البحث عن الهوية المفككة من خلال توظيف المدينة العتيقة في السينما التونسية
وئام فاتح - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6179
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يعيش التونسي اليوم تذبذبا وانفصاما في تشكيل حياته، ونجده في هروب دائم من ذلك الشعور بالذنب نحو محاولة إعادة إحياء التراث بشتّى الطرق في ترسيخ منه لهويته، وعلى هذا الأساس تكون مسألة التراث من المسائل المطروحة اليوم بشكل حاد في الوسط الإبداعي، خاصّة وأننا أمام غزو ثقافي كبير لم يحول دون سعينا المتواصل للمحافظة على ذواتنا وعلى هويّتنا المهدّدة بالإنقراض.
فيحاول كلّ منا انطلاقا من مجال إبداعه التكفير عن ذلك الذنب، كما هو شأن السينما التي جعلت لنفسها مخرجا وطريقا تسلكه، حيث كان تعاملها مع التراث في أغلب الأحيان عبر توظيف المدينة العتيقة كرمز ومنبع وحاضنة له في نفس الوقت. وهو ما يفسر ميلها الكبير للتراث لتتّخذ منه مجالا و فضاءا في إبداعها.
غير أن البعض يرى أن حضور المدينة العتيقة في السينما التونسية هو إرضاء للشركات الغربية التي تشارك في الإنتاج لاسيما وأن تونس من الدول التي عرفت الإستعمار سابقا فهي تعدّ محل أنظار الغرب دوما وخاصّة المبدعين منهم والذين يجدون فيها ما يمكن أن يغذّي فكرهم وخيالهم الإبداعي، وذلك لما توفره من مناخ خاص وجغرافية متميزة ومختلفة، وأيضا لثراء فولكلورها، ممّا أدّى إلى توالي الإنتاجات السينمائية التي كانت في معظمها تتميز بالنظرة الإستشراقية محاولة نقل الطابع الشرقي للبلاد التونسية من خلال إستغلال العديد من المكوّنات التراثية التي تزخر بها، لاسيّما منها المدينة العتيقة لجمال هندستها وروعة معالمها. و بقطع النظر عن مدى صحة هذا الرأي فإن السينما التونسية بدورها قد تناولت هذه الظاهرة من زوايا مختلفة لتتحوّل أحيانا نظرة المخرج التونسي للتراث إلى حالة من التفكك تصل به أحيانا إلى حالة مرضية أكثر منها إبداعية. وفي هذا الصّدد من الضروري أن نذكّر بأن أوّل شريط في السينما العربية طرح قضية التراث كان شريط "المومياء" للمخرج المصري شادي عبد السلام والذي يعدّ المرجع الأول الذي يتحدّث على التراث، أما محليّا نذكر المخرج التونسي "الناصر خمير"الذي يرجع في شريطه "الهائمون في الصحراء" إلى رموز الماضي ويفكّكها في بحث عن الهوية. لتمتد هذه الظاهرة في السينما التونسية بصفة واعية أو غير واعية لنجد بأن لكل مخرج نظرته حول كيفية تقديمها وتناولها.
غير أن الحديث كان دوما على أنّ السينما المحليّة إنحبست في مكان المدينة العتيقة في حين أننا لم نحاول تحليل النظرة التي قدّمتها حولها، فالحديث والتركيز عليها ليس عيبا في حدّ ذاته بل إنّ المهمّ هي المقاربة التي يجب تحليلها والتي من خلالها يمكن ان نفسر هذا الاهتمام. لأن المقاربات تتعدّد وتختلف من سينمائي إلى آخر بالتالي فالصورة التي أتت عليها المدينة في الأشرطة التونسية لم تكن واحدة أو متشابهة ولم تكن أيضا مجرّد حشو لكي نحتجّ على وجودها بل نراها تختلف من عمل إلى آخر. ومثالا على ذلك نجد شريط "الفجر"لعمر الخليفي، حيث كانت المدينة مشاركة في مقاومة شعب بأكمله ضد الإحتلال الفرنسي فهي بمثابة الأرضية أو الفضاء الذي لا يعرف مسالكه ومتاهاته غير سكانه الأصليون، كما إحتضنت مدينة صفاقس العتيقة فيلم النوري بوزيد "ريح السدّ" لتكون حاضرة بأصواتها ورناتها ومغامراتها كما تناولها في شريطي "صفائح من ذهب" و "بزناس"، أمّا في شريط "الحلفاوين" كانت متميزة بعالمها الخاص وأماكنها السرية ومعمارها المرصّع بنظام فتحاته، كما نجد أيضا رضا الباهي في عمليه "شمس الضباع" و"عتبات ممنوعة" يطرح قضية المدينة العتيقة والأمثلة كثيرة.
مما أدى إلى إختلاف المقاربات السينمائية التونسية حول تناول المدينة العتيقة غير أنه قد كان لشريطي "خليفة الاقرع" لحمودة بن حليمة و"يا سلطان المدينة" للمنصف ذويب الفضل الكبير في التحديد الحاسم لأهم ملامح هذه المقاربات التي إنبنت على ثنائية التمجيد والتنديس.
فبقدر ما أبرز لنا حمودة بن حليمة المدينة من خلال جوانبها الحميمية و الإحتفالية وهندستها المعمارية الأصيلة وبقدر ما إحتفى بها أيّ ما إحتفاء كمحضن رئيسي لقصص الغرام وأسرارها بقدر ما عكس المنصف الذويب الصورة مركزا في ذلك على الجوانب الخفيّة والقذرة في المدينة التقليدية ومركزا أيضا رؤيته على فئة إجتماعية تعيش في دواميس هذا المكان التقليدي حسب نواميس وتقاليد تحتكم إليها هذه المجموعات الهامشية مبرزا صراعاتها من أجل الإستحواذ على السلطة.
فقد تناول حمودة بن حليمة المدينة العتيقة انطلاقا من نظرة تحمل ثقافة أدبية فمثّلت بذلك فضاءا في روعته يشبه الفردوس يقبع بين أحضانه شاب معزول عن أقرانه وقد اتخذ من صحبة النساء أهم مشغلا في حياته، أمّا المنصف الذويب فإنه تناولها بنظرة أخرى مغايرة تعكس ثقافة تجنح إلى اللغة الشعبية والعامية التونسية بما فيها من وقاحة بعد أن أشاد بها من خلال عمله "حمام الذهب بلاّع الصبايا" ، وتفطّن إلى أنه إذا بقينا نتحدث عن المدينة العتيقة من خلال الصورة الفولكلورية الجامدة لن نقدّم من شيء جديد، فتكلّم في شريطه "يا سلطان المدينة" عن هذه الإنسانية المهمّشة التي تقبع في خباياها:إنسانية لها قيمها وتقاليدها...
غير أنه ورغم تعدد الانتاجات السينمائية التونسية في البحث عن الهوية المفككة من خلال تصوير المدينة العتيقة فإنه إلى يومنا هذا لا تزال هذه المسألة محط تساءل و إبداع خاصة و أن السينما تطرح القضايا بالدرجة الأولى من خلال الفضاء و اشكالياته.
----------
"البحث عن الهوية المفككة من خلال توظيف المدينة العتيقة في السينما التونسية" تقديم الطالبة وئام فاتح من تونس متحصلة على شهادة الماجستير في جماليات و ممارسات الفنون المرئية و مرسمة بالسنة الخامسة شهادة الدكتواه في علوم و تقنيات الفنون
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: