- طلال قسومي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 8211
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
محزنة هي أيام الكلمة اليوم، فبعد أن انتهي عصر سجنها وتم الإعلان عن ميثاق حريتها هاهي اليوم تقف على عتبة باب شيخ ليس ككل الشيوخ طلبا لجواز العبور فالكلمة في وطني أصبحت "تحتاج إلى جواز عبور"، ففي وطني تحزن الكلمة ويشكر أصحابها بالبصاق، فهل معقول أن نشكر من ساهم في ميلاد ترياق لقاح العقل وإنارة السبيل بمثل هذه الطريقة؟ أليس عيبا علينا يا أبناء وطني أن نقف في طابور منع الكلمة من المرور، وهل لأصحابها من إثم غير كونهم أناس كرموها وألوها حقها، في زمن غابت و انتفت فيه الحقوق، زمن تقدمت فيه الشعوب إلى الساحات لتقدم قرابين للحرية.
عشنا زمنا طمست فيه الآراء، في زمن كان فيه السجن والقضبان نصيب الكلمة، في زمن الزبانية تخشى فيه الكلمة الحرة، وتعرف مقدار تأثيرها في الشعوب حينها كان رواد القلم يسرقون الورق والحبر ليكتبوا على البياض معاناة المرء، ويكشفون الأقنعة لإنارة السبيل. ولكن اليوم أضحى هؤلاء في مرمى الأفواه لتقذفهم بشتى أنواع النعوت وتتهم بمعادة العقيدة، ويكفرون من شيوخ البدعة، فهل هذا هو المصير الذي يستحقون؟ أم أننا عدنا لعصر التقصير في فهم الفكر والتعاطي مع منتجيه بالنفي والطرد والحرق؟ ذاك العصر الذي لم يحترم فيه "ابن رشد" وحرقت فيه كتب المفكرين، أم أننا في عصر تنشط فيه الأجساد بعضلاتها ويفند فيه الفكر، عصر تحول فيه الحوار لحوار العضلات وليس للفكر من أهمية.
هذا هو زمننا يا سادة، هذه الثورة يا إخوتي، أو كما قال المناضل الحقوقي بالأمس وسيد قرطاج اليوم "هذه الثورة يا مولاتي" فقولوا ما شئتم وافعلوا ما أملته عليكم أجسادكم ولكن بلادي لها من العزة والشرف ما يجعلها تقدم مرة أخرى على طرد أبناءها الضالين، فلا تحسبنها غافلة، فقد صنعت التاريخ ببسالة أحفاد "خير الدين" وعظمة نضال أبناء "الحشاد" ولن تتولى على زعزعت التراب تحت أقدام الظالمين فكما عودتنا لا صبر لها على الظلم والقهر، فلست بلادي من يعدم فيها "كوبارنيكي"، وليست بأرض يستباح فيها الطغيان باسم الجلباب أو باللحية، مهما طالت اللحي وقدست، فمن المحال يا سادة أن ترسم نسخة أخرى من جنوب اليمن أو افغانستان في تونس، ولا يمكن أن نمضي نحو النسيان، نسيان كون هذه الأرض الكريمة هي من سمحت بحلول الجلباب والعمامة في شوارعها بعدما تكاتفت وطردت السيدة الحلاقة ومن كان يؤكد وجوده تحت مظلة اللحية وإرهابها، طردتهم هذه الأرض بل إنها أنكرت نسبهم لأنهم ضالون ولم يفهموا عزة أرضهم وواجهة تاريخهم و لها من الشرف والقوة ما يجعلها تفرش مرة أخرى الشوك في شوارعها وترفع صوتها العظيم بكلمة "ارحل" إن جاء من يفسد عليها نكهة ونشوة ثورتها المجيدة.
وبالصبر ترد على من تساوره نفسه أن يبني شكل جديد من الطغيان والعربدة بفرض أفكاره الملتحية فهي تعرف كون "السفساري" و"البرنس" لباس أبناءها الأوائل ولم تشهد يوما في تاريخها الممتد أبناءها يغطون أنفسهم بألوان وأقمشة فصلت في موطن غير موطنها ولا تتماشي مع طباعهم، تصبر وترد بالقلم والحجاج على من يرونا في أنفسهم أقرب إلى الرب من غيرهم، فبلادنا تعلم كون الرب للجميع دون تفرقة ولا مجال لفرض الأفكار بالقوة والتجمع تحت غطاء فرض النظام الأوحد بالسيطرة على أماكن العبادة التي تنزه من كل فعل مشين. وبلادي تحبذ السجال الفكري بدل الصراع الجسدي فاللغة التي بعثتها في أكاديميتها العلمية هي لغة الحوار والإقناع، ثم يا إخوتي في الجغرافيا والتاريخ ألم يكن المنهج الجسدي المتصادم سببا في خشية الناس من ديننا؟ ألم يمنع سيد البشر وخيرهم "محمد" ( صلى لله عليه وسلم) أن تسيطر لغة الجسد والقتال يوم دخوله مكة المكرمة بالرغم من الترسانة العسكرية العظيمة التي كانت تحت آمراته إلا أنه فضل الحوار والسلم بدل التطاحن الجسدي، ثم لماذا لا نقتنع بكون لغة الجسد هي سلاح الضعفاء فلماذا لا نخير لغة الترغيب بدل الترهيب، فعصر الوساطة بين الرب والعبادة ولّى ولم يعد مجال للتفاضل بين العباد إلا بالعمل الصالح وحسن التصرف. فلا مجال للعربدة وفرض الفكر الواحد في بلاد ترعرع أبناءها في الأكاديميات العلمية ويعرفون جيدا قيمة السجال في بزوغ الحقيقة، فلنترك القلم والحوار الفاصل بين المختلفين بدل من التسلح باللحية والإدعاء بالقرب من الرب، ليكن الفيصل السجال المتكافئ وكل يطرح وجهة نظره فالإيمان الحق هو إيمان الروح وليس الأجساد، فالجسد يبقي مجرد أداء لنشر أفكار الروح والتقرب من الرب لا يكون بالمظهر دون التطهر من نجاسة النفس، لنترك إيمان الأجساد لمن يتعطرون بالمظاهر لغاية في نفس يعقوب، فالجسد اليوم أصبح مطية لتمرير راغبات ونزوات الذوات بغية تحقيق الآمال المرجوة من الدنيا بدل التقرب من الذات الإلهية فهل نحن في زمن تكون فيه العبادة بالجسد بدل الروح؟ ثم أليس هذا الجسد هو شأن دنيوي فحين تفارقه الروح يردم في الأرض وهي ترتقي للسماء، فإن كان سميا ومقدسا لدرجة أن يكون هو وسيلة لإبراز الإيمان من الكفر فلماذا يتركه ملك الموت ويأخذ الروح؟ أليس هو موطن النجاسة فلماذا نريد تحويل وجهة ديننا السامية من الإيمان بالعمل الصالح وتقبل الأخر إلى إيمانا يفرق بين الكافر والمؤمن بهيئة الجسد؟
--------- - طلال قسومي
- باحث أكاديمي متحصل على الماجستير في علوم وتقنيات الفنون
- أستاذ متعاقد بالمعهد العالي للفنون والحرف بالقيروان.
- بصدد إعداد أطروحة الدكتوراه إختصاص نظريات الفن
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: