إن النفوس إذا زعزعتها المصيبة لا تنهار، والعزائم إذا واجهتها المصاعب لا تكل. وما أسهل ما يميل "المخَلَّفون" الى ما توسوس به إليهم نفوسهم قبل المغانم وبعدها، ولكنهم فيما بين ذلك وذلك يتصعدون الربوةَ ويتقَعّدون للفتنة.
سيعلم الذين لا يخشون الاغتيال أن يقع ويراهنون على الحريّة وقد أتيحت أن تُوسِع لأطماعهم، أن ما بعد شكري بلعيد لا ينبغى أن يكون كما كان من قبله. وتلك المفسدة التي أن أرْدَوْا فيها الثورة، في أحد أبنائها ورموزها، سوف لن يحصدوها لصالحهم، وإلا كانت الجريمة، إنْ لمْ بأيديهم ارتُكتبْ فلصالح أغراضهم استُبيحت.
وستشهد الأيام على ذلك، بمقدار ما تتقدم الصفوف من أجل رأْب الصدع الذي حدث بالثورة؛ إذ بالتجاوز في السياسة تطيب النفوس، ومن العِبَر بالاغتيال ما لا يُعتبر بغيره. وما مات "بلعيد" إلا لأن التطرف من جانب ومن آخر أوفى مداه، ومنزلقات اللسان أشد منزلقاً من السيف، وفي حالتنا الحديثة الرصاص.
رحمه الله وأوسع مثواه. فهل ترى أنصاره وأولياء دمه، يكرمونه ميتاً كما لم يكرموه حياً بما كان بإمكانهم تطْييب خاطره لنصرة الثورة قبل نصرة الحزب ولنصرة الحق، وإن خالفَ على أصحاب الباطل من حوله، عن يمينه وعن شماله وما كانوا بالقليلين.
فمن كان يبتغي غير الثورة انتصاراً لخطها عليه أن يعْدل عن سبيل ذاته أو المزايدة بالدم، كقصة شهدائنا التي لم نعد نستطيع من نعدّ منهم من الشهاداء لوجه الله والوطن ومن باسمهم يناصبون المجتمع المنهوك بطبعه والدولة المنهوكة بالمؤامرة عليها، لاقتضاء الغنائم والاقتصاص من القاتل - أو القاتلين الوهميين - حتي قبل المحاكمة. فهل اغتيال في الاسلام أو غيره خرج المطالبون به باستعادة الميت من كفنه، أو ضَرْب الموعظة به حتى لا يتكرر في الحال والاستقبال. وإلاّ حُلمهم أن يفتدُوه بالسلطة للتحكم في رقاب الناس، أنفة بالذنب، والشهادة إنما هي زرق وحياة عند الله، وليس مقاصصة أو محاصصة في الأرض، وإلا لغدت الحياة في الآخرة ابتذالاً للشهادة في الدينا.
فللننظر ما يفعله الأعداء من الانتقام لقتلاهم بالابتزاز ممن قتلَهم، حتى وإنهم على غير حق في الابتزاز لأنه دون دية الدم. والقتل في كل الأحوال عدوان أثيم، والاغتيال من جنسه، فهو إذن عدوان. فسنجد القاعدين عن الثورة تربصاً بها هم أهل العدوان بنا وبأولياء الدم وبالدولة القائمة بالحق في هذه النازلة وفي غيرها.
فلا يجْتنِبُنا الصوابُ بتقديم المهم على الأهم. لأن معالجة الاغتيال بالحمق الذي يعالج به في بعض البلدان التي تشقها الفتنة كل مشقة. يكفينا نحن عبرة على عبرة، لأن الذين يتصيدونهم بهذه الأغتيالات هم أعداؤهم والاحمقون منهم وحتى من غير دائرة القتيل، واكرمْ بمن ليس منهم.
فقد أصبحت منظومة الشهيد منظومة أممية، وتصرّفها بعض الجهات الأجنبية أوسع تصريف لمصالحها، وتكاد تخرجها من كل مفهوم ديني وخلقي الى مفهوم العدالة الانتقالية المتحركة بأجنحة إراداتهم الخفية.
إن ما كان كالمحظور بالأمس سيصبح كالمتعيّن اليوم الأخذُ به والسير بسبيله. فلا غرابة أن تلتحم الصفوف كلَّ لحمة، ولكن غيرَ لحمة العنف التي باتت عليها قبل "شهيد العنف" الذي بات المرحوم شكري بلعيد.
ولا غرابة فيما أقترحه رئيس الحكومة، لأخذ الرداء من كل أطرافه بالأيدي لاستكمال حجر البناء الأقدس في أركان الثورة، ألا وهو الأمن والاستقرار على نظام كفيل بتجنيب بلادنا كل المنزلقات التي عرفتها، إما بأيدي الجاهلين منا لتاريخها أو بأيدي أعدائنا المندسين في صفوفنا صفاً صفاً من تاريخ استقلالنا الى اليوم.
فنحن في اللحظة الفارقة التي سوف لا يشفع لمن يهدر فرصتها أن تسامحه الثورة أو تتسامح معه جماهيرها. قال تعالى :{وَلَكُمْ فِي الْقَصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ لَعَلّكُمْ تَتَّقُونَ}
قال الشيخ الطاهر ابن عاشور:»حتى لا يقدم على القتل مستخفاً بالعقوبات« وذكر ما قاله أحدهم، ويدعى سعد بن ناشب، وقد أصاب دماً وهرب فعاقبه والي البصرة بهدم داره بها:
سأغسل عنّي العار بالسيف جالِبا
علَيّ قضاءَ الله ما كان جالِبا
وأذهَلُ عن داري وأجعلُ هدمها
لعِرْضي من باقي المذمّة حاجِبا
ويصْغُر في عينَيْ تِلادي إذا انثنتْ
يمِيني بإدراك الذي كنتُ طالبا
وعلق عليها بقوله: «ولو تُرك الأمر للأخذ بالثأر كما كان عليه في الجاهلية لأفرطوا في القتل وتسلسل الأمر (...)، فكان في مشروعية القصاص حياة عظيمة من الجانبين ».
وما حياة اليوم إلا بحياة الثورة. وما كان الإسلام كما يصفه أعداؤه اقتلالاً واغتيالاً بين أبنائه بقدر ما كان شحذاً للسيوف لهم لصدّهم عن حرمات الله وكرامة الإنسان في أرضه وثورة الربيع - كما يزعمونها - في بلادنا.
تونس في 9 فيفري 2013
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: