يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
هذا كتاب عجيب وقعت عليه عيني ذات يوم وأنا أدور على المكتبات الكثيرة الغاصَّة بالكتب التي لا تعنيني مما أخرجت المطابع في هذه الأعوام الخمسة ومعظمها يدور على الحرب، وقد قرأت الكثير منها فلم أستفد إلا العناء، ولا أدري لم لا تُعنَى دور النشر الغربية أو المعاهد الثقافية البريطانية والأمريكية بتزويدنا بالجيد من الكتب في الآداب والفنون والعلوم، فإنه حتى المحارب نفسه، حين يعود من الميدان ليُعالَج أو يستريح، يضجره كتب الحرب وما إليها مما يتفرع عليها، ويشتهي أن يجد كتابًا يُنسيه ما كان فيه.
رأيت هذا الكتاب فترددت، فما سمعت بصاحبه، ونفَّرتني منه كثرة الأغلاط المطبعية على خلاف المعهود في الكتب الإنجليزية التي لا يقع المرء فيها على غلطة واحدة، أو حتى على حرف مقلوب.
وتصفحت المقدمة فزادتني نفورًا من الكتاب، ذلك أن المؤلف يصف اللغة العربية بأن صعوبتها تطير العقل، ولهجته على العموم لا تخلو من فكاهة وسخر، غير أن سعة صدره راقتني فاشتريت الكتاب وعكفت عليه ليلتين حتى أتيت عليه.
وأعترف أنه حيَّرني، فما أدري أي رأي أُبدِي فيه، ذلك أنه كتاب لا جديد فيه لمثلي من أبناء العربية، ولست أظن المستشرقين الذين توفروا على درس العربية وأدبها وتاريخه وما هو من ذلك بسبيل يجدون فيه جديدًا، ولكن طالب العربية من أبناء الغرب لا يعدم فائدة وإن كان خليقًا أن يخرج بأوهام غير قليلة، وأغلاط كثيرة وصورة عامة لا تعد صحيحة.
ولكنه يَحسُن أولاً أن أذكر شيئًا عما في الكتاب، الفصل الأول منه موضوعه اللغة العربية، وهو فصل منحوس لا يدل على فهم لها أو علم بها، ومن قوله فيها: «إنَّ من المشكوك فيه جدًّا أن يكون أحد قد حذق الجموع العربية أو الفعل العربي.» ومنه أيضًا وهو أعجب: «إن الطالب الذي يريد جادًّا أن يدرس أجرومية «رايت» خليقٌ أن يُرشَّح للدخول في مستشفى المجانين.»
ثم يلي ذلك فصل وجيز في الأدب القديم — الشعر الجاهلي والقرآن — ورأيه في الشعر الجاهلي أنه بديع، ولكنه عسير الفهم حتى على أبناء اللغة نفسها بغير الشرح، وأن الشرح نفسه يحتاج أحيانًا إلى شرح، وأن مدار الصعوبة هو الغريب وتعدد معاني اللفظ الواحد، ومَثَّلَ لذلك بلفظ — لم يعينه — قال إن من معانيه شيخ القبيلة أو رئيسها وزعيمها ووتد الخيمة، والحمار الوحشي، والجبل والقذى في العين.
والفصل الثالث في حياة محمد، وقد اعتمد فيه على بعض ما نُشر باللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية مثل كتابي مرجوليوث، وموير، وكتاب سير أمير علي، وكتاب البرنس كيتاني (الإيطالي) ولامنسي وسيرنجر، وعلى ترجمة ابن هشام، والبخاري طبعة القاهرة، ومسند ابن حنبل طبعة القاهرة، وفي هذا الفصل يبدي آراء شتى لا نعرف لها مسوغًا، وفي آخر هذا الفصل يورد ترجمة طائفة من الأحاديث على سبيل الاستشهاد، ولا يخلو تعقيبه على بعضها من السخر من المستشرقين.
ويلي ذلك ستة عشر فصلًا، في حوالي مائة وأربعين صفحة هي عبارة عن ترجمة أحاديث تخيَّرها من البخاري ورتَّبها على الموضوع، كالصلاة، والحج، والصيام إلى آخر ذلك، واعتمد في ترجمته لها على ترجمة «هودا ومارسيه» الفرنسية مع الرجوع إلى الأصل العربي المطبوع بالقاهرة وإلى القسطلاني والعيني.
وأردف ذلك بثلاثة فصول في: معجزات محمد، ووأد البنات، والحجاب، وفصل في المؤرخين، وآخر عن عنترة وبني هلال، وفصل في المتنبي وأبي العلاء، وفصل في رسالة الغفران (عن الطبعة المختصرة التي نشرها الأستاذ كامل الكيلاني)، وفصل عن بهاء الدين زهير وابن الفارض، ثم فصل ختامي يشير فيه إلى أبي نواس وصعوبة شعره ويشك في أن كثيرين قرأوه، وإلى الفلاسفة على العموم وابن رشد على الخصوص، ويقول فيه إن مما يُعزِّي من لم يقرأ كتب هؤلاء الفلاسفة أن يرى دائرة المعارف الإسلامية تقول في أكبرهم وأعظمهم — ابن رشد — أنه لم يكن فيلسوفًا مبتكرًا.
وهذه خلاصة لا تعد وافية، ولا ترفع قبل العيون صورة صحيحة للكتاب، والحقيقة أن من العسير أن يتبين المرء الغرض من هذا الكتاب، فإذا كان ترجمة مختارات من الحديث، فما دخل ابن الفارض والبهاء زهير، ولماذا ساق قصة عنترة؟
ليس الغرض التعريف بالإسلام والأدب العربي، فما جاء بشيء جديد، ولا عُنِي بالبحث الوافي في باب من الأبواب، وكل ما ساقه رجع فيه إلى ما نُشر من المطولات باللغات الأوربية، وما رجع قط إلى نص عربي إلا ليقول إنه صعب، ثم إن التعريف بالإسلام لا يقتضي أن يقص قصة عنترة أو أن ينقل ترجمة قصائد أو مقطوعات للبهاء زهير أو ابن الفارض والمتنبي.
فهو من هذه الناحية يعد خليطًا غير مفهوم، ولا يبدو أنه يرمي إلى غرض واضح، وهذا إلى أن مؤلفه ليس متمكنًا من العربية، ولا مالكًا لزمامها، وقد أقرَّ بضعفه في مواضع شتى من الكتاب، واعترف بأنه لم يقرأ هذا أو ذاك من دواوين الشعراء، أو كتب السيرة، أو كتب التاريخ، أو آثار فلاسفة العرب، ومع ذلك يصدر أحكامه ويفتي غير مُتلعثِم أي متردد.
وقد أذكرني هذا الكتاب أن مجلة الأزهر كانت قد شرعت تنشر ترجمة حرفية دقيقة للحديث، ثم كفَّت عن ذلك، لا أدري لماذا، ولما كان بعض المستشرقين قد ترجموا شيئًا من الحديث ترجمة لا تخلو من خطأ، أو ينقصها الشرح الذي يمنع سوء تأويلها، فإنه يحسن أن يتولى ذلك أبناء العربية فإنهم أعرف بلغتهم، وأقدر على فهمها، ولا خير في القول إن الترجمة تسيء إلى الأصل أو تشوهه، أو تفقده بعض قوته أو جماله، فإن المستشرقين يترجمون ولا ينتظرون رأينا ولا يعبأون بما نخشاه أو نتوهمه.
وقد أعود على هذا الكتاب لأعرض نماذج مما اشتمل عليه من الآراء الغربية والترجمة التي شوَّهت الأصل.
-------------
جريدة البلاغ
٢١ مايو ١٩٤٤
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: