د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3290
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بخصوص جائزة الملك فيصل للدراسات الإسلامية، في موضوع تحقيق التراث لهذا العام، وبعد ظهور النتائج، لا يسعني إلا التنويه بالجامعة التي رشحتني، وهي جامعة الزيتونة، والشكر لرئيسها الدكتور هشام قريسة الذي بادر بدعوتي لتقديم الملف.
ولعلني سوف أكون أكثر فرحاً بالترشيح، لأن الفوز لو حصل لا يكون بطبيعة الحال معادلاً أو من جنس الفرح والاعتزاز والفخر الذي أشعر به الآن؛ لأن المؤسسة التي رشحتني، ولم تتردد في حظوظي، قد تكون الخبرة بسياساتِ مثل هذه الجوائز هي التى أعوزتها. ومنها ملابسات الدعوة، التي توجَّه في بلد بعينه، الى عدد من المؤسسات فيه لترشيح من تراه.
وربما أخطأت هذه الجهة أو تلك حين لم تؤثث للترشيح بما كان ينبغي لها أخذه بعين الاعتبار فيما سوى الشروط المؤهلة للجائزة. أقصد الاعتبارات التي تبقى في خانة المنطقة الخاصة للهيئة الأميرية المشرفة عليها. ولا يمكن أن تغلّب هذه الهيئة تقرير اللجنة التي يُعهد لها بالنظر في قبول الترشيحات وتبويبها، وليس ما دون ذلك، كالاهتمامات السياسية والاجتماعية والمذهبية والظروف الراهنة للبلد المانح والجهة الرسمية المانحة، فهو محجوب. حتى أنه يصعب الاعتقاد أن أعضاء اللجنة أنفسهم، مهما يكن ولاؤهم للعلم لا يكون حاضراً في أذهانهم تعيينهم في ضوء تلك الاعتبارات.
وجائزة بحجم مملكة، كالمملكة العربية السعودية، وبحجم هيئة أميرية تمنحها، وبأبعاد عالمية كما يشير اسمها، لا يمكن أن تُمنح في غياب كثير من القراءات؛ والتي قد لا تقرأها بالمقابل المؤسسات والدول المرشحة لها؛ أو لا يقرأها أحياناً الأعضاء الفرديون المتقدمون لها، وإن راهنت مؤسساتهم على تقديم الاستجابة للدعوة قبل قراءة أي اعتبار قد يدخل في نسيج منح الجائزة لذلك العام، حتى لا تصبح مفاجأة عليها لا لها.
فلا يخفى ما للزيتونة، وتونس التي تمثلها هذه الجامعة، من موقف من الوهابية؛ أو موقف يمكن أن تقفه مؤسسة من مؤسساتها العلمية أو مراكزها البحثية من مناهضة للإرهاب الإسلامي؛ أو موقف يدعم المعاصرة والتحديث، قد يصل الى حد تجاوز الخطوط الحمر، كما يقال، دفعاً للتطرف في الطرف الآخر، المسمى أحياناً بالدعوة السلفية؛ أو موقف مساند للخط السياسي والاجتماعي الذي تقفه الدولة المرشِّحةُ، بعضُ المؤسسات فيها، لشخصية غير جدالية في مراميها، وغير مصنفة في خانة غير المرضي عنهم داخلياً وخارجياً، بخطها الايديولوجي، بالتقابل لشخصية، لأسباب قد تمس بسمعة الجامعة التي تمثلها، فيما لو رفضت الجائزة احتجاجاً لأحداث أو استنكاراً لموقف سياسي أو إنساني؛ كما حصل في جوائز عالمية كثيرة، كجائزة نوبل حين منحت لسارتر أو ردّ الوسام الفرنسي لطه حسين احتجاجاً على حرب الجزائر.
***
التكريم الداخلي الغائب
والفكرة أنه، لما رآني رئيس الجامعة خلواً من كل تكريم بمناسبة نشري وتحقيقي لتفسير الشيخ السياري وتكميل ضائعه؛ ذلك المرحوم إمام باجة ومصلحها الذي ظلمه العهد السابق والذي قبله، لزيتونيته وأصالته في بيئته العربية الإسلامية؛ ولم يرفع عنه الغبن الا الثورة، التي أطاحت برؤوس الفساد والانحراف الديني والاخلاقي وأصحاب العصا الغليظة على رقبة المجتمع.
وليس فقط علمه بذلك، ولكن كالتعويض بتقديره عن غبن لمسه، من تجاهل بعض دوائر القرار في بنك الزيتونة الإسلامي، الذي يبسط سلطته الدينية على ماليته الشيخ المختار السلامي ويحتكر جائزته هناك المسماة باسم الشيخ الطاهر ابن عاشور، لنفسه وتفسيره الذي ظهر بعد ذلك في منافسة لتفسير الشيخ السياري. ولم يلمس رئيس الجامعة ذلك عن بُعد، بل لأنه عضو بلجنة هذه الجائزة التي بقيت لم تفعّل، كأنما للغرض.
***
ولم يكن لي ظن سيء أبداً بالجوائز، من نوع جائزة الملك فيصل أو غيرها في دول الخليج، إلا لما تفاجأت بمنحها في سنوات ماضية لبعض الشخصيات الجدالية، وتركت أثرها في الصحافة وأحدثت زوابع؛ عن حق أو عن باطل، لا أدري، إذ لم تكن لي مقاييس لأقدّر الجدال الحاصل بشأنها؛ لأنها بتقديري لا تخلو من حمى التنافس والغرور، وشيء من مرض النفوس؛ شأن الجوائز بين الشعراء قديماً وممدوحيهم.
ولكن لما ظهر، وتعالت الأصوات بالتعييب على هذه الجوائز، أنها تمنح للأجانب الأمريكيين والأوروبيين والموالين لأصحاب هذه الأنظمة في بلاد الخليج التي تمنحها لهذا البلد العربي بكثرة، ولذاك بقلة، أو بأقل من الحد الأدنى للإنصاف، أو بغياب دول متحفّظ عليها سياسياً، أصبح الأمر لافتاً لكثرة المعارك التي تعقب كل إعلان بالنتائج. حتى كان سَنةً إعطاؤها بالمقاسمة، لعراقي وتونسي في مجال الدراسات المصطلحية وهما الأستاذ الدكتور أحمد مطلوب رئيس المجمع العلمي العراقي والأستاذ الدكتور، من تونس، محمد رشاد الحمزاوي المنتدب لجامعة قابوس بسلطنة عمان. حتى قيل إن الجوائز عامها خرجت من عادتها لتمنح لأول مرة لشخصية من تونس. فعدّت تونس من يومها أحد من نالها شرف هذه الجائزة من البلدان العربية المنسية قبل ذلك.
وبمنحها، في هذا العام، عن نفس المجال، أي في اللغة العربية وآدابها، في موضوع السيرة الذاتية، لتونسي ثان يعتبر بمثابة تكريم بحقه. لأنه تفرد بها من ناحية، وريْعُها المعنوي من ناحية ثانية يرجع لتونس وجامعتها التونسية الأولى منذ الاستقلال التي رشحته. كيف لا، وهو رئيسها وعميد كليتها السابق للآداب بمنوبة، والحائز على جوائز كثيرة قبل ذلك شرقية وغربية، وله مكانته الاجتماعية والثقافية، حيث هو في الوقت نفسه مدير المعرض الدولي للكتاب بتونس ومشارك في هيئات تحرير مجلة «إبلا » للآباء البيض ذات الصيت الممدود شرقاً وغرباً، وكذلك عضو تحرير في مجلة «رومانو أرابيكا» التي يصدرها مركز الدراسات العربية في جامعة بوخارست. والحائز قبل عامين تقريباً لجائزة « بوكر» وهي جائزة، هي الأخرى مختلطة بريطانية عربية في أبو ظبي.
كيف؟ وهو والذي لمع حتى قبل نيل "بوكر"، بمواقفه الجريئة من الإسلاميين في جامعته وكلية آدابها بالخصوص حين هاجموه، أو هاجم طلبتها عميدَها في مكتبه، من أجل مطالبات عامة، منها مصلّى في الكلية ونحو ذلك من المطالب التي حرموا منها في العهد السابق؛ وما تلى ذلك من معركة العلَم الموشح بالسواد، الذي رفعه طلبتها على سطح الكلية وأنزله من على ساريته خصومهم وعوضوه بالعلم الوطني.
في كل ذلك كان الأستاذ شكري المبخوت نجم الشاشات المحلية والأجنبية، والمُحاور الأمثل لاحتواء الموقف وتعديل الوضع، بلغة رصينة وإقناع هو الأجدر بمقامه.
وكلنا امتنان لحصوله على هذا التقليد الجديد، كما كانت تونس كلها في غاية الامتنان لحصولها من خلال الرباعي المشهور، للحوار الوطني على نيل أعضائه الأربعة جائزة نوبل للسلام، حتى وصل حد التنازع على الاستحقاق بها لأحدهم الى رده الى صاحب الفضل في إطلاق رباعيتهم تحت ضوء نجمه، الأستاذ الباجي قائد السبسي، لاعتبارات عدة.
ولا أحد ينازع في استحقاق أحد في جائزة. ولكن ليس لنيل أحد لها يصبح الحديث في حيثياتها مقلل من أهميتها، أو من أهمية جامعته، أو حتى مقلل من شأن بلده في الإعلام أو في الخارج، أو غير وارد تداوله بهذه المناسبة.
فالتصحيح متعين في حالات الخطإ أو سوء التقدير أو غمط الحقوق. وربما ميزان الأشياء بميزان الموضوعية صعب في الأمور المعنوية، ولكن لا بأس من مراجعة بعض المواقف والتصريحات بمناسبة هذه الجائزة أو تلك.
أولاً: أن الاستحقاقين مختلف شأنهما، بين نيل جائزة عن طريق منتسب لجامعة أجنبية وهو تونسي معار لها أو منتدب لحسابه فيها بعد التقاعد من جامعته، وبين جائزة تسند لصاحبها عن طريق جامعته وهو رئيسها.
ثانياً: التمييز، بين مستحق للجائزة بالتناصف ومستحق لها جدارة عن نفسه بالكامل، غير مُنقص إلا بحق من يتغافل عنه للإعلام الموضوعي والدقيق.
ثالثاً: التعظيم من أمر الجائزة، لمجرد كونها منحت لأحد أو حجبت عن آخرين منافسين له، أو غير مترشحين ولكن بالأهمية ذوي استحقاق لها، وربما لما هو أكثر منها مصداقية وشفافية وحيادية.. مثيرٌ، إذا لم نقل يلقي ظلالاً على مصداقية المتحدث عنها كالمفخم من أمرها أو أمره.
وقد اهتم الإعلام، ومن حقه أن يهتم بنقل أول تصريح للأستاذ المبخوت بعد فوزه بالجائزة، الذي يقول فيه بلفظه: «هذه الجائزة مختلفة، لأنها ذات طابع علمي أكاديمي، رغم إشعاعها الثقافي، لصلتها بالأدب واللغة العربية، وهي علاوة على ذلك ذات مصداقية عالية إذ تتميز لجان التحكيم فيها، وقد شاركتُ في بعضها في سنوات سابقة، وهي بدرجة عالية جدّا من الاستقلالية إذ تتكون من اكاديميين مرموقين، سواء بصفة محكّمين لا يعرف بعضهم بعضاً أو بصفة أعضاء اللجنة العليا التي تسند الجائزة».
وأضاف المبخوت: «بطبيعة الحال يشرفني الحصول على هذا التتويج من لجنة لا أعرف أعضاءها ولكنني متأكد من أنهم من المجموعة العلمية، من هذه الناحية فإن الحرص على دقة الانتقاء هو الضمانة اللازمة لإشعاع الجائزة ومن ثمة لإشعاع من يحصل عليها ومن خيرة الزملاء الباحثين في الاختصاص».
ولا غبار أن يقول إنها جائزة «مختلفة»، لأنه يريد مقارنة بالجوائز التي حصل عليها قبلاً، ولعله يقصد تحديداً « بوكر» ، لأنها تمنحها هيئة سياحية ثقافية في أبو ظبي بتوجيه من جائزة «بوكر» الأم البريطانية؛ حتى يسبغ على الجائزة التي أخذها أخيراً « بأنها ذات طابع علمي أكاديمي رغم إشعاعها الثقافي».
ولكن طعم هذه الجوائز بمذاقه يبقى كالمنقوص، حتى يضفي عليه من الصفات ما يعزز من استحقاقه لها، وهو قوله: «ذات مصداقية عالية». ثم راعى أن يذهب أبعد من الوصف الخارجي، ليقول وكأنه يتكلم عنها من الداخل؛ وفعلاً هو كذلك يتكلم عنها من الداخل، يقول: «إذ تتميز لجان التحكيم فيها، وقد شاركتُ في بعضها في سنوات سابقة، وهي بدرجة عالية جداً من الاستقلالية إذ تتكون من اكاديميين مرموقين، سواء بصفة محكّمين لا يعرف بعضهم بعضاً أو بصفة أعضاء اللجنة العليا التي تسند الجائزة.»
فهذا التدقيق ملْفت ومُنمّ في الوقت نفسه، ومُفْش، لأنه، وما كان أغناه أن يصرح به محرج؛ لأن اللجان، أسماء أعضائها سرية، ويجب أن تبقى سرية وإن تعلقت بجوائز سابقة منحت لشخصيات ناجحة وشخصيات غير ناجحة في ميدان تحكيمه ولم تكن تعلم به. وربما ألقت معرفتها الآن بوجوده في التحكيم في واحدة أو أكثر من دورات الجائزة ما يثيرها.
وكأنه يصف نفسه بالمرموقين، وهو يصف أعضاء هذه اللجان في هذه الجائزة على الاطلاق. وموضوعهم، يتعلق بتقدير من يعيّنهم فيها وحده، وليس له بالحكم لهم أو عليهم، إلا إذا كان كـ «شاكر نفسه يقرئك السلام»، أو على أصل ما جاءت عليه هذه القولة «مادح نفسه، الخ..».
لكن زيادة التفصيل في النسبة لنفسه عدمَ المعرفة بأعضاء اللجنة، أبعث للريبة في صدقه، أو صدقهم في عدم المعرفة بعضهم لبعض. خاصة عندما زاد فزكاهم بالحرص على ما سماه «دقة الانتقاء» واعتبره - وهذا من حقه - «الضمانة اللازمة لإشعاع الجائزة… » الى آخر قوله. وكأن هذا الأمر مقدوح فيه من غيره، أو هو لغاية التطمين لحصول الجائزة اليه.
وما كان أغناه عن التأكيد في معرض آخر ليقول: «لا شك أن الفوز بهذه الجائزة له طعم خاص ونكهة مختلفة، خصوصاً وأنها تستند إلى معايير صارمة لا تقبل التشكيك في نزاهتها وموضوعيتها (…) وبصفتي كنت مُحكّماً في هذه الجائزة في دورات سابقة فإني أعلم جيداً مدى جديتها وكفاءة لجانها…».
أو تقول الصحافة على لسانه وبنفس ألفاظه: «ولم يخف الدكتور شكري المبخوت سعادته البالغة في حصد هذا التتويج المشرف، مضيفاً بأنه كان واثقاً من حظوظ ملف ترشحه في المنافسة على الجائزة لكنه لم يكن يتوقع أو يتكهن بهذا الفوز الذي لم يأت من فراغ أو من باب الصدفة بل كان ثمرة جهد وبحث وتعب…».
وهذه أشبه بالاعترافات غير المغتفرة في جائزة يزعم صاحبها أو أصحابها أنها أبعد من الشبهة في إسنادها.
وسمِعْتُه في الإعلام المرئي يقول، إنه يهديها الى المرأة والى تونس والى الجامعة.. وهذا كله من حقه، وجدير بالتهنئة والتبريك له من جانب من استحقوا بفضله هذه الهدية. وفعَل ذلك قبله زميله وأستاذه الحمزاوي الذي لم يسمّه. وهي أمور رمزية. ولكن «آخرون» قد يسوؤهم قبول الهدية إن لم تكن مبرأة من العيوب.
***
إذا عرف السبب بطُل العجب
إن كانت الجامعة رشحته لها، أي لهذه الجائزة، لأعماله العلمية وحسب، فكان ينبغي أن يمر الترشيح عبر مجلس علمي أو لجنة. وإذا كان ليساريته - كما تُصوّره سيرته الذاتية التي يعكسها في روايته الطلياني- أو لصفته الإدارية في أكثر من منصب تنفيذي أو في عضوية تحرير بمجلة أجنبية في الداخل والخارج، وفي لجنة تحكيم لهذه الجائزة بالذات، وفي غيرها، في دورة أو أكثر من دوراتها، فهذا اعتبار آخر؛ ويناله القدح بسببه، كما ينال أي شأن آخر ليس أساسه الاختيار النزيه والشفاف والمحايد، الى آخر الشنشنة المعروفة للتحوّط من الانزلاقات والميول واستغلال النفوذ.
وإذا كانت لجان الجوائز يصح أن يطلق عليها كلها الأوصاف التي أطلقها عليها هو، بأنها صارمة وعلمية جداً جداً (والتأكيد له)، فما يفرقها عن لجان الامتحانات؟ الذي لرئيسها وحده مسؤولية إعلان النتائج، لا لمقرر عام يقع تحت تكليف هيئة الجائزة، والتي لا تسمى كما قال هو لجنة عليا، لأنها بالحقيقة بمسماها هي هيئة أميرية، أي متكونة من أصحاب السمو أبناء الملك المسماة باسمه الجائزة ويشرف عليها أكبرهم مستشار الملك.
وله أن يقرن نفسه بزملاء نالوا جوائز أقل منه بجائزته الأخيرة، دون أن يذكر من بينهم سلفه الفائز بها قبله. فهذا من حقه. ومن حقه كذلك أن يقول إنها «اعتراف أكاديمي يتجاوز مكافأة شخصه إلى الاعتراف بقيمة الجامعة التونسية وتميزها بحثاً وكتابة وتحقيقاً» وأنها «منارة إشعاع وعنوان إبداع بفضل ما زرعت لنا الأجيال السابقة فأكلنا وما سنزرع نحن للأجيال اللاحقة فتأكل».
***
ويكاد المريب يقول خذوني
يقول.. وكنت واثقاً.. وكنت عضوَ تحكيم بها.. وكنت لا أعرف أعضاءها.. ويهديها للمرأة وللوطن .. حبذا ولكن كما قلنا حتى يبرأ، كما فعل سلفه من عيوب الهدية في الفوز بها.
وما كان ينبغي أن يغض من استحقاقه. لأنها بعد ذلك كله جائزة لا استحقاق في حلبة سباق، مكشوف للعين، ومبرأ أشخاصه من الدوباج (المنشطات) والمناورات ولا تتعلق بهم قضايا رشوة أو فساد.
والجامعة التونسية التي نوه بها أكثر ما نوه كان ينبغي أن تكرّم قبله الحامل لجائزة الملك فيصل، العامَ الذي فاز فيه الحمزاوي. ولكن ربما لم يصبح من تقاليدها بعدُ تكريم واحد من أبنائها إلا بعد أن تراه قد اقتضى عنوان تكريمه الأول من جهة أجنبية. ومثال الطالبي وغيره معروف.
وفي أحد السنين الماضية أقصد الأعوام، ردد الناس بإعجاب قرار الحكومة التركية فصل جميع أساتذة الجامعة لديها لكثرة ما تبين فيها من عوار، وإعادة انتدابهم على أساس يمنع الحيف الذي نال بعضهم والمحسوبيات التي استبعدت غيرهم أو نفّلت آخرين.
ولهذه الجامعة - جامعة منوبة - ما كسبت، ولكن عليها ما اكتسبت بأيدي العابثين بقوانينها وحرمتها؛ ما يشهد به واقع محاضر الشرطة العدلية وأروقة العدالة وجلساتها وقرارات المحكمة الإدارية. ومنها قضية السرقة الموصوفة لبعض أساتذة تلك الكلية بها، فيما يعرف بمخطوط السيرافي أو الزجاجي، على نسبتيْه الخاطئتين، كما بينته في جملة مقالات أتبعتها بكتاب ثم فصّلتها في كتاب ثان؛ وفي منع أستاذ كامل الصفة من عضوية لجان الدكتوراه والانتداب، لحسابات ومصالح ضيقة، وجهويات فاضحة، وفساد إداري وتحويل وجهات طلاب وطالبات وابتلاء أساتذة ومساعدين، لأسباب فئوية وحزبية وتحرش وابتزاز.
ومن القرارات المشهودة للمحكمة الإدارية إلغاء مقررات رئيس الجامعة، الذي تورط في منع ذلك الأستاذ من مباشرة تأطيره للشهادات ومداولاتها صلب اللجان بتلك الكلية، المخول له قانوناً ممارسة دوره بها، كسائر زملائه دون إقصاء أو تهميش كالسابق. وأصفعُ ردّ على قراراته تسفيه المحكمة له لادعائه على ذلك الاستاذ بإفشاء مداولات اللجان التي حضرها في مقالات له وثلب للمسؤولين بها؛ كل ذلك لتبرير عزله عن الكلية، وعدم دعوته مستقبلاً لأية اجتماعات أو جلسات فيها.
ومثل هذه التهمة كانت وجهت لهذا الأستاذ في عهد وزارة الشرفي للتعليم العالي والبحث العلمي والصادق شعبان كاتبه للدولة للبحث العلمي. وانتُدبتْ له بإيعاز منهما إحالة على مجلس التأديب لطرده من الجامعة رأساً، وحبسه بتهمة الثلب في مقالات صحفية لسلطة الإشراف وبعض الإداريين المتظلمين بدعواهم من تجاوزاته بحقهم. وخاب مسعاهم لمّا وقفت المركزية النقابية لاستنكار موقف الوزير نفسه منه، ونسبة قراره الجائر لتصفية حسابات سابقة معه والتحامل بحقه إرضاء لبعض الجهات المتوترة من مقالاته ومداخلاته في مواقعه السابقة في الحياة النيابية والنقابية.
وكانت صولات هذا الأستاذ وجولات قلمه في الصحافة والمنابر تملأ سمع الرأي العام، للتنديد بممارسة إدارة هذه الكلية تحت إشراف بعض المسيرين لها بتعليمات بعض القدامى من وراء حجاب، واحتكار بعضهم لها كأداة لاستغلال مواقعهم في المجتمع السياسي والثقافي السائد عن كره من الوسط العام وأغلبيته العظمى.
وحتى يَعرف هو أو غيره بخلفيات من أحرزوا هذه الجائزة في ظروف أشبه بظروفه وإن اختلفت من بعض التفاصيل في نيلها من قِبل أستاذه السابق، ولكن ليس عبر ترشيح الجامعة التونسية بمنوبة مثله، بل عبر جامعة قابوس بمسقط، الأستاذ رشاد الحمزاوي، الذي كان من أهم التعْميات على ترشيحه حتى ينال هذه الجائزة، التعتيم على أحد أهم كتبه المعجمية المتفاخر بها، وأخفاها من سيرته أو ملف ترشحه، ألا وهو كتابه الذي نقدناه أوسع انتقاد أو نقد، إذا أردنا العبارة التي لا يرضاها، وهو "معجم المفاهيم الحضارية والقانونية والإدارية من خلال الرائد الرسمي" الذي اعتبره في مقدمته تاج كتبه بل الكتب العربية من نوعه.
وكان ينبغي التصحيح في الإعلام، حتى لا يكون الالتباس ويقال إن الجامعة التونسية أو تونس استحقت جائزة الدكتور الحمزاوي لأنه ترشح من الجامعة التونسية أو من تونس. ولولا أنها كانت كالمستحيلة بالنسبة اليه من جامعته ذاتها أو من تونس انطلاقاً لكان ينبغي أن ينتظر حتى يدرك مسؤولو الجائزة أنه من قلة الانصاف ما انتُقدوا عليه من استفراد بعض الدول العربية الكبرى بالجائزة في دائرة مؤسساتها أو أفرادها دون تونس وبعض الدول العربية الأخرى.
ولو أنطقتْه المناسبة كما أنطقت زميله الفائز الآن، لذكر لنا توليه رئاسة هذه المؤسسة أو تلك في الداخل والخارج ولعرّف بيساريته وبأياديه في مجالات تدعمها مؤسسات أجنبية رسمية وشبه رسمية في حقل من الحقول لا تمت الى اختصاصه بقدر ما تمت الى نزوعه الإيديولوجي والسياسي.
ولا أدرى إن كان أصحاب هذه الجائزة يعرفون أنهم لو منحوها لغير من مُنحت لهما من التونسيين لقامت قيامة الطاعنين في نزاهتها أو المتقوّلين عن انتماء من أسندت اليهم لملوك أو أمراء وولائهم لهم أو لبعضهم.
***
الشيء بالشيء يذكر
وتعجبتُ من بعضهم أن يستثنيني في كل مرة من دعواته لحضور المؤتمرات التي تعقدها مؤسسته في القاهرة؛ وكنت كزميل دراسة كفرسَيْ رهان أنا وإياه في كلية الآداب بجامعة القاهرة، فضحك طويلاً ليقول: لا أبداً والله، ولكني، للعلاقة بين مؤسستنا ومؤسسة جامعة تونس اتفقنا على عدم الدعوة بأسماء الأشخاص لكن بتحديد العدد. فإذن أنا لا أعرف علاقتك بهم. فهم الذين يستثنونك؛ وعليّ يا أخي من اليوم أن أوجه اليك دعوة خاصة مني باسمك، لأعوض عن تقصيرٍ لم يكن والله بحسباني وليس لي أن اعتذر عنه للأسف.
وليس من التشنيع بأحوالنا دعوة الإصلاح لها، لأن المفاسد في جامعتنا أوضح من البيّنات. ولكن الاعتبار بالواقعات كما يقول ابن خلدون متعين في جميع الميادين.
ولا يكفي أن يردد المحتفى به اليوم بجائزة الملك فيصل، دعاءه أن «تبقى مؤسساتنا الجامعية، وبالرغم من المعوقات والصعوبات، منارة إشعاع وعنوان إبداع بفضل ما زرعت لنا الأجيال السابقة فأكلنا وما سنزرع نحن للأجيال اللاحقة فتأكل..».
ولا أدري إن كان يعلم أنه بيننا أكثر من جيل أو جيلين تقريباً، لأني سابق لجيلِ أقدم المتخرجين بشهادة الدكتوراه من السربون وأصغرهم عندما اقتحمت باب الجامعة التونسية أمام الصد العنيف الذي واجهني به طابور من غير المتحصلين على نصف شهائدي على الأقل ومؤلفاتي، وفي مقدمتهم عميد الكلية. لا لشيء إلا لأني خالفت على تكوينهم وخرقت حظرهم وانتزعت الاستحقاق الأعلى من السربون قبل كثيرين منهم، ومنهم الأستاذ الحمزاوي واليعلاوي. وكان نجاحي المدوي علامة مضيئة وتحدياً ملحوظاً قفّى على أثره زملاء كرام من أمثال عبد السلام المسدي وجمعة شيخة، مع حفظ الألقاب. وارتفعت الشدة عنهم وسويت السبل أمامهم لإنهاء أطروحاتهم، وكانت أول الأطروحات التونسية التي تناقش في صلب الجامعة التونسية. ولو أنصفتْ الجوائز في وقتهم أو حتى قبل وقتهم لنالهم شرفُها، أو لشرُفت بهم، ولكن الدول الخليجية كانت تعاني من عقدة التونسيين نحوها؛ حتى تبدأ في السبعينيات والى ما بعد، حلحلةُ هذه العقدة عن طريق بورقيبة الابن خاصة؛ وسوّق لنظرية الربط بين ثالوث التكنولوجيا الفرنسية والبترودولار الخليجي واليد العاملة التونسية؛ وأن تونس الجسر، لموقعها القريب من أوروبا بإمكانها لعب دور الوسيط والمترجم بين عرب الخليج وبين أقطاب العلم والتكنولوجيا في الضفة الأخرى للمتوسط.
ومن ذلك الوقت تحسنت الرؤية التونسية لدول الخليج وضُربت الركائب اليها. ولذلك، فأكثر الجامعات الخليجية، من عمان الى أبو ظبي الى دبي الى الدوحة الى السعودية، تهفو اليها أفئدة الكوادر التونسية، جامعية وأكاديمية ووسطى، بما أغرتها مادياتُ تلك الإمارات والمشيخات والدويلات؛ فأفنت خبرتها وتجربتها هناك، موليّة وجهها، بعد طول العهد، عن أوروبا وتقشفها وربما تضييقها، على من دون جيرانها من الاتحاد الأوروبي وأوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً.
وإن أصبحنا بعد الثورة نتلاسن بدول الخليج، ببترودولار هذه أو تلك ونفوذها المالي والاقتصادي في حياتنا، وبإكرامات مؤسساتها وتكريماتها لأبنائنا وبناتنا. ومعروفٌ الجوائزُ التي حصدها روائيون، مشهورون بتحفظاتهم السابقة على تلك الدول وسياساتها كعز الدين المدني. وربما مثلوا تكريمهم له بمثابة التكفير عن أفكاره نحوهم، وبسْط اليد لاستعطاء الجائزة منهم.
وحتى الجوائز، أصبحت في أكثر ما تمنح في الدول الخليجية للأوروبيين والأمريكيين ومن لهم ميْسَمُهم من العرب والآسيويين.
وهذه الجائزة بالذات، يفتخر أصحابها في رصيد منحها أن كثيراً ممن فازوا بها من الشخصيات الأمريكية والأوروبية قد تحصلوا بعدها على نوبل. ما يعنى أنها ذات مصداقية مثلها مثل نوبل في تقييم مواهب العظام ومكافأتهم؛ ولكن مع التفرد بكونها الأسبق في استكشافهم للعالم وتكريمهم، كالمنّ على نوبل بهم. وهو نوع من المضاهاة كالمعارضات بين الشعراء عند العرب من قديم. ولذلك يتحرّون أن لا تمنح جائزتهم في العالم العربي إلا لحملة جوائز أدنى منها كـ «بوكر» وغيرها، ليكون لهم بها التتويج كنوبل؛ زيادة على الاعتبارات الأخرى التي تدخل في كيمياء هذه الجائزة.
وهو نوع من المماراة بين جوائز الغرب وجوائز الخليجيين في المال والرؤية والتوجه، طالما القُرب اليوم أصبح على وزن من يدفع أكثر لمقاومة الإرهاب الإسلامي، ومن يشجع أكثر على من يفترى على الإسلام أكثر ليكسب الود؛ لأن محل الشبهة يبقى محل التهمة في ظروف الحرب.
ولذلك جاء في التقديم للفائز المباشر في المنافسة مع ترشيح جامعة الزيتونة، وهو الأستاذ الدكتور بشار عواد، في صحافة المملكة، عقب إعلان النتائج أنه «الأردني الجنسية العراقي الأصل»، وأن «هذا الرجل كانت له أياد بيضاء على سنّة العراق فقد كان يقاوم أهل البدع والشعوبية ووقف لهم بالمرصاد، وعمل عمل أمة لوحده». ومعرفتنا بهذا الرجل محدودة عن طريق رئيسه في العمل في مؤسسة آل البيت الهاشمي في عمّان الأستاذ إبراهيم شبوح، بمناسبة تحقيقه تحت إشرافه لجزء من تاريخ ابن خلدون. وقد خصصناه بمقال ننشره لاحقاً، لبيان المظلمة التي تسلطت على ابن خلدون بسببهما.
وإن ساءنا أخيراً أن يظهر في الفيديو الذي يصوره وهو يجهش بالبكاء بعد أن تحدث للحاضرين أمامه في الحفل بتتويجه بهذه الجائزة أنه لكثرة المجلدات التي حققها من كتب التراث وتقارب الثلاثمائة يتهمه بعضهم أنها أعمال لغيره.
---------
تونس في ٤ فيفري ٢٠١٨
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: