي، علي عبد العال، سلوى المغربي، د- محمود علي عريقات، د. خالد الطراولي ، د.محمد فتحي عبد العال، نادية سعد، محمد أحمد عزوز، مجدى داود، أحمد ملحم، مصطفى منيغ، سفيان عبد الكافي، رمضان حينوني، د- هاني ابوالفتوح، رضا الدبّابي، إيمى الأشقر،
أحدث الردود
ما سأقوله ليس مداخلة، إنّما هو مجرّد ملاحظة قصيرة:
جميع لغات العالم لها وظيفة واحدة هي تأمين التواصل بين مجموعة بشريّة معيّنة، إلّا اللّغة الفر...>>


مسألة الوعي الشقي ،اي الاحساس بالالم دون خلق شروط تجاوزه ،مسالة تم الإشارة إليها منذ غرامشي وتحليل الوعي الجماعي او الماهوي ،وتم الوصول الى أن الضابط ...>>

حتى اذكر ان بوش قال سندعم قنوات عربيه لتمرير رسالتنا بدل التوجه لهم بقنوات امريكيه مفضوحه كالحره مثلا...>>

هذا الكلام وهذه المفاهيم أي الحكم الشرعي وقرار ولي الأمر والمفتي، كله كلام سائب لا معنى له لأن إطاره المؤسس غير موجود
يجب إثبات أننا بتونس دول...>>


مقال ممتاز...>>

تاكيدا لمحتوى المقال الذي حذر من عمليات اسقاط مخابراتي، فقد اكد عبدالكريم العبيدي المسؤول الامني السابق اليوم في لقاء تلفزي مع قناة الزيتونة انه وقع ا...>>

بسم الله الرحمن الرحيم
كلنا من ادم وادم من تراب
عندما نزل نوح عليه السلام منالسفينه كان معه ثمانون شخصا سكنو قريه اسمها اليوم هشتا بالك...>>


استعملت العفو والتسامح في سياق انهما فعلان، والحال كما هو واضح انهما مصدران، والمقصود هو المتضمن اي الفعلين: عفا وتسامح...>>

بغرض التصدي للانقلاب، لنبحث في اتجاه اخر غير اتجاه المنقلب، ولنبدا بمسلمة وهي ان من تخلى عن مجد لم يستطع المحافظة عليه كالرجال، ليس له الحق ان يعامل ك...>>

مقال ممتاز...>>

برجاء السماح بإمكانية تحميل الكتب والمراجع...>>

جل الزعماء العرب صعدوا ،بطرق مختلفة ،تصب لصالح المخطط الانتربلوجي العسكري التوسعي الاستعماري،ساهموا في تبسيط هدم حضارة جيرانهم العربية او الاسلامية عم...>>

مقال ممتاز
لكن الاصح ان الوجود الفرنسي بتونس لم يكن استعمارا وانما احتلال، فرنسا هي التي روجت ان وجودها ببلداننا كان بهدف الاعمار والاخراج من ح...>>


الاولى : قبل تحديد مشكلة البحث، وذلك لتحديد مسار البحث المستقل عن البحوث الاخرى قبل البدء فيه .
الثانية : بعد تحديد مشكلة البحث وذلك لمعرفة الا...>>


بارك الله فيكم...>>

جانبك اصواب في ما قلت عن السيد أحمد البدوي .

اعلم أن اصوفية لا ينشدون الدنيا و ليس لهم فيها مطمع فلا تتبع المنكرين المنافقين من الوها...>>


تم ذكر ان المدخل الروحي ظهر في بداياته على يد شارلوت تويل عام ١٩٦٥ في امريكا
فضلا وتكرما احتاج تزويدي ب...>>


الدين في خدمة السياسة عوض ان يكون الامر العكس، السياسة في خدمة الدين...>>

يرجى التثبت في الأخطاء اللغوية وتصحيحها لكي لاينقص ذلك من قيمة المقال

مثل: نكتب: ليسوا أحرارا وليس: ليسوا أحرار
وغيرها ......>>


كبر في عيني مرشد الاخوان و صغر في عيني العسكر
اسال الله ان يهديك الى طريق الصواب
المنافقون في الدرك الاسفل من النار...>>


وقع تصميم الموقع وتطويره من قبل ف.م. سوفت تونس

المقالات التي تنشر في هذا الباب لا تعبر بالضرورة عن رأي صاحب موقع بوابتي, باستثناء تلك الممضاة من طرفه أومن طرف "بوابتي"

الكاتب المؤشر عليه بأنه من كتاب موقع بوابتي، هو كل من بعث إلينا مقاله مباشرة

سياسة الخصوصية
سياسة استعمال الكعكات / كوكيز