الدولة الإسلامية وسياسات الدول الأربعة الكبرى الخاطئة من الإسلام
د. المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 4727
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في خطابه أمام برلمان بلاده يكاد الرئيس الفرنسي يعلن علينا الحرب الثالثة العالمية، في أول رد فعل له على هجمات باريس التي تبنتها الدولة الإسلامية في العراق والشام. والتي لم يتردد في تسميتها باسم الدولة دون أن يمنحه القانون الدولي ذلك ولا تم الاعتراف بها من إحدى الدول. وذهب الى حد مطالبة برلمانه بإطلاق يده للحرب عليها، ودعا الدول الحليفة لإسناد حملته عليها، ربما ليس بما يشبه الحنين الى استعمار سوريا من جديد، ولكن باعتبار دور فرنسا المحرر للعالم من إرهاب هذه الدولة، دون أن يقدر ردود فعل المعارضات داخل بلاده وخارجها على قراراته المتعجلة، والتي لم تتأخر عن الظهور بقوة وتخييب ظنه، بل وتدعوه الى التعقل والتمهل حتى لا تنزلق ساقه الى ما انزلقت اليه سياسات بوش الابن وبلير في حربهما على العراق وأفغانستان.
والوضع الداخلي، الذي أراده أن يلتحم أكثر بمناسبة هذه الأحداث حول سياساته الاجتماعية والاقتصادية والخارجية، لم يزده إلا ضعفاً في الأزمات، الى حد التشكيك في القرارات التي اتخذها لتثبيت أركان حكومته المزعزعة أصلاً وفي مقدمتها تنقيح الدستور من أجل صلاحيات أوسع لسلطاته.
ويكاد يشار اليه بالإصبع من طرف كبار السياسيين في بلاده حتى من حزبه بمسؤوليته الثقيلة على ما أدخله من تصدع في المجتمع الفرنسي بسبب قوانين الهجرة والجنسية ومكافحة الارهاب. وليس بالهين أن تتطابق أحداث باريس الأخيرة مع ذكرى مرور عام يوماً بيوم لإصدار قانونه لمكافحة الإرهاب المشهور بتضييقاته على الحريات والتمييز بين المواطنين.
فالدولة الاسلامية التي أمكن لها أن تضرب باريس في مقتل لم ترق الى تلك المنزلة من التنظيم والتخطيط والتنفيذ إلا للنسيج المخابراتي والأمني المخترق من طرف طائفة من الفرنسيين أنفسهم من أنصارها، ليس فقط باعتبارهم مسلمين ولكن في الأكثر باعتبارهم فرنسيين غيورين على تغيير أوضاع بلادهم نحو سياسات أفضل اجتماعية واقتصادية وثقافية.
ولا عجب أن يكون المدد الأكبر للدولة الإسلامية من مجتمعات غير إسلامية أصلاً، ولكنها بالعقيدة النضالية كانت تبحث عن ثورات عالمية كالماركسية والماوتسية والجيفارية لتلتحق بها لتحقيق أهدافها، فتبنّت هذه المرة "الإسلامية الدولية".
فكم رأينا من ثورات لا تزال تحارب القوى العظمى في الباكستان وأفغانستان وفي مالي والصومال وأخيراً في الشام والعراق، وتطلق على نفسها إسلامية، أو ما يفيد انخراطها في هذا الإسم المستقطب للهمم والعزائم من أجل التغيير الأفضل للعالم نحو غد أكثر عدالة وحرية وكرامة. ونجد الدول الكبرى تقوم على مساعدتها والتهافت الى استقطابها لأغراضها ومصالحها الضيقة دون أن تظفر بجدوى.
وبذلك أفرَخَ ما تسميه هذه الدول الكبرى "الإرهاب" وُتجنّّد من حوله كافة الدول الصغرى لجرها الى سياساتها الخاطئة داخلياً وخارجياً. وما الأزمة المالية والاقتصادية التي تنخر العالم إلا بسبب تلك السياسات وفضائحها المالية والأخلاقية. وما الحروب بالوكالة التي تتولاها هذه الدول القوية وتضخ لها المساعدات والهبات والقروض إلا لإنعاش اقتصادياتها وضمان مستقبلها دون الأخيرة. حتى أن التفكير البسيط يقودها أحياناً الى حرمان الشرق الأوسط كله والدول الإسلامية من منحة الخالق للبترول في ترابها. وما قمة البيئة القادمة إلا وسيلة لتجريدها منه عبر سياساتها لتجفيف المنابع، باعتبار تلك الدول متهمة لديها بتمويل الإرهاب عقيدة وسلاحاً.
فالسياسات الخاطئة لحكومات فرنسا منذ ساركوزي وحتى قبله كانت كلها تصب في التفريق بين إسلام علماني وإسلام حركي، ولكنها لم تنجح لأن تفكيرها قائم على عدائية مبطنة للدين عامة تحت ستار العلمانية لتجنيب مجتمعها الصراعات التي عاشتها قديماً في ظل الكنيسة وتجاوز حساسياتها فيما بينها على السلطة بعيداً عن العقيدة. ولكن الإسلام كما يعتقد فيه أهله ليس بالدين الكنسي ولا الدين العلماني الذي ينفّر الناس من الدنيا، بل الدين الذي لا تكاد تفرق بين أصحابه إلا بالمزج بين السلوك والاعتقاد.
فتكون هذه الدول بسياساتها الخاطئة نحو الاسلام في بلادها، فضلاً عن خارجها، قد خلقت الدولة الإسلامية العنيفة في سوريا، أو انطلاقاً من سوريا لتشمل بجميع الوحشية التي لديها - كما تسميها هي نفسها حسب أدبياتها - كافة أنحاء العالم.
فهل تعترف فرنسا ذات التقاليد المثيرة للذاكرة في التعامل مع الإسلام حتى بعد الحروب الصليبية وفي علاقاتها الاستعمارية مع دوله في المنطقة أو دوله الكبرى آنذاك في آسيا وإفريقيا والمتوسط، بالفضاعات التي ارتكبتها خاصة في الجزائر.
ولذلك أصيب الفرنسيون بالذهول لهول الهجمات الباريسية الأخيرة التي استحضرت لأذهانهم شبح المقاومة الجزائرية في عنفوانها على ترابهم. ولكن مع فرق الزمن والعولمة التي اكتسحت بمعتقداتها الجديدة، الدينية وغيرها أصبح الإسلام غير الإسلام المتلصق بأقوام بعينها ممنوعة كاليهود والعرب من التواجد خارج حدودهم التقليدية أو الأصلية. وإلا لما اعتقد الكثير من الأوروبيين اليوم بفضلهم على نشره قديماً في شبه الجزيرة الإيبيرية وخارجها أكثر من العرب أو الأتراك أو العجم أو السودان الأفارقة أو القبط والبربر على نشره في آفاقهم.
وكل السياسات الشمولية كالشيوعية والإمبريالية عجزت عن صد الإسلام أو عكس تيار تقدمه في البلدان التي أبت تلك السياسات إلا أن تحارب قومياته وأممه لحساب مصالحها الاستغلالية.
ولا مناص لحرب الإرهاب، الذي التبس بالاسلام ودوله في الشرق الأوسط وإفريقيا حتى تَسمَّى بالدولة الإسلامية أخيراً، ذات الوجود بحدود متحركة على الأرض وذات تنظيم وتمويل وخبرات عسكرية رهيبة، إلا بحرب من جنسه، لا أقول حرباً مقدسة ذات طبيعة خارجة عن طبيعته، ولكن بحرب مكافئة، تقتلع من الدولة الإسلامية القائمة باسمه الآن في الشام والعراق كل شرورها ووحشيتها التي تطال الأبرياء بذنب غيرهم (أقصد السياسيين). وهى أن تتصالح تلك الدول الكبرى، خاصة الأربعة الأقوى تسليحاً في مجلس الأمن، وتُفسح للدولة الإسلامية التي يبتغونها شريكاً كفؤاً في القرارات الدولية الحاسمة في شخص أية دولة في آسيا أو إفريقيا، حقَّ الفيتو مثلهم، باعتبارها الدولة الإسلامية المنشودة في تقديرهم لا هذه.
عندئذ تجد قضية الشرق الأوسط الحل، بصورة من الصور المرضية، في كنف سنة وشيعة ويهود وعرب وروم وأكراد وصابئة ونصارى وإيزيديين وغيرهم. ويعاد تشكيل خارطة الشرق الأوسط وإفريقيا لا على قاعدة سايس بيكو أو غيرها من القواعد الاستعمارية القائمة على فرق تسد، والديمقراطية المغشوشة، ولكن على قاعدة الدول الكبرى المتكافئة في القوة والسلاح، لضمان أمن العالم من الإرهاب العشوائي المتولد من الاختلالات الدولية القائمة الآن.
أما إذا بقيت سياسات هذه الدول تراوح مكانها من الإسلام الإرهابي وحرب الجهاديين وملاحقة طوائف من شعوبهم بانتمائهم اليه الديني أو العرقي أو الثقافي، وسن القوانين الزاجرة، فإن الخراب سيلحقهم. وذلك ما تريده لهم الدولة الإسلامية الحالية. والخسارة تلو الخسارة في معاركهم معها ستتابع، لأن للتسميات مدلولاتها التي لا تتبدل في أذهان الناس ومعتقداتهم، مهما أضفت لها من لواحق وزيادات. فالجهاد هو الجهاد في الإسلام، ركن من الأركان له مشروعيته، وشرطُه الأوفى إذن الإمام به، ولو من إمام جائر، للدفاع الشرعي عن الأمة لا غير. والإسلام هو الإسلام وما دونه هو تنويع عند أفراد دون أفراد وجماعات دون جماعات. ولا يغير اختلافها في جزئيات منه. أما في حال الخطر عليه، عندما يمس جوهره، فالنفوس كلها تلتقي حول الجهاد في سبيله وحول الهجرة في سبيله كذلك. وكلها طقوس لها حرمة.
وليس أعرف بهذه الحقائق الوثيقة في الإسلام أكثر من علمائه من الأوروبيين في الحالة الراهنة لقوة المواجهة لحكوماته معه الآن ومنذ القرون أخيرة.
وإني من أرض الزيتونة تونس الإسلامية بقيروانها المعروف الى فرنسا العلمانية مهد السربون والبانتيون بلد الحريات والأنوار، التي تعلمت فيها كأحد أبنائها وتشبعت بثقافتها كأحد علمائها ومفكريها، أتوجه بهذه الكلمة التي كتبتها بعد واجب الحزن معهم على ضحايا تفجيرات باريس الشنيعة داعياً الى إيلاء فرنسا ظهرها لشبح الصليبية والاستعمار، لكي لا تعود بنا الى سيرتها الأولى يوم كانت أفضع اسم يصيب كرامتنا وحريتنا واستقلالنا، سواء تونس أو بلاد الشام أو الجزائر.. وما خنجر سليمان الحلبي (الأزهري السوري) الذي قتل به الجنرال كليبر في مصر ببعيد (والمحفوظ الى الآن في متحف باريس) .. فتبقى فرنسا الحريات والأنوار مسالمة للإسلام وأهله بكل مكان وزمان، وبذلك تكبر في عيون العصر وتتصالح مع نفسها ومبادئها في الحرية والمساواة والإخاء بمناسبة هذه الصدمة الدينية - وإن قال هولاند الحضارية - فتكون لتونس الصديق حقيقة والجار المتوسطي حقيقة والمساوي في الأخوة كذلك بمعنييها في شعار جمهوريتها وفي الإسلام، أتوجه بهذه الكلمة لقادتها وسياسييها ليسالموا الدولة الإسلامية ما سالمتهم، لينتزعوا شوكة الجهاد من نفوس أبنائها بسقوط مقتضاها، ولا يكون الحرج في الحرب عليها متأت كذلك من تطابق مسماها مع مسميات دول إسلامية أمثالها كجمهورية إيران الإسلامية وجمهورية موريتانيا الإسلامية وجمهورية الباكستان الإسلامية ودول أخرى ربما، فيقوى الضغط على العقول للتمييز بين هذه وتلك في حمل راية الإسلام والانتصار لقضيته وفي مقدمتها فلسطين، أرض الشام المقدسة من قديم التاريخ والحضارات، رأس شبه جزيرة العرب من بلاد النهرين الى اليمن السعيد.
تونس في ١٥ نوفمبر ٢٠١٥
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: