ولاّعة شهيد تونس محمد البوعزيزي الذي حرّر البلاد والعباد من ربقة الطاغية الهارب بن علي هي رمز من رموز ثورة تونس العظيمة وهي رمز من رموز ربيع العرب وثورات شعوبه السلمية من أجل الحرية والعدالة. ولاعة البوعزيزي هي ولاعة الغضب المشتعل بسبب الفقر والظلم وخاصة خاصة بسبب احتقار النظام للإنسان وإهانة كرامته.
ولاعة البوعزيزي هي ولاعة العرب جميعا خاصة من الذين تسحقهم كل يوم آلة الموت الاجتماعي في مزارع الفقر والتهميش والبطالة في بلاد الثروات العربية الهائلة. ولاعة البوعزيزي أحرقت الثوب الشفاف الذي يغطي عورات نخب العار العربية ونخب الإعلام الفاسد ممن أثخنوا جسد الأمة العليل وزيفوا وعي شعوبها عقودا من عمر الاستبداد.
ولاعة البوعزيزي هي رمز للسلمية التي تميز العرب والمسلمين عن غيرهم من الأمم فقد خير فقراؤنا الموت على حمل السلاح. ولاعة البوعزيزي أحرقت جسده العليل بفعل الفقر والتهميش واحتقار الدولة المجرمة له لكنها لم تحرق الممتلكات العامة ولا قصور الأغنياء من أبناء العملاء وأحفاد العصابات والتجار الأوطان ونخاسي حقوق الانسان.
ولاعة البوعزيزي رمز الغضب ورمز حدود الصبر التي لن يكون ما بعدها كحال ما قبلها.
اليوم وبعد كل التضحيات وبعد كل القروض والهبات وبعد غياب القصاص والمحاسبة يعود المشهد التونسي إلى نقطة البدء وكأنه ينبئ بولاعة جديدة.
فكل القطاعات مشلولة أو تكاد من صحة وتعليم وعدالة واقتصاد ومواصلات ... وفي قلب المشهد تتصارع العصابات فيما بينها من أجل الاستحقاقات الانتخابية القادمة بعد أن أُخرجت الثورة التونسية عن مسارها وصار الرضى بالقليل النادر مكسبا ثوريا.
نجحت النخب التونسية وخاصة السياسية منها في تبديد المسار الانتقالي وفي إهدار الفرص التاريخية التي أتيحت لها من أجل استئصال المنظومة القديمة التي ارتكز عليها النظام الاستبدادي زمن بن علي. بل إن تنافس حلفاء الأمس على المشهد السياسي هو الذي مكّن للمنظومة القديمة من العودة إلى المشهد بل وإلى تصدره اليوم حيث يقيم في قصر قرطاج رجال الدولة العميقة جميعهم.
رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة وغالبية مجلس الشعب صارت بيد النظام القديم الذي لم يبذل من الجهد غير تغيير الاسم من "حزب التجمع الدستوري الديمقراطي " إلى "حزب نداء تونس". أما المشهد الرمزي في الإعلام والثقافة والاقتصاد ... فهي جميعها بيد النظام القديم بسبب تغلغل الدولة العميقة في عمق مفاصل الدولة التي لم تغادرها خاصة وأن المسار الانتقالي لم يحاسب فردا واحدا من الفاسدين أو المجرمين أو ناهبي المال العام أو حتى القناصة الذين قتلوا التونسيين إبان الثورة.
أما حضور الاسلاميين من حركة النهضة في قلب المشهد فذلك لب الحكاية نفسها. فلولاهم لما استطاعت الدولة العميقة العودة إلى المشهد من جديد ولا الانقلاب على مطالب الثوار وإعادة عصابة اللصوص التي ثار ضدها الشعب إلى سدة الحكم من جديد.
لقد عقد الإسلاميون منذ لقاء باريس الشهير بين راشد الغنوشي والباجي قايد السبسي صفقة العمر مع الدولة العميقة التي تركها بن علي ومع سادتها الكبار من القوى الاستعمارية القديمة والجديدة وهي الصفقة التي ضمنت بقاءهم في السلطة شرط القبول بكل الشروط التي سيفرضها وكلاء الاستعمار في الداخل.
من أهم هاته الشروط عدم المس بكل الاتفاقيات والمعاهدات التي تعود إلى فترة الاستعمار المباشر لتونس والتي تضع كل ثروات البلاد التونسية من نفط وغاز وملح وفسفاط وموارد فلاحية وبشرية تحت سلطة المستعمر السابق وشركاته التي تمثل الحاكم الفعلي للبلاد.
اليوم نجح ما سمي زورا بالحوار الوطني في إجهاض الثورة التونسية مستفيدا من حالة الفوضى الكبيرة التي تعاني منها منوالات ثورية أخرى وخاصة في الجوار الليبي الذي يلقي بظلاله الكثيفة على المشهد التونسي. الحوار الوطني كان في الحقيقة اختبارا للقوى الفاعلة في الساحة بعيدا عن الطبقات الفقيرة التي قامت بالثورة ودفعت من أجلها الشهداء تلو الشهداء قبل أن يتسلق المتسلقون إلى المشهد من جديد.
نجح الاتحاد العام التونسي للشغل مثلا في إشعال الحرائق الاجتماعية وفي تدمية المسار الانتقالي عبر تركيع الاقتصاد والدفع إلى الاضرابات والاعتصامات التي شلت الحركة الاقتصادية ورهنت البلاد لصالح المقرضين من صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الاستعمارية المالية الدولية.
أما نقابات الأعراف فحافظت على امتيازات العصابات من رجال الأعمال الذي راكموا ثرواتهم خلال فترة الاستبداد السوداء ولم يحاسب واحد منهم بفضل الوعد الذي قطعه حزب حركة النهضة على العراب الدولي من أجل حمايتهم وتعطيل كل القوانين أو مشاريع القوانين التي تطالب بالمحاسبة.
في المقابل يزداد الفقراء فقرا ويبلغ الاحتقان الاجتماعي اليوم معدلات مخيفة لم تعد فزاعة الإرهاب الصناعي الذي تمارسه الدولة العميقة وخلاياها الاستخباراتية لتنزل بمعدلاته المخيفة وهو ما ينذر بالأسوأ في قادم الأيام.
فباستثناء الساحل الغني حيث الخدمات الصحية والتعليم وباستثناء بعض الأحياء المرفهة في العاصمة فإن أغلب ولايات البلاد تسبح في الفقر والتهميش والبطالة فترتفع معدلات الجريمة والمخدرات والانتحار وكل الأمراض الاجتماعية التي تترتب عن انعدام التنمية واستشراء الفساد والنهب.
ففي جنوب البلاد ووسطها وشمالها الغربي يئن الشعب الفقير في صمت تحت ضربات الفقر وفشل خطط التنمية وانتشار عصابات النهب والفساد المهيكل الذي تشرف عليه الدولة نفسها عبر موظفيها المحليين. فلا خدمات صحية دنيا ولا تعليم لائقا ولا بنية تحتية ولا خدمات إدارية إلا حضور الحرس والعسكر والشرطة والعسس في كل مكان.
ولاعة البوعزيزي مرّت ذات يوم من هناك وتونس لا تزال ترزح تحت نفس العبء الذي تركه بن علي وإن كان الساسة اليوم يتنافسون في دكاكينهم على منصب هنا أو كرسي هناك فإن اليد الحقيقية في تونس لا تزال تمسك بالولاعة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: