طلال قسومي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7079
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
الإبداع ولادة في زمن المفارقات، ونفس وجودي يرتحل بالوجدان لعوالم الحلم والتيه في غياهب الخيال واسترجاع لذاكرة الذات الحالمة بالرحيل نحو السمو والتعالي عن مادية الأشياء وتناقضات الواقع، راسما كينونة جديدة تساءل الواقع في أحداثه وأفكاره، ليبسط بتعقيداته أمام السؤال والتحقيق.
وبذلك يكون الإبداع بجميع تجلياته موطنا تنسلخ فيه الذات من نزعة الأنانية والتفرد بما يحملانه من انغلاق وخمول لترسم فضاء العناق والتجانس بين الأنا والأخر، فتنتفي الانقسامات والصراعات بجميع أشكالها لتتوحد في خطاب جامع تلتقي فيه الذوات في رؤية متناغمة يجمعها سؤال الوجود ويفرقها حرية التفحص والتأويل، وفي هذا يكون فضاء المعزوفة الموسيقية أو اللوحة الفنية فضاءا للحوار والتلاقي والنقاش القائم على مبدأ الاحترام والسجال المتعالي عن رغبة التفرد بالخطاب، وهكذا يفسح المجال للذوات لتقيم الواقع وتعيد تأمله في تصورات نابعة عن تعقل للموجود وفقا لمنظور موضوعي يفند النرجسية ويغيب كل الخلفيات الإيديولوجية ليرسم طريقا "قادر على إثبات الحقائق المخفية بتأمل ومنهج أكثر موضوعي وبمراحل تجريبية متوافقا مع العمليات المعرفية وبحرية كاملة منسجمة مع الواقع" (2) .
وفي هذا الصدد بالذات برزت موجة جديدة من الممارسات التشكيلية التونسية الشابة الحالمة برسم نفس ذوقي جديد يسار الموجود ويتفاعل في ذات الحين مع منظومات الفكر الجمالي العالمي، في لحظة السعي للإثبات الكينونة ومكامن الذات الباحثة عن موطأ قدم داخل الفضاء التشكيلي والإبداعي العالمي من جانب ومن جانب أخر هي بحث عن تحقيق قيم التواصل والحوار مع الأخر بكيفية تنفي فيها اللذة البصرية لتفسح المجال للسؤال وبعث الدهشة المولدة للتفلسف والتفكير فينتج عن ذالك بحث وتحليل يؤسس لقراءة مخالفة، فالصورة الفنية هي مطية للعبور من الحس الفردي إلى الوئام الجماعي، فمن خلال الشكل واللون يدعونا المعرض التشكيلي المقام بفضاء "نيابوليس" بنابل بعنوان "قطوف" لمجموعة من الفنانين الشبان لإعادة طرح سؤال الحرية بما هو سؤال يطرح مسألة تقييم الموجود ويطرح كتعبير منفتح على مجالات التفكير في النظم والأجناس الفكرية الإنسانية حيث عمد الفنان التونسي القادم من ربوع الجنوب "نور الدين بن عمر" لطرح أعمل زيتية تساءل الواقع السياسي التونسي بعد الثورة، وهي أعمال لا تخلو من طابع الغرابة الممزوجة بالنقد للسائد من احتقان وتصادم بين النخب السياسية، وإن كانت أعماله المعروضة في هذا المعرض تحمل طابع المباشرة في الإشارة لما يحويه الواقع الاجتماعي فإنه تبقي أعملا يدعو من خلالها الفنان "بن عمر" هذه المجموعات المتناحرة لمعالجة ومراجعة أفكارها وهذا ما يمكن أن يستشفه المتلقي من عناوين أعماله على غرار عمله " Clinique politique" وكذلك عمله " Champ de tire " الذي هو إشارة واضحة للأحداث المطروحة في المجتمع التونسي ما بعد الثورة على غرار ما عرف بحادثة سليانة، لتكون بذلك لحظة النفاذ القصوى للعملية الإبداعية إلى داخل فضاءها العام وفقا لمنهج ورؤية ذاتية يسعى من خلالها هذا الفنان لخلخلة بل بالأحرى فضح وتعرية للأسس والتصورات الفكرية السائدة في محيطه الاجتماعي بغية تحقيق إدراك المعنى أو هو جموح فني يزرع الغرابة في كل ما هو عادي مألوف، قد يصل حد الاستفزاز أو الهرطقة. لعل هذا ما أراد "بن عمر" إيصاله لرواد معرضه من خلال ما أعماله التالية.
Noureddine Benamor
Clinique politique
Techniques mixtes
101*91 cm
لئن ذهب "نور الدين بن عمر" لمباشرة الواقع في مضامين لوحاته فإن زميله في هذا المعرض "شكري عزيز" اختار أن تحاور فرشاته اللون والشكل لتخلق بينهما سجال متناغم مرتبط برؤية تجريدية منفتحة على الفضاء الصوفي فهي أعمل تجريدية، باحثة عن تموضع إبداعي يجانس بين الحياكة بأبعدها الحسية والمادية دون التغافل عن غنائية الترابط بين الشكل واللون إذ تتخلل مساحاته اللونية زخارف وخطوط إسلامية تنتشر على مساحة اللوحة، خالقتا إيقاعا متناغم محافظا في ذات الحين على مبدأ الاختلاف لبعث نوعا من التوازن البصري في فضاء لوحاته، هروبا من الرتابة والقاتمة المقلقة للعين، في لحظة تمثل قصوى لمعاني التجريد وفقا لعملية ذهنية حاول من خلالها "شكري عزيز" أن يفصل بين الأفكار التي تسكن الذات المبدعة وعالم الأشياء والموجودات، "مما يقود إلى تمييز المفهوم النظري العام عما هو عيني ومادي وواقعي" (3).
فهي أعمالا تبطن طاقة تعبيرية مستمدة من ذاكرة مشحونة بنفس صوفي يشير للمعني عبر إشارات وإيحاءات ضمنية، أي التلميح دون التصريح في لحظة تمثل للعقل الباطني وتحرر من القيود
اذا يعطي "عزيز" رؤية ذاتية لمكنون الشكل ودلالة اللون عبر توظيفه لمعطيات هيكلية تستمد جذورها من المنظومة الصوفية ناسجا خيوطا وأشكالا تحقق نوعا من التجانس مع اللون بلغة رمزية ضمن مبدأ التوحد، وهو ما من شأنه أن يحيل القارئ على عالم من النظم الفكرية والوجودية في عالم مادي غير متوازن تتصادم فيه القيم بالأفعال حد التناقض، كما تحدثنا به أشكاله وألوانه الباحثة على خلق نوعا من التناغم بين أشكال عجائبية وألوان متفرقة في فضاء اللوحة عسى أن تكون بداية لبناء تجانسها في الواقع.
Chokri Aziz
أثر بعد عين
Techniques mixtes
83*57 CM
شكري عزيز
ترسب
Techniques mixtes
83*57 CM
وفي هذا التصور يتلاقى "شكري عزيز" مع " رياض بن حاج أحمد" في مستوى التعامل مع الشكل واللون لإبراز قلق الذات وحيرتها وبحثها عن نسج منحي فني ينشد التجاوز ويحاور الأخر المتلقي ويأسر ذهنه ويدعوه للتساؤل والبحث عن منطق مغاير لما هو سائد، حيث نزح "بن حاج أحمد" إلى تقديم تركيبات خطية يغلب عليها اللون الأسود، وبالرغم من قاتمة هذا اللون فقد استطاع الفنان أن يطوعه بكيفية تبطن الكثير من الحرفية ناسجا نوعا من التناغم بين ثنائية النور والظل ليرسم شخوصا ضبابية متداخلة في فضاء لوحاته، ولم تكن شخوصه واضحة الملامح بل إنها كانت مجرد إيحاءات للجسد دون أن يشغل الفنان نفسه برسم تمثلي يحاكي الشكل الحقيقي للتكوين العضوي للجسد فهي ليست غايته فقد كان اهتمامه منصبا عن مضمون الشكل وليس بالشكل في حد ذاته وفقا لرسومات سريعة تلقائية حاملة لشحنة تعبيرية وهو في ذالك يحاكي بكيفية ما المدرسة السريالية التي " " وضعت آمالها في التقنية التي تعتمد التلقائية في التعبير أي التقنية التلقائية وهذه التلقائية تتضمن عدة أساليب لعل أبسطها هو الرسم السريع الذي يماثل التحدث السريع للإنسان و الذي هو شكل من أشكال التعبير المباشر عما تحت الشعور و هذه التقنية تحتاج إلى حالة غير مألوفة أو غير عادية من الانفعال" (4).
هكذا جاءت تجربة "رياض بن حاج أحمد" حاملة أوجه حيث تراوحت بين التجريد والسريالية نزعة عن نفسها عمامة النقل الوفي للأشياء والإقتداء بالواقع والتقيد بأبعاده وأفكاره ليفسح المجال لطبيعة الذات الحالمة المسكونة بالخيال لتعبر وترسم كينونتها داخل الفضاء التشكيلي ولعل هذا ما جعله يجاوز في هذا المعرض بين فن التنصيب والرسم الزيتي في بحث مضني على موقع تهدأ فيه ذات الفنان المضطربة بين ما هو موجود وما هو منشود، وهي حيرة وقلق وجودي نقلها "بن حاج أحمد" لجمهوره عبر أعماله.
Riadh Belhadj Ahmed
Texture
Acrylique sur toile
80*60 cm
ومع اختلاف في المواد ومحامل التعبير فقد ذهب الفنانين "حسان بن رحومة" و"حمدة بن سالم" لقراءة الجسد وفقا لرؤية يتداخل فيها التشخيص بالتجريد بالنظر لكونهما اعتمدا الاختزال كمفهوم أو مبدأ لبناء أعمالهم النحتية دون الذهاب إلى تمثل الجسد في كليانيته فهما يؤسسان لرسم لا شكلي أو غير مشخّص، حيث ارتكزا على الجسد الإنساني بما هو موطن الدلالة والحامل الأساسي لتفاعلات الذات والمعبر عنها والمؤشر الأوحد على قيم التواصل موظفين في ذلك مفهوم استنطاق القيم التعبيرية التي تحويها أعضاءه عبر تمطيطها أو اختزالها ليبرزا قراءة لامتداده في الوجود، بما هو المحدد الأساسي للوجود وكينونة الذات " بما أن اللغة قاصرة عن تحقيق تواصل حقيقي بين الإنسان و ذاته، أو بين الفرد و محيطه و عالمه، فقد جاءت حركة الجسد لتثري هذه اللغة بالوهم و الإيهام و العبث و التجريد، و تجعل منه موضوع سؤال لما يتضمنه من كثافة دلالية... و أصبح الجسد يشغل مجاله في الوجود ليجسد في الفكر و الفن إيقاع الحياة" (5)
ولعل الواقع الذي تعيش فيه هذين التجربتين قد فرض منطقا مغاير للإبداع، إنه منطق الجسد باعتباره موضوعا شامل للذات الإنسانية، رغم اختلف وجهات النظر في تناوله موضوعا للبحث و الإبداع ولكنها آراء تشترك مع الرؤية الفيمونولوجية المعاصرة للعالم تلك المنظومة الفكرية التي سطر "هوسارل" و "مرلو بوني" معالمها، إنها لغة المادة و البحث عن جوهر الأشياء دون الخضوع لأي عقد و دون الهوس بالخلفيات الإيديولوجية، و هذا ما يؤكده "مرلو بونتي" ذاته بقوله " و إن ما به ننتمي إلى الأرض هو أجسادنا. فنحن لسنا ملائكة بل كائنات أرضية من لحم و دم. فنحن قبل كل شيء أرضيون و قاطنون للنقطة الأسفل في الكون كله، و التي هي مستودع كل التأثيرات المتأتية من أعلى." (6) هذه التأثيرات التي أصبحت تجلياتها في العقل و قدرته على الإبداع و الابتكار، و هي ذاتها التأثيرات التي رسمت ملامح الفكر الإنساني ككل من الأسطورة في الفكر القديم إلى التنظير للمستقبل في المنظومة المعرفية المعاصرة التي أصبحا فيها الإدراك الحسي هو الرؤية الأكثر شمولا للعالم وهو مكمن الغموض الذي يخفي امتداد الإنسان في العالم و امتداد العالم في الإنسان، ليصبح الجسد مع "حسان بن رحومة" و" حمدة بن سالم" معطى للتعبير والإبداع ومنفذا ومحورا للبحث والتحليل، وهو ما يحاولان إدراكه من خلال أعمالهم النحتية الباحثة عن تفكيك الجسد كهيكل عبر الاختزال والتمديد.
Hamda Ben Salem
Femme debout
Taille sur marbre
68*35*17 CM
حسان بن رحومة 2013.
ففي هذه التجربة الفنية "قطوف" التي يقدمها فضاء "نيابوليس بنابل" هناك تجربة لمعانقة الإبداع ومحاولة للنفاذ إلى داخل العمق الذاتي والروحي للإنسان بما هو كينونة يتمحور حوله الوجود الكلي وبحث عن إدراك المطلق في الشعور وسعي لتحقيق التكامل ليبقي بذلك الفنان هو ذاك الإنسان المدرك لملكة الخيال والمنتج للحلم عبر استعادة باطنية وذهنية لظواهر التي يبرزها محيطه الفكري والاجتماعي ليعطي بذلك مبادئ خاصة في الانسجام والمضمون والإبداع، ويبرز تصورات الذات التي تجمح أحيانا للهجانة كمفهوم للتعبير عن رفض لمضمون الواقع عبر المزج بين الملمح البشري والحيواني كما ذهب إلى ذلك الفنان "وحيد بوليلة" في هذا المعرض عبر لوحته التي عرضها تحت عنوان "تصادم" كدلالة غير مباشرة على واقع التلاقي والسجال الذي يفرضه الفنان التشكيلي مع واقعه.
Wahid Boulila
Accident
Acrylique sur toile
80*53 cm
-------------------
1- عنوان معرض تشكيلي قام به مجموعة من الفنانين التشكيلين الشبان بفضاء المركب الثقافي نيابوليس بنابل في الذكرة الثانية للثورة التونسية.
2- "سيروان شاكر" مقال نشر بالحوار المتمدن-العدد: 2822 - 2009 / 11 / 7
3- مصدق الحبيب: "مقال تحت عنوان؛ حول منهج التجريد التشكيلي" نشربالحوار المتمدن-العدد: 1409 – 2005.
4- موسى الحمد: مقال بعنوان " دراسات فنية أندريه بريتون مؤسس السريالية"، مجلة الفرات؛ مؤسسة الوحدة للصحافة وللطباعة والنشر، 2006
5- الد عبد الرحمان بن زيدان( باحث مغربي) في مقاله بمجلة الفنون ؛ يناير 2006: شهرية فنية تصدر عن المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب- الكويت، ص 50.
6- الد: عبد العزيز العيادي، مسألة الحرية ووظيفة المعنى في فلسفة موريس مرلوبونتي، صامد للنشر و التوزيع، تونس 2004، ص 283
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: