فضاء التلاقي والحوار بين السريالية والثورة
قراءة في تجربة الفنانة التشكيلية "إبتسام بالكيلاني"
طلال قسومي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7074
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
حين يصبح الحلم متاحا ومدركا بصريا يتيح لنا كمتذوقين للعمل الفني أن نعانق مادية الأشياء التي تحوم في مخيلتنا ونتعاطى معها كملمح بصري يروم عناق الخيال كبديل عن معايشة الواقع الذي نراه أحيانا موغل في النرجسية والمادية المبتذلة.
ويبقي خيار التوجه لرسم الحلم وبسط أفكار الخيال خيارا وتوجه فني يحظى بالاحترام، لما يحمله من خصوصية في الطرح والتناول فالأشكال والألوان المعتمدة في أغلبها تعبر عن جموح يرنو للتملص من واقع يقلق الذات الحالمة بواقع أفضل، وإن كانت الطرق المتوخاة في التعبير عن هذا المطمح لا تحمل ضرورة رؤية مشرقة، فحين نقول واقع مشرق ليس بالضرورة بناء فضاء تشكيلي تكون ألوانه وأشكاله مفعمة بالحيوية وإنما هو عبارة عن رؤية ذاتية يختلط فيها هاجس الرهبة من الموجود وضبابية المنشود. ولنا في ذلك أمثلة عدة جمحت بأشكالها وألوانها لتضعنا أمام واقع بصري يلامس أحيانا الميثيولوجية الإغريقية لهلامية أشكاله وغرابتها المفرطة عن الواقع الإنساني ونصوغ في هذا أنموذج التجربة السريالية "للسلفادور دالي" الذي دعا لأن يكون الجنون هو معبر التعبير التشكيلي بقوله " لكي ترسم يجب أن تكون مجنونا" وليس الجنون طبعا بمفهومه الطبي وإنما بمعناه الفكري الذي يراد به خلق عالم الذات الخاص ليكون مسكنها حين تقلق من وجودها ومحيطها المادي ولو بشيئا من المغالاة التي تضح الملمح البصري موطنا لتلاقي الخرافة بالواقع. وذلك مرده كون التجربة السريالية التي لاقت رواجا فكريا كبير هي إحدى المناهج الفنية الحديثة التي تمثل بطابعها التشابكي بين الحلم والخيال والمثيولوجيا بأشكالها العجائبية المارقة عن الواقع منفذا للتعبير عن سيكولوجيا الذات من خلال طرح الواقع الباطني واللاشعوري ليصبح واقعا بصريا (مفضوحا) للعيان لينكشف العالم الباطني ويبرز للعيان كمعطى مادي بصري يفتح المجال للتأويل والتفاعل مع الواقع المادي بالنقد والتحليلي الإدراكي لمعطياته وأفكاره، ليكون بذلك الفن السريالي بمنهجه وأشكاله المختلفة تصورا ورؤية حالمة للخروج من نمطية تمثل الطبيعة والعالم الخارجي التي سادت قبل القرن العشرين في ما اصطلح علة تسميته بالفن الكلاسيكي لتفسح المجال للتعبير عن بواطن الممارس وتلوج في عالمه الخاص وفتح مكنونات الذات لتصبح مادة للتناول التشكيلي بإطلاق العنان للأفكار المكبوتة والتصورات المرتبطة مباشرة بالعقل الباطني بما تحمله من رؤيا خيالية تنازع الواقع بطرح الأحلام كبديل مباشر له. ليكون بذلك المنحى السريالي في بعض التصورات الفنية منهجا للإبداع ذي خصوصية شكلا ومضمونا، يترك المجال التأويلي مفتوحا أمام المتلقي لقراءة انفعالات الذات الراسمة وترجمة المادة البصرية لإدراك مغزاها ومتمماتها الإيحائية وأبعادها الرمزية الكامنة في مضمون الحقيقة البصرية البارزة، والتي تعكس بواطن الممارس التشكيلي،"فالفنان السيريالي يكاد أن يكون نصف نائم ويسمح ليده وفرشاته أن تصور إحساساته العضلية وخواطره المتتابعة دون عائق، وفي هذه الحالة تكون اللوحة أكثر صدقاً" (وهذا لا ينفي بالضرورة طابع الصدق عن بقية المناهج والتجارب الفنية).
إن المراد من هذا الملمح النظري الذي قدمناه عن السريالية كتصور فني مؤثر في الحركة التشكيلية العالمية هو محاولة لفهم تلك الأشكال العجائبية التي طرحتها التشكيلية التونسية "إبتسام بن الكيلاني "في معرضها الجماعي "خطوات" حيث رئينا فيها شيئا من تصورات فكر المدرسة السريالية بطرحها لأعمال نحتية وحفرية تطرح أسلوب حامل لخصوصية في مستوى طرح الخطاب البصري حيث عمدت إلى تناول جملة من الأيقونات والأشكال الموغلة أحيانا في الغرابة من حيث جموحها على الواقع الإدراكي لبيولوجيا الجسد بمعاييرها المتعارف عليها والكامنة في ذهن المتلقي عبر توظيفها لأشكال رمزية كطريقة للتعبير عن ذاتها الساعية للإبداع وفي ذات الحين الرامية لتحقيق التواصل مع المتلقي وفي ذات الحين كانت الرمزية منهجا توجته للتعبير عن نفسها فقد "عرفت الرمزية منذ بدأ الإنسان يعبر عن نفسه ، فالإنسان اهتدى منذ القدم إلى الرمز بفطرته ، فخلع على الأشكال صفة التجريد نافذا إلى المعنى المكنون الذي ينطوي عليه الشكل ، مستوحيتاً الرموز مما أملته عليها الظواهر الطبيعية" لصياغة فضاء لوحاتها المعتمدة على تقنية الحفر وكذلك أعمالها النحتية التي قدمت فيها تصور ذاتي نراه -ولو بشيء من التحفظ- مرتبطا بمحيطها الاجتماعي والسياسي الذي عرفته تونس بعد الثورة، فمثلا في عملها النحتي "أمومة" وكذلك لوحة"حلم".
التي اعتمدت فيه تقنية الحفر كأننا بالفنانة تبحث عن إنعتاق الجنين الثوري الذي يحقق رغبات وآمال الشعب التونسي الذي حاول إرساء نوع زرع جملة من الأحلام بعد قيامه بثورة ضد النظام السياسي القائم منذ 1987، فمن خلال تأكيدها على تناول صورة الجنين كمعطي تشكيلي كأننا بالفنانة تحاول تمرير رسالة شعبها الذي ينتظر مولده المرتقب، ليكونا بذلك – في تصوري- هذين العملين في لحظة تمثل قصوى للواقع الثوري الذي يحيط بالفنانة فكأننا بها تتبني رؤى شعبها وتحاول ترجمتها في واقع بصري إبداعي يطرح خصوصية في التناول تضاهي في غرابتها الشكلية والبصرية نوعا ما المنظور السريالي كما سبق وقدمته، وهو في ذات الحين يفتح فضاء التأويل في قراءته فإن رأيت فيه بعد سريالي قد يرى فيه غيري نوعا من التجريد من خلال الأشكال المتداخلة مع الخطوط في مساحة فضاء اللوحة وهو ذات التقدير الذي يمكن يذهب إلى أن ينسب منحوتة "أمومة" إلى المدرسة التجريدية لما تقدمه من اختزال للجسد، ولكن تبقي هذه التأويلات المنفتحة هي القيمة الأساسية التي تعلى من شأن العمل الفني وذلك بالنظر لكون الممارسة الفنية لا تكتمل إلا في ذهن المتلقي من خلال انفتاحه على قراءات عدة قد تصل أحيانا حد التناقض الذي يولد الارتباك.
هذا في مستوى مقاربتنا للعملين اللذان عرضتهم الفنانة تحت عناوين(أمومة، حلم)، واللذان يطرحان في ذات الحين مقاربة تبطن خصوصية في التناول للواقع الذي تعيش فيه البلاد التونسية بعد الثورة مهد ثورة الياسمين حيث أن العناوين المختارة في حد ذاتها تدفع بالقارئ إلى ربط المعطيات البصرية التي تحويها هذه الأعمال مع واقعها المحيط، فمثلا عنوان "أمومة" هو تعبير فيه شيئا من الوضوح على عسر الولادة التي ترفق الثورة التونسية، فالفنانة في هذا العمل تقدم نوعا من الإيحائية الموغلة في الرمزية لواقع الثورة التونسية التي تشهد عدة صعوبات في تحقيق أهدافها والتي تمثلت في المطالب الاجتماعية والسياسية التي رفعتها الجماهير زمن الحراك الثوري، فصورة الجنين الظاهرة المنحوتة في جسد الأنثى يمكنها أن تقر بهذا التأويل.
ومثل هذا المنهج يبرز قناعة الفنانة بتأثير الصورة وقدرتها على النفاذ إلى المتلقي كما يقول في هذا الباحث التونسي "حميدة مخلوف": " الصورة تمتلك قدرة فائقة على النفاذ والتأثير.. باعتبارها إشارة تثير فينا رغبة القراءة والتأويل... فليس هناك متلقي بسيط" ، حيث نزعت الفنانة عبر هذه التجربة تأكيد سلطة الصورة ودورها في تمرير الأفكار والتصورات على اختلاف أنمطها، فهي مدركة لكون الصورة ساهمت بشكل مباشر في تفعيل ثورة أترابها فالصورة في نظرها " تمتلك أسلحة تقنية وإيصاليه وتعبيرية فائقة لتحقيق غاية أو "لذة" التأثير" ، بحسب تعبير "رولان بارث".
من خلال اعتمادها على أشكال ماثلة في الذاكرة الجماعية حاولت الفنانة عبر تجربتها- التي مثلت موطنا للقاء النحت بالحفر- أن تجد نوعا من التآلف بين الواقع بما هو مؤثر مباشر في الواقع الباطني للذات ومجموعة من العلاقات الجمالية التي يحددها الشكل والخط الموزع في فضاء العمل النفاذ إلى عمق الواقع وتعريه ليصبح مادة بصرية يجد فيها المتلقي مساحة لينفس عن ما يخالج ذاته في علاقتها بالواقع. ساعية عبر هذه العلاقات أن تنسج مساحة بصرية تكون بمثابة الخطاب الذي يرنو لنقد الواقع ومنه يتم تمرير رؤية فنية أقرب ما يكون لبسط خطاب يدعو للتغيير والقطع مع واقع سياسي واجتماعي تم رفضه، لتصبح بذلك معها الممارسة التشكيلية مساحة لنقد الواقع الفكري والسياسي السائد دون الولوج لاعتماد الخطاب المباشر فالصورة الفنية أحيانا أقدر على التبليغ والنفاذ لعقل المتلقي.
لتكون بذلك الأشكال الأيقونية التي اعتمدها الفنانة في تجربتها التشكيلية بمعرض "خطوات" عنصرا أساسي لتوالد المقاربات الدلالية والإيحائية التي أرادت "إبتسام بالكيلاني" أن توالدها في ذهن جمهورها، وهي في ذلك تبرز نوعا من الوعي بأهمية البعد الإيحائي في الممارسة الفنية التشكيلية التي حاولت الفنانة توظيفها إما عبر الأشكال أو العناوين التي لا تخلو من ملامح الإيحاء ولنا في ذلك مثال عملها النحتي الذي عرضته تحت عنوان "انتفاض" الذي يحمل دلالة مباشرة للواقع الثوري الذي يعيشه المجتمع التونسي بجميع أجناسه السياسية والاجتماعية عبر ربطها لمدلول العنوان بما يسود محيطها من حالة انتفاض جماعي في جميع المجالات، فمن خلال مبدأ التلاقي مع الواقع سعت "بالكيلاني" إلى بسط تصوراتها التشكيلية في نماذج نحتية وحفرية موغلة في الإيحائية والرمزية التي حاولت أن تزاوج في إبرازها بين ثنائية الشكل والعنوان المرافق للعمل وهو ما يمكننا الوقوف عليه من خلال عملها السالف ذكره "انتفاض" كما هو مبين في الصورة الموالية.
وهو ما يبرز نوعا من القصدية في مستوى اختيار الفنانة لعناوين أعمالها لمزيد تبليغ فحواها ومن ثمة دفع القارئ لتأملها وفقا لعلاقة العمل بالعنوان، وهو هي بذلك تؤكد على أهمية إدراك المتلقي لمضمونها خطابها التشكيلي حتى تكتمل عملية التلقي الذهني للعمل الفني، وفي ذات الحين تكتمل الرسالة التي أرادت الفنانة تمريرها عبر تجربتها هذه حيث "أن أغلب الدراسات المهتمة بتركيب الصورة وبلاغتها وقيمتها الجمالية والبصرية أكدت على الدلالة بشكلها اللحظي والتأملي غير متجاوزة لوظيفة الفن في إيصال روح الفكرة ومن ثم تأثيرها على المتلقي لذلك الطرح من خلال إيجاد علاقة ادر كية تطرحها تلك العلامات الايقونية الغير اعتباطية المنتشرة بوضوح (في كل أعمالها التشكيلية) فهي معلله بقصديه واضحة كي تأخذ معناها ليس من الاتفاق التماثلي بل بإعادة إنتاج المدرك من خلال مرجعية النسق السيميائي وصياغته بشكل مغاير لا يخرج عن الواقع البصري المتجذر في الذاكرة الجمعية" حيث أن الفنانة عمدت إلى توظيف أشكال ذات دلالات أيقونية متجذرة في الذاكرة الجمعية لمحيطها الفكري والاجتماعي. فهي إذن بذلك تسعى إلى استدعاء أشكالا وعناوين ذات دلالات ومدركات حسية لها مرادفتها في الواقع المعرفي للمتلقي، مبرزتا بذلك نوعا من التأثر بالواقع في تقديم تصوراها التشكيلي ساعية في ذات الوقت أن تدفع المتقبل إلى نوعا من التمثل على اختلاف مدركاته المعرفية الذي يؤدى بالضرورة على إيجاد نوعا موحد من التأويل يودي إلى ربط الملمح البصري الذي يكون العمل الفني مع الواقع كمرجع أساسي انطلاقة منه الفنانة في اختيارها الفني أسلوبا وموضوعا.
بمثل هذه المفردات والأشكال التشكيلية حاولت الفنانة التونسية "إبتسام بالكيلاني" أن تضع مقاربة جمالية لواقعها الاجتماعي وفقا لمنهج سريالي، بالنظر لنوعية الأشكال المتناولة في صورها وأعمالها والتي فيها اختارت الفنانة أشكالا موغلة في العجائبية، حيث أن "الرمز المستخدم فى الفن قد يكون استعارة أو شكلا خيالياً ذا معنى حرفي صريح أو ضمني مفهوم" ، فهي أشكال لا يوجد مرادفها في الواقع بل هي أشكال كامنة في ذهن الفنانة حولتها إلى مادة ملموسة وبسطتها أمام المتلقي ليشركها فيها وتفسح المجال أمامه لتأويلها على غرار عملها التالي الذي عرضته تحت عنوان "ظلمات"، والذي اعتمدت فيه تقنية الحفر على الخشب.
ولكنها تبقي تجربة حالمة ونافذة في ذات الحين في عمق الواقع بالرغم من طابعها الذي يتماهي شيئا ما مع مبادئ المدرسة السريالية حيث أنها في نظرنا تعتبر "تجربة لمعانقة الإبداع ومحاولة للنفاذ إلى داخل العمق الذاتي والروحي للإنسان بما هو كينونة يتمحور حوله الوجود الكلي وبحث عن إدراك المطلق في الشعور وسعي لتحقيق التكامل ليبقي بذلك الفنان هو ذاك الإنسان المدرك لملكة الخيال والمنتج للحلم عبر استعادة باطنية وذهنية للظواهر التي يبرزها محيطها الفكري والاجتماعي لتعطي بذلك مبادئ خاصة في الانسجام بين المضمون بما هو تمثل للواقع والإبداع"
فقد سعت الفنانة "إبتسام بالكيلاني" أن تخلق فضاءا تشكيليا تجاوز فيه بين هواجسها الإبداعية وقلقها الذاتي الحالم بواقع منشود عبرت عنه عبر ملامح وأشكال خيالية تبرز رؤيتها الذاتية المتأثرة بالنمط والفكر السريالي، وذلك بغاية قصدية تنم عن تدقيق ووعي في الاختيار.
وتبقى بذلك هي التجربة الفنية التي قدمتها التونسية "إبتسام بالكيلاني" رؤية أخرى عن واقع الممارسة التشكيلية للشباب التونسي بعد ثورة الياسمين، والتي سنسعى لقراءة أغلبها في ورقات ومقالات أخرى.
مراجع المقال:
- حميدة مخلوف:" سلطة الصورة؛ بحث في إيديولوجيا الصورة وصورة الإيديولوجيا"، دار سحر للنشر، تونس 2004-
- ياسمين ، عبد الناصر : " الرمزية الدينية " ، زهراء الشرق ، القاهرة ، 2006.
- حكيم راضي : " فلسفة الفن عند سوزان لانجر" ، دار الشئون الثقافية العامة ، بغداد ، الطبعة الأولى ، 1986.
- "السخرية السريالية ودلالة الأيقون "مقال للناقد والتشكيلي العراقي "محسن الذهبي" المنشور بموقع "شهريار".
- "الممارسة التشكيلية الشابة بتونس وسؤال الوجود" مقال لطلال قسومي منشور بموقع الحوار المتمدن http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=342291
ملحق أعمال الفنانة: ابتسام بالكيلاني.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: