الانقلاب التركي وفشله الذريع يساوي حسب هذه القراءة اللحظة التي أشعل فيها شهيد تونس العظيم "محمد البوعزيزي" ولاعته العجيبة ليعلن بداية الموجة الأولى للربيع العربي. اللحظتان تدشّنان مرحلتين فارقتين في تاريخ الأمة الأولى داخلية والثانية خارجية وتعلنان عن بداية مرحة جديدة في تاريخ المشرق العربي وجواره الإقليمي.
لحظة تونس لحظة غضب لا واعية ما كان لأكبر المحللين أن يتوقع تبعاتها القريبة ولا البعيدة لكنها اليوم وبعد أكثر من نصف عقد من الزمان تعتبر اللحظة التاريخية الأضخم في تاريخ العرب الحديث.
لحظة تركيا لحظة واعية أحبط فيها الشعب التركي العظيم وقواه الحية أكبر المخططات الجهنمية من أجل إرجاع تركيا إلى مزارع الموت العسكرية، وهي لحظة لقّن فيها أحفادُ العثمانيين ضباعَ الموت العالمية درسا في إرادة الحياة عند الشعوب الشرقية.
اللحظتان عنوان لمرحلتين أو لموجتين تاريخيتين حيث كانت قدّاحة البوعزيزي إعلان بداية الموجة الثورية الأولى التي انتهى مداها عند إعلان العسكر الانقلابَ على الرئيس المنتخب محمد مرسي في صائفة 2013. مع هذه اللحظة انكسرت الموجة الثورية وصعدت موجة الثورة المضادة متوجّة بدماء الشهداء في "رابعة" واشتداد عود الانقلابيين في ليبيا مع تدفق المال الخليجي الفاسد وتوغّل فرق الموت الإيرانية في الجسد السوري الجريح.
حققت الدولة العربية العميقة مسنودة بأذرعها الدولية.. الإيرانية والروسية والأمريكية والصهيونية والأوروبية.. نجاحات كبيرة على جبهتين أساسيتين.
تتمثل الجبهة الأولى في تحويل الواقع الثوري الزاخر بالأحلام والرؤى والآمال إلى مستنقع للدماء حيث نشرت الدولة العربية العميقة كل أشكال الفوضى من الإضرابات والاعتصامات والصراعات الطائفية المسلحة التي كان أبرز نماذجها الناجحة تنظيم "داعش" الإرهابي. فتحوّل الصراع على الأرض من محاربة للطغاة وللاستبداد إلى محاربة للتنظيمات الإرهابية، وتحولت الحرب على الإرهاب إلى أوْلى أولويات النظام الرسمي العربي التي تُلغي مطالب التنمية والإصلاح ومحاربة الفساد وإهدار المال العام.
هذه الجبهة الأولى حرصت القوى الاستعمارية العالمية على تذكيتها لأنها تمثل الضامن الوحيد لبقاء أنظمة الوكالة الحارسة لشركات النهب العالمية والمانعة لتحرر الأمة ونهضتها.
أما الجبهة الثانية وهي الجبهة الأخطر فتتمثل في قدرة الدولة العربية العميقة بأذرعها الإعلامية ومنصاتها الإخبارية على اختراق الوعي القاعدي للجماهير العربية وتحويل دفّة هذا الوعي من الأمل بالتغيير إلى القناعة باستحالته. فقد حرصت قوى الثورة المضادة على ضخ المليارات من الأموال لقصف الوعي العربي الناشئ بعد الموجة الثورية الأولى بقذيفة واحدة مضمونها أنّ النظام العربي في شكله الاستبدادي هو أفضل الخيارات وأن كل محاولة للتغيير فإن مصيرها الفوضى والموت والخراب والدمار.
الوكيل الاستعماري العالمي حريص على الجبهة الثانية لأنها في الحقيقة هي المنتج والمولّد للموجة الثورية وهي المفعّل لسنَامها الانفجاري الذي أطاح برؤوس الاستبداد خلال التجربة الفجائية الأولى.
لكنّ بداية نهاية الموجة الانقلابية على الثورة العربية وعلى الوعي المصاحب لها بدأ مبكرا مع بوادر فشل الانقلاب المصري وخاصة بوادر الانهيار الاقتصادي المصري رغم كل المليارات التي ضُخّت فيه ثم صمود الثورتين الليبية والسورية رغم كل المجازر المرتكبة والمؤامرات المتتالية.
ولتعزيز الموجة الانقلابية بشكل كبير خطط النظام الاستعماري العالمي بقيادة الولايات المتحدة ـ كما أثبتت ذلك الصحافة التركية ـ للانقلاب على التجربة التركية بما هي واحد من أهم خطوط إمداد الثورات العربية في المنطقة ماديا ومعنويا. لكنّ الانقلاب فشلَ.
هذا الفشل يؤشر على بلوغ الموجة الانقلابية سقفَها الأعلى أي أن الدولة العربية العميقة المتحالفة مع النظام الاستعماري العالمي ومع الأطماع الامبراطوريات المتمددة في المشرق العربي وعلى رأسها إيران والكيان الصهيوني لا يمكنها أن تحقق أكثر مما حققته في ذبح الثورة العربية الشعبية السلمية.
هكذا تحدّد مجال الثورة المضادة وسُطّرت زواياه النهائية بمجموع الانجازات التي حققتها دولة الأعماق ولا يمكن له أن يذهب إلى أبعد من ذلك بل إن حركته ستأخذ ـ بحكم قوانين التغيرات الاجتماعية والحضارية ـ في الانمكاش والانغلاق. اللهم إلا إذا نجح انقلاب ثان في تركيا وهو أمر مستبعد تحليليا لكنه يبقى احتمالا ممكنا ما لم تُنهي الحكومة التركية الشرعية استئصال الدولة العميقة واجتثاث الكيان الموازي بكل تفريعاته الداخلية والخارجية استئصالا تاما.
إنّ ما يُطرح على منظّري الثورة المضادة اليوم هو المحافظة على مكاسبهم التي حققوها أي إنجاح "المسار الانتقالي الانقلابي"، وذلك بالمحافظة على المشهد وتسويقه إعلاميا بأنه وضع قابل للديمومة وللتطبيع. هذا الخيار يعتبر الخيار الوحيد لأن الخيار الثاني وهو استعادة مشهد ما قبل الثورات من هيمنة الدولة القمعية يمثل ضربا من المستحيل بسبب انهيار حاجز الخوف السميك الذي كان يحصّن الاستبداد. لكن المشكلة التي تواجه وكلاء الثورة المضادة هو أن الخياريْن صارا غير قابليْن للتحقق لأن المحافظة على المشهد الانقلابي مستحيلة اجرائيا بسبب تأسسها على خلل بنوي مركزيّ وهو "انعدام الشرعية الشعبية".
بناء عليه وبحسب المؤشرات العامة ـ وخاصة تلك القادمة من مركز الموجة الانقلابية العربية مصرـ فإن الحركة الانقلابية بصدد الانحسار وهي تتجه في صالح المطالب الثورية بسبب عجز الانقلاب ومموّليه من دول الخليج خاصة عن تلبية شروط الانقلاب التي لا تنتهي.
بقي الشرط النهائي لتصحيح الوضع لفائدة الشعوب المسحوقة التي اغتصبت ثورتها وهو تفعيل الشرارة الثورية القادرة على تحريك موجة الغضب الثانية مدفوعة بنجاح الفعل الشعبي التركي وخاصة بانكشاف خيانة النخب العربية لمطالب الجماهير.
اللحظة اليوم هي لحظة مصيرية في حياة الأمة العربية التي تقف عند مفترق الطرق بين ثورة موءودة بالانقلابات على أرضها وبين انقلاب موءود بالحراك الشعبي على أرض الغير، وهي تدرك في وعيها وفي لا وعيها أنه لا خيار لها للانعتاق من ربقة الاستبداد إلا بتجديد شروط الثورة وتفعيل شرارتها حتى تُتمّ ما لم تُتّمه خلال الموجة الثورية الأولى ويحقق الإنسان العربي إرادة الحياة التي طال انتظارها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: