نوال زويدي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 3244
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يمثل التفكير في اللون نوعا من التواصل الداخلي، يعرض حاجة اللون إلى الانكشاف، كأن هناك حياة لا مرئية تريد اكتساح حدود الطوق. ‘إنه منعطف روحي’ سيتحول إلى منعطف فينومينولوجي، فيضع حقيقة الأثر أمام المشاهد لتنكشف باعتبار أن هذه الحقيقة تبدأ في الظهور لحظة اشتغال فعل التلقي. هذا التلقي ذاته هو تلقّ كاشف، لا يهتم بالتقبّل فحسب، بل يتأمل، يدرك ما لا يظهر، يجلي ما يبقى متخفيا فيتوق إلى جعل الوجود منكشف.
ونستدل أن فعل تلقي اللون، فعل خارق يتجاوز الأشياء يحضر في الأثر ليدرك ما يُمتع بمعنى البحث في جماليته. من البيّن إذن أن في تداخل الفينومينولوجيا واللون، تداخل يحمل فعل التلقي من معاينة الواقع إلى أخرى أكثر عمقا تبحث في جعل المرئي مرئيا أكثر.
ولقد صار من الواضح أن المبحث في اللون، مبحث يهتمّ برصد العملية الإبداعية لا لتمثيل الحقيقة، بل تعيين ما يظهر في الإدراك و المعيشي و الحسّي وحتى الفكري. فتكون لحظات البحث عن الذات، تفاجئنا أنّنا باللون لا نسير إلى مجرد أشياء أو مجرّد مساحات ملوّنة، بل هي أشياء نحافظ على طبيعتها الأولى لتتخطى نظامها. فينتج أشياء أو لنقل ألوان لا تكشف معانيها وحتى قيمها إلا ضمن مجال يتخالف مع نظام الطبيعة.
وفقا لهذا التصور يكفّ الأثر عن الانتماء إلى أفق العالم، فيبحث لنفسه عن عالم جديد، انتماء جديد. ويقول ‘ميشال هنري ‘ ‘ حصى « les tesselles » الفيسفاء و لوح الحفر أو نحاسه أو قماشة اللوحة والألوان التي تحيط بها هي أجزاء من العالم... بيد أن تلك العناصر المادية ستتحيّد، ولن تكون مدركة ولمن تُطرح كموضوعات في العالم عندما نلج مع التصوير الخاصّ، ستكون تلك العناصر وحدة وظيفة لها سوى إنتاج حقيقة متمثلة في اللوحة... التي ستكون به دورها محيّدة، لا تنتمي إلى العالم مثلما لا تنتمي عناصرها إليه ‘ .
يعدّ هذا التماثل بين اللون والفينومينولوجيا عروجا قد يُفقد العالم معناه حين تكف الألوان عن الترميز، لكي يكسبه معنى جديدا ودلالة تنبع من أصقاع الذات، وهذا ما يلج بنا إلى التفكير في التبادل الإيجابي بين المنظر والأشياء في التعبير، بين المعنى واللامعنى وبين العين والروح وبين المرئي واللامرئي، تكف فيها عناصر الأثر الفني المادية عن التدليل، تصور سندا أو حاملا ينقلنا من ماهية الفني إلى أثر آخر يتموقع خارج العالم بمعنى معطى روحي بحت. لعلّ هذا ما يكشفه التوجه الفينومينولوجي في رصد حالة ظهوره و معاينة تفاصيل الإظهار فيه.
فكل موضوع تكمن خاصيته الأساسية والميزة الأولى في كونه موضوعا في حيّز الحضور الواقعي والحسي، و من المهم إذن أن نفهم مع هوسرل هذه الميزة لنمط الظهور.
تضع إذن الفينومينولوجيا الوجود بين قوسين، لأنها لا تريد أن تحكم على الأشياء في ذاتها بل تريد أن تضعنا إزاء العالم المدرك، الموجود، المشعور به، المتعقل والمحكوم عليه... وحين يمارس الفيلسوف الفينومينولوجي عملية التوقف عن الحكم التمعن بتدقيق النظر فيه، فإن ما يظهر أمامه ليس هو العالم أو أي منطقة من مناطق العالم، بل ‘معنى’ العالم .
لا تكون مهمة عالم الظواهر سوى العمل على فهم (أو وصف) تلك الظواهر المختلفة ، لما لم يعد يشير إلى موضوعات بل إلى وحدات معنى، ويدعو 'هوسرل' في هذا النسق إلى الكشف عما هو معطى وإلقاء الأضواء عليه والنظر مباشرة في تناول الوعي، بوصفه موضوعا أصليا: أي ظاهرة والظاهرة تعني ظاهر ما يظهر، فكل الفنون تُستدعى وذلك بصفتها تساهم في بلورة ظاهرة ما يظهر، ‘فما يظهر ليس شيئا في ذاته، أي يوجد وجودا مستحيلا، بل ما يعطي ما يكون محل قصد’ . فلعلّنا نفسر فلسفة الظاهرة بالحالة التي نقصي فيها التعالي أو استحالة المحايثة.
من البيّن إذن إدراج اللون ضمن المبحث الفينومينولوجي، لأن له وجود محسوس يظهر وينكشف ليفسح المجال لعالمه. فهو أسلوب لرؤية صورته ونمط ظهوره في الأثر الفني، أي كأنه انكشاف عن مكنون داخلي.
كما تعتبر الفينومينولوجيا حسب 'هيدقير' ‘تحليل الطرائق المختلفة للوجود ونقلها من المستوى الغامض للموجود اليومي إلى لغة صريحة انطولوجية وتقتضي ممارسة الفينومينولوجيا الإظهار والكشف ويقول هيدقير في هذا السياق : ‘ليس للانطولوجيا إمكان أن تكون سوى فينومينولوجيا... والحق أن الظواهر ليست في البداية معطاة في غالب الأحيان و هذا ما يجعل الفينومينولوجيا تستجيب إلى حاجة، أن مفهوم الوجود المتخفّي هو المقابل لمفهوم الظاهرة’ .
ولعلنا مع الفينومينولوجيا نشهد نقلة نوعية من الاهتمام بالوجود إلى الاهتمام بالموجود أي بما يظهر ويتراءى ‘فإن الأساسي في الفينومينولوجيا هو هذا الترابط القصدي أو هذا التحايث المسبق بين الذات والموضوع الذي لا يترك مجالا لتصور تناقض أو تضاد بينهما (...) ‘ .
إن عملية إدراك اللون كحالة يعود في الأساس إلى تحويل اللون من بعده الطبيعي الخارجي (غطاء اللوحة) إلى بعد فينومينولوجي يهتم بكل ما هو داخلي يلامس
الذات ويخاطب الحياة اللامرئية. من هنا تتأتى جمالية اللون، فليس جماله يكمن في أبعاده الخارجية أو ما يضيفه على الأشكال، بل جمالية اللون تولد من تلك الحقيقة التي تقبع داخله. فيكون بذلك مهد اللوحة أو الأثر الفني يثيرها حسيّا، و في نفس الوقت نستبعد منه كل موقف طبيعي. لعلّنا نفسره من كونه ‘(...) نظر يلتقي فيه مسار الفينومينولوجي بمسار الفنان ليعارض الطبيعة Le Naturaliste ويدرك العالم معا كظاهرة صيانة وبلا مفهوم(...)’ . المسألة صارت فينومينولوجية بمعنى رحلة الداخل، فكل معطى خارجي هو حالة امتناع، نبحث معها، نستدرجها لهتك داخلها ولتكون الرحلة واصلة بين الداخل والخارج، تتمثل فيها الحاجة الداخلية.
وتتقارب فيها الضرورة الداخلية بالبعد الفينومينولوجي، لأنها تُمتعنا بذاك الامتداد في كل لحظة وقصديا بين الظاهر و الباطن، من البعد الحسي إلى البعد الروحي، و من الجمال الخارجي إلى الجمال الداخلي : ‘ فالإنسان لا يتوق إلى داخل إلا أنه يتوق إلى داخل إلا لأنه يتوق إلى الخارج(...) .
هذا التوجه يقر بإدراج منهج ينأى عن المألوف، يقر باللون المهندس الرئيسي للوحة و قد تأكد ذلك أكثر مع 'كاندنسكي' الذي اهتم بالجانب الروحي التعبيري للألوان. فكان اللون يدعو شأنه شان الفينومينولوجيا إلى رؤية ملازمة للوعي الإنساني و رد الوعي إلى الأشياء ذاتها داخل أفق الظاهر.
ليكون من هذا المنطق البحث في اللون فينومينولوجيا يساهم في فعل الإظهار أي كشف ما يخفى وليس كشف ما يحضر. إنها عملية تخطي وتجاوز صعوبات الغوص في اللون بالمرور إلى إظهار ممكناته القصوى وماله من إيحاءات. نقول أنها قراءة جديدة للون من بعده النفعي المادي إلى بعده الحسي والخفي. فتتمثل كما لو أنها مكتنزات دقيقة تثير في مجملها المحسوس والروحي. تعكس توجها روحيا في الفن سيكون منعطفا فينومينولوجيا يستدل قراءة اللون من جانبه اللامعاش / أي الغير مألوف.
مثلت توعية الرؤية، توعية تقر بتركيز تفكيرنا وحتى تأملاتنا في مجال اللون لا من ظاهره، بل من باطنه. نتناسى ماديته، ونريد إمساك ما حجب خلف المادة ولم تعكسها لنا، كأننا نؤول إلى المرآة لعكس هذا المخفي، يكون إذن اللون عاكسا بعد أن كان كساء للوحة.
قد جسّد هذا البحث في إمكانية التأسيس اللامرئي في الفن، من خلال ذلك التحول الصريح من البحث في المرئي إلى الغوص فيه أكثر. وقد ضمّن بعمق تشكل اللون في عالم اللامرئيات وإمكان رصد الانتقال الذي أمكننا من النظر فيه نظرا دفينا داخليا، يقرّ بالمسار الذي أحدث في مجال الرؤية.
مثلت الرؤية السمة البارزة في هذا المجال، وهو دليل على ذلك الارتباط الثابت القائم بين المضمون الداخلي وشكله الخارجي لتعكس جميعها الواقع البديل الذي أحدثته رؤيتي في الألوان متجاورة الواقع الطبيعي لها، لكنها تبحث في مسألة وجودها كمبحث انطولوجي. تُعنى بعالمها المخفي وعكسه على الواقع حتى نتمكن من دراسة ظاهرته و نتعلم كيف ندخل إلى معناه.
يمثل تباعا اللون ـ اللامرئي : قدرتنا على تجريد أنفسنا من الظروف المحيطة، لنحدث فيه شرخا، يترائي لنا صورته التي تعيش في النفس. تتجسّد إذن حقيقة اللون في الأثر بطريقة لا يمكن أن نطولها نبلغها إلا بجهد روحي مضمّن.
هذا الفهم الجديد للون، توطيد لعلاقته القوية بالمخفي، للظهور في تماه يتمايز عن عالمه المرئي، يجعلنا نفكر فيه من جانبه الفني التشكيلي، بمعنى كيف ينشأ و يتشكل اللون في اللامرئي.
-------------------
تقديم نوال زويدي، قفصة
جامعية باحثة في الفنون التشكيلية، الحضارة واللغة العربية وآدابها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: