(238) المسلمون "الفيبريون": نموذج آخر لمعاداة الإسلام
د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5290
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المسلمون الفيبريون (نسبةً إلى العالم الألماني ماكس فيبر)، هم جماعةٌ محدودةٌ من رِجال الاجتماع في بلادنا، تبنَّوا فِكرَ هذا العالِم، وأخَذُوا على عاتقهم مهمَّة نشر هذا الفكر، وإعداد ما يُسمَّى بالمكتبة الفيبرية التي تُتَرجِم أعمالَه إلى اللغة العربية.
كان ماكس فيبر يكنُّ عَداءً عميقًا وكراهية شديدة للإسلام، ولم يكن يتعامَل مع الإسلام بصورة علمية أو نزيهة، إنما كان عنصريًّا ينتقد الإسلام بطريقةٍ تعكس كلَّ صُوَرِ الحقد والتحيُّز الأوربي ضدَّ هذا الدِّين في القرن التاسع عشر، كان الأوربيُّون ينظرون إلى الإسلام على أنَّه الخطر الرئيس العسكري والخلقي على المسيحيَّة، وكانوا يُرجِعون نجاحَه وقوَّته وعظمته غلى عنف وهمجية ودَهاء المسلمين.
كانوا يعتبرون الإسلام دِين: تزمُّت، وشهوانية جنسية، وحريم، وشَعوَذة، وفَوضَى، وقد عكسَتْ كِتابات (ماكس فيبر) عن الإسلام مختلف أبعاد هذه الصورة القاتمة.
لا يقلُّ المسلمون الفيبريون عَداءً للإسلام وكراهية له عن عداء وكراهية أستاذهم الألماني، لكنَّهم لا يُصرِّحون بهذا العداء مباشرةً، وإنما يستنبطونه ثم يُعبِّرون عنه على لسان أستاذهم هذا، أو على لسان عُلَماء الغرب، وهم لا ينبسون بكلمةٍ واحدةٍ دِفاعًا عن الإسلام، وإنما تركوا هذه المهمَّة لعلماء الغرب أيضًا ذرًّا للرَّماد في العيون.
المسلمون الفيبريون متغربون ماركسيون في آنٍ واحد، وعقلانيون علمانيون في آنٍ واحد أيضًا، تدرَّبوا في أوربا والولايات المتحدة، الغرب هو مركزهم الفكري، وهو إطارهم المرجعي الذي يفهمون من خِلاله إسلامهم ومجتمعهم وعالمهم، إنهم مؤمنون بأنَّ ما يُسمَّى (بعلم اجتماع الفهم) عند فيبر، وأطروحته عن (الأخلاق البروتستانتية ونشأة الرأسمالية)، إنما جاءتا لتُناسِب المجتمع الإسلامي الذي يمكن تحليله وفهمه في ضوئهما.
الإسلام (التقليدي) لا يتَّفق عندهم مع النظرة العلميَّة؛ ولهذا يرَوْن أنَّ عليهم واجبَ تقديم المفاهيم الأوربيَّة لإعادة تفسير الإسلام على نحوٍ يُحاوِل التوفيقَ بينه وبين الثقافة الغربيَّة، بحيث يتساوى مع الأسس الإرشاديَّة للفكر الغربي، يخبرون تلاميذهم أنَّ الإسلام النقي متوافقٌ مع العلوم والمجتمع الحديث، وإذا خلَوْا إلى أساتذتهم الغربيين يقولون لهم: إنَّ الدِّين الإسلامي يُعطِّل العلم ويقف في وجه التقدُّم.
يؤمنون كالمستشرقين بأنَّ الإسلام مثل المسيحيَّة ينتمي إلى مرحلةٍ أدنى من التطوُّر الإنساني، وسيُستَبدل نهائيًّا بالعقلانيَّة، إنهم يُسلِّمون بأنَّ الجماهير لا تقبَل فكرَهم، لكنَّهم يُطَمئِنون أنفسَهم بأنَّ العامَّة تحتاج إلى دينٍ عاطفي رمزي، وأنَّه من الصعب للفكر الحرِّ الذي يُمثِّلونه أنْ ينتصر؛ لأنَّ الجماهير لا تحبُّ العقل، ولهذا يعيشون محصورين مع قلةٍ من المثقَّفين والحداثيِّين الذين يُشارِكونهم نفسَ هذه الأفكار، يخدعون الناس بقولهم: إنَّ الدِّين عاملٌ مهم لتماسُك المجتمع، وهم في حقيقة أمرهم - كأستاذهم - لا يعبَؤُون بالدِّين، وينظُرون إليه من زاوية مَدَى مَنفَعته للمجتمع.
لا يجرؤ (المسلمون الفيبريون) على الجهر بالعلمانية إلا وسط خاصَّتهم، لكنَّهم يتحدَّثون بملْء أفواههم عن العقلانيَّة، تظنُّ الناس أنَّ العقلانيَّة من الإسلام؛ لأنَّ الدِّين والعقل في الإسلام متساندان، لكنَّ الناس تجهل أنَّ العقلانيَّة هذه تُعلِي من قيمة العقل في مواجهة الإيمان، وأنها حركة ضد الدِّين وضد الكتب المنزلة، وذات نظرة نفعية تُعطِي وزنًا كبيرًا للمناقشات العلمية والتاريخية المضادَّة للإيمان.
تبنَّى (المسلمون الفيبريون) الخطوط الرئيسة التي حدَّدَها لهم مُعلِّمهم الألماني عن العقلانيَّة، فعرَّفوها بأنها: ازدياد الحسابية والسَّيْطرة المنظَّمة على جوانب الحياة الإنسانيَّة، على أساس قواعد ومَنظُورات لا شأنَ لها بدِينٍ أو رسالة، إنها تَعنِي عندهم إحلالَ النُّظم القضائية والقانونية محلَّ شريعة الله؛ لأنَّ شريعة الله - عندهم - تقومُ على التعسُّف في اتِّخاذ القَرارات، وتعني العقلانية عندهم أيضًا: تحرير الإنسان من الإيمان: بالله، وبالدِّين، وبالغيبيَّات... ترجمة لقولهم بتحرير الإنسان من مَخاوِفه ومن العالم الذي لا يمكن التنبُّؤ به، ومن القُوَى السحريَّة الفوقيَّة بحيث لا تصبح هناك قوى غامضة لا يمكن حِسابها، ويمكن أنْ تقوم بدورٍ ما.
العقلانيَّة عندهم تعني أنَّ الموت حَدَثٌ لا معنى له، وأنَّ الإله بلا قوَّة، وأنَّه غير خالد، وهناك فقط آلهةٌ متنافسون لا حولَ لهم ولا قوَّة، الإله القديم أصبح ميتًا أو شبهَ ميت، ولنْ تولد آلهة أخرى بعدُ (تعالى الله عمَّا يقولون علوًّا كبيرًا).
العلم يعجُّ عندهم بقيم جزئيَّة ومتعارضة، واليقين النهائي في الحياة أمرٌ غير ممكن، لكنَّهم يرَوْن أنَّه بمقدورهم تحقيق درجةٍ من التيقُّن من وجودهم من خلال قبول مسؤوليَّات جديدة، لا مكان للدِّين عندهم إلا في دائرة العلاقات الشخصيَّة، ويجب أنْ يترك الدين للاختيار الشخصي الخالص.
القِيَم عندهم ليست هبةً من الله، ولكنَّها قِيَمٌ نفعية تُحقِّق مصالح جزئية وعملية معيَّنة، وأنَّ على الإنسان أنْ يُجرِي اختياراته بين قِيَمٍ جزئيَّة وغير ثابتة، الأخلاق أرضيَّة عندهم وليست من عند الله، في عالم الأخلاق العمليَّة يصبح الناس أكثر إدراكًا بأنَّ الأخلاقيَّات المتاحة فعلاً، أو التي قد تصبح متاحةً ليست بالضرورة طبيعيَّة ولا من عند الله، ويجب أنْ يتحوَّل الدِّين عندهم إلى تديُّن علماني يقبل القِيَم الدنيوية المسيطرة.
يطمح (المسلمون الفيبريون) يومًا أنْ تُفرَض العلمانيَّة بقرارٍ سياسي إذا ما خابت جُهودهم في فرْض نمطٍ غربي علماني على المجتمع الديني الإسلامي، القضاء على الإسلام أمرٌ مستحيلٌ بالنسبة لهم؛ لذا فهم يعمَلُون على إعطاء الإسلام وظيفة اجتماعية؛ بمعنى: أنْ يسمحوا له بأنْ يكون موردًا من موارد الثقافة القوميَّة والتكامل الاجتماعي مع الحَيْلولة دُون دخوله القِطاعات: السياسية، والقانونية، والتعليمية.
إنهم سُعَداء بإحكام الدولة قبضتها على نظام التعليم الابتدائي والثانوي والجامعي، لكنَّهم ينتظرون ضربة قاضية ونهائية للتعليم الدِّيني حتى ينقطع مَدَدُ الخبراء المتخصِّصين في الأمور الدينيَّة، السيطرة العلمانيَّة على التعليم الدِّيني أمرٌ يُثلِج صدورهم؛ لأنَّه سيفصل الدِّين والتعليم الدِّيني عن القِيَم والنُّظم بمضمون حديث وعقلاني، وسيخرج لهم قادةً دينيِّين بعقلية غربية وسياسية.
يأمل (المسلمون الفيبريون) يومًا أنْ تتحقَّق العَلمَنة الكاملة حتى تصل إلى أدقِّ التفاصيل في الملبس والكتابة والسلوك، وحتى في تفاصيل العبادات الإسلاميَّة، وإنَّه لَيومٌ عظيم عندهم أنْ يسكت صوت الأذان، وأنْ تدخُل الأحذية ودورات المياه والمقاعد إلى صحْن كلِّ مسجد، وتمنع الكتب الدينية والشرائط الإسلامية.
يحرق قلوبهم أنْ يحضر المئات لشيخٍ يتحدث في قَضايا الدِّين، بينما تكون القاعة شبهَ خالية إذا حاضر حَداثي أو متغرب؛ ولهذا يُصابون بالإحباط لأنَّ جُهودهم في تغيير مفهوم التديُّن لدى الشباب لم تأتِ بثمارها بعدُ، محاولاتهم لإخراج المرأة من حِصن الشريعة المنيع لم ولن تهدأ.
من أبرز مُؤلَّفات أستاذهم كتاب: "الاقتصاد والمجتمع"، عالَج (فيبر) الإسلام في هذا الكتاب معالجةً محشوَّة بالعداء والكراهية، الإسلام عنده دِين السادة، جُذوره مسيحية يهودية، ما كان أبدًا دينَ تقوى وإخلاص، وإنما هو دين محاربين من طبقة اجتماعية معيَّنة، ويعتمد نجاحُه على الانتصار العسكري على الأرض، الغنائم هي المحرِّك الأول للصحابة الأوائل، احتياجات المسلمين كمُقاتلين هي التي حدَّدت النظرة الإسلاميَّة للعالم، كلُّ المسلمين عند (فيبر) انتهازيون، أخذوا رسالة النبي وطوَّروها لتتطابَقَ مع أحوالهم المعيشيَّة.
الجهاد عند فيبر يعودُ إلى جُذورٍ يهوديَّة طور منها الإسلام فكرة الجهاد المقدَّس، المسلمون كانوا يخضعون الكفار لأغْراض تتعلَّق بالجِزية بدلاً من إدخالهم الإسلام، أخلاق الإسلام أخلاق متعة حسيَّة ورفض للعالم، النساء في الإسلام هم غرض هذه المتعة، الشهوانية تُسَيطِر على الإسلام حتى إنَّ الآخِرة في الإسلام هي جنَّة شهوانيَّة للجندي، لم ينجح المسلمون في اختيار خليفةٍ لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مباشرةً بسبب نظام تعدُّد الزوجات، هذا هو ما علَّمَه لهم (فيبر).
خرج الأستاذ الألماني على العالم بفكرة (الكارزمية) أو (الإلهامية) التي نسَبَها إلى الأنبياء، وراح رجالنا كالبُلَهاء يُطبِّقونها على النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - السلطة الكارزمية عند فيبر سلطةٌ لشخصٍ له نوعٌ من القداسة أو البطولة وبعض الخصال النادرة، وهي سلطة فجائيَّة ابتكاريَّة تحتوي على تناقُضات، وغير ثابتة ولا مستقرَّة، تعتمد على بعض الأعمال السحريَّة أو الخارقة للعادة، يتبع الناس هذه السلطة لأنَّ النبي يستطيع أنْ يُقدِّم الدليل الواقعي على سُلطته في ضوء السحر والعطايا، يتعامَل الناس مع النبي في ضوء معايير نفعيَّة أو ماديَّة، وتجري العلاقة بين النبي وأتْباعه على غِرار علاقة السيد بالعبيد: (الهبات مقابل الخضوع).
لم يكن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عند فيبر هو النبي الذي نعرفه، إنَّه رجلٌ بَنَى سُلطته على السحر، يدَّعى بأنَّه يُوحَى إليه، وأنَّ القُرآن الذي أتى به معجزةٌ، وأنَّه ينتمي لسلسلة الأنبياء: إبراهيم وموسى وعيسى - عليهم السلام - كلُّ ذلك محض ادِّعاء عند فيبر.
اتَّبع الناس النبي سعيًا وراء الهدايا الملموسة والغنائم، كان الأساس الرئيس لدعوته هو حلُّ المشاكل التجارية، ولأنَّه كان تاجرًا ومتعبدًا فإنَّه استطاع في خلوته أنْ يُدرِك بوضوحٍ أهميَّة تنظيم رغبات المقاتلين في الحصول على الغنائم، إنَّه رجل صاغَ رسالته التوحيديَّة في ضوء المصالح العسكريَّة، واستفاد من صِياغة الناس لرسالته في ضوء حياتهم ومصالحهم الاقتصاديَّة، تزوَّج النبي السيدةَ خديجة - رضي الله عنها - لأنَّه استطاع بهذا الزواج أنْ يخلو في غار حراء، ومع هذه الخلوات المتكرِّرة راح يُفكِّر في مشاكل المجتمع، ويتعزَّى في وفاة طفلَيْه، واستطاع بهذا الزواج أنْ يدخل في جماعة الصفوة من رؤوس الأموال والتجار، الشهوة الجنسية عند الرسول كانت هي أساس التعاليم القرآنية عن الأسرة والزواج.
ترجم (المسلمون الفيبريون) كلَّ ذلك إلى العربيَّة، ولم ينبسوا بكلمة دِفاع واحدةٍ حتى ولو في حاشية ترجماتهم، لا عن الإسلام، ولا عن الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولم يقفْ بهم الأمر عند هذا الحد، فإنهم - وتحت علم (أمانة النص) و(المحافظة على الروح الأصلية للنص) - طعَنُوا الإسلام في الصَّمِيم، فنقلوا لنا على لسان علماء الغرب أنَّ الله دُمية حيَّة (تعالى الله ما يقولون)، وأنَّ الله إسقاطٌ لطبيعة الإنسان بصورةٍ نقيَّة، وأنَّ الحج طقسٌ شبه وثني، وأنَّ الإسلام دين فقهي جافٌّ لا يشبع إلا القليل من الحاجات العاطفيَّة، وأنَّ الإسماعيليَّة استطاعت أنْ تُقدِّم إطارًا كاملاً من المعتقدات، وأنها بديلٌ فكري للسنَّة، وأنَّ كلَّ الصفات التي يخلَعُها الناس على الله صفات إنسانيَّة، وأنَّ الاعتقاد بأنَّ الله يخلق الإنسان تحوَّل الآن إلى الاعتقاد بأنَّ الإنسان هو الذي يخلق الله، وأنَّ الدِّين انعكاسٌ لعالم خرب سُجِنَ فيه الناس، وأنَّ النضال ضد الدِّين هو نضالٌ مباشر ومستمر.
نقل إلينا (المسلمون الفيبريون) طعنات (رودنسون) للإسلام دون أدنى تعليقٍ من جانبهم، وضمُّوا معها طعنات الكتَّاب الأوربيين أيضًا، محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - إمَّا كان سويًّا من الناحية النفسية ولكنه غير مخلص في (ادِّعاءاته) بالنسبة لرسالة الله تعالى، وإمَّا كان مخبولاً وصدق في رسالته النبويَّة.
المحتوى الديني للقرآن غير صحيح، وهو ليس برسالةٍ منزلة، قد يكون الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - عاقلاً ومخلصًا لكنَّه كان مخطئًا؛ لأنَّه قبل معتقدات فلسفيَّة غير ذي بال، القرآن عند (رودنسون) تولَّد من اللاشعور عند النبي، وتمثَّل في عناصر الكلمات التي توارَدتْ عليه، ومن عناصر تجربته الفعلية ومضمون أفكاره ومناقشاته التي سمعها، ثم ظهرت مرَّة أخرى مجزأة متغيرة في شكل جديد هو القرآن؛ أي: إنَّ النبي خلق القرآن من خلقه اللاواعي عن طريق إعادة خلق تجاربه ومعارفه السابقة التي تحصل عليها بالخطأ.
كلُّ هذه الطعنات في النبي وفي الرسالة وفي القُرآن ترجمها لنا (المسلمون الفيبريون) دون أنْ ينبسوا بكلمة دفاع ولو في حاشية ترجمتهم، قبلوا مفهوم (الإلهامية) أو (الكارزمية) عند فيبر وطبَّقوه على نبيهم، ولأنهم متغربون قالوا: إنَّ الله (فكرة) أي ليس بحقيقة، وأنَّ الإسلام (ظاهرة)؛ لأنَّ الغرب علمهم أنَّ (الدين ظاهرة اجتماعية)، ودخلوا جُحرَ الضب الذي دخَلَه الغرب قبلهم، فاعتقدوا أنَّ الإسلام ظاهرة عميقة ومعقَّدة، في حين أنَّ الظاهرة تعني عند الغرب: أي موضوع أو واقعة يمكن ملاحظتها والتعرُّف عليها عن طريق الحواس، وتعتمد على التجربة والخبرة الحسيَّة، فمنذ متى كان الله - تعالى - والملائكة والشياطين والجنة والنار والبعث والحساب تخضع للخبرة الحسية والتجريب؟
قَبِلَ (المسلمون الفيبريون) مقولات أستاذهم؛ ليس لأنَّه يرى بأنَّ الأخلاق الرأسمالية والعلمانية توافق بلاد المسلمين، ولكن لأنهم تعلَّموا ودرسوا هذه المفاهيم في بلاد الغرب.
قبلوا الفكر العقلاني الغربي برحابة صدر، وإذا راجعتهم قالوا لك: إنَّ العلوم الحديثة كانت في الأصل عربيَّة، وأنَّ التقدُّم الأوربي يعتمد كثيرًا على منجزات الإسلام في إسبانيا، وإنَّنا نستردُّ من الغرب ما كان لنا أصلاً، لقد وصلت بهم البلاهة وانعدام الإدراك إلى قبول المفردات التي حدَّدَها لهم الغرب لفهْم الإسلام وفهْم العالم، ترجموا لنا - دون تعليق - أنَّ الإسلام جافٌّ، وأنَّه ليس دينًا بالمرَّة.
أثَّرت عليهم المفاهيم الدوركايمية والماركسية مثلما أثَّرت على أستاذهم، فعرفوا لنا الدِّين دون الاعتراف بالله أو الغيبيَّات، صوَّروا العلاقة بين الله والإنسان على أنها علاقةٌ بين إنسانٍ وإنسانٍ، ردُّوا العلاقة بين الله والإنسان إلى أساسٍ مادي يسيرُ وفقًا لما يسمُّونه بالعلاقات الإنتاجيَّة، فالله هو السيد والناس هم العبيد (بالمعنى الإقطاعي)، أصوات الجن وآلهة القبائل استُبدِلت عندهم بمتكلِّم رئيس هو (الله)، يتَّصل بالناس على مسافة اجتماعية بعيدة.
نقلوا إلينا عن أستاذهم أنَّ الإسلام يتبنَّى اتجاهًا شهوانيًّا خالصًا، خاصَّة تجاه النساء، والكماليَّات، والملكية، وأنَّ الإسلام اعتبر النساء غرضًا للمتعة الجنسيَّة، وأنَّ النبي رجلٌ شهواني، وأنَّ دينه هو دين العطور والبخور وتهذيب اللِّحَى.
الأمانة مع نصوص فيبر جعلتهم يترجمون لنا كلَّ ذلك؟! ولو كانت لهم أمانةٌ مع العقيدة لأبرزوا بوضوحٍ ما ترجموه بأنفسهم عن أسباب هذا العداء الشخصي من جانب فيبر للإسلام وللنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا العداء الذي ارتبط بموقف فيبر من العلاقة بين الدِّين والجنس، وكيف أنَّ سيرة فيبر الشخصية والجنسية والعائلية والاجتماعية أثَّرت بوضوحٍ على تحليله ونظرته للإسلام.
لم يكن والدَا (الأستاذ) على وفاقٍ، ليس في قَضايا السياسة والدِّين فقط، وإنما أيضًا في علاقتهما الشخصيَّة والجنسيَّة.
كانت أمُّه - كما ترجم المسلمون الفيبريون - باردة جنسيًّا، تزوَّج فيبر من إحدى قريباته، لم يستطع ممارسة الجنس معها لعجزه الجنسي، ولم يستطع النوم بسبب خوفه من حالة القذف الليلي الذي لم يكن بمقدوره التحكُّم فيه، نجح في ممارسة الجنس مرَّة واحدة فقط في حياته مع امرأةٍ زنا بها في أواخر الأربعينات من عمره؛ ولهذا كانت مشكلة فيبر الجنسية هي المفتاح لفهْم نظرته إلى الإسلام.
يقول (ب. تيرنر) في ذلك: "لم يكن فيبر بقادرٍ على أن يتخطَّى العوائق العاطفية التي أوجدتها الظروف الجنسية في حياته الشخصية وهو يتعامل مع الإسلام والرسول، لم يستطع أنْ يكون حياديًّا في تحليلاته بسبب ما ألَمَّ به من ظروف".
شرح فيبر أخلاقَ الإسلام في ضوء نظرته للأخلاق البروتستانتية، عالَجَ القيم في الإسلام كشيء ثانوي، عادَى الإسلام تمشيًا مع الاتجاه الأوربي المعادي، ومع عَداء المستشرِقين للإسلام وعلى رأسهم (كارل بيكر)، درس فيبر نشأة الإسلام في ضوء نظرية الحتمية الاقتصادية، تَرجَم لنا (المسلمون الفيبريون) تفسير ماركس للدِّين بأنَّه ليس له محتوى في ذاته، ولا يستمدُّ حياته من السماء وإنما من الأرض، وأنَّه يفنى بفناء الواقع، (ولم يعقبوا بكلمة).
نقلوا لنا ابتهاج (إنجلز) بهزيمة عبدالقادر الجزائري واحتلال فرنسا للجزائر، وكيف نظَر (إنجلز) إلى المسلمين في الجزائر على أنهم أمَّة من بدو الصحراء ومن اللصوص لا يُؤسَف على ضَياع حريتهم، وأنَّ الفرنسي الحضري الصناعي المتفتِّح فكريًّا أفضل من هؤلاء البرابرة (ولم ينبسوا بكلمة).
أجمع الباحثون الغربيون على أنَّ لغة فيبر لغة علميَّة معقَّدة، وأنَّه يعالج موضوعاته بطريقةٍ فلسفية عميقة جدًّا، وأنَّ كتاباته تتميَّز بالصعوبة والغموض، وأنَّ الدراسة المتعمِّقة لعلوم الاجتماع عنده تجعله أكثر تعقيدًا وتشعُّبًا، قضاياه غير متَّسقة، ومن الصعب إيجادُ تفسيرٍ موثوق به لفِكرِه ونظريَّته، وأنَّ أيَّة محاولة للتعرُّف على ما الذي يَعنِيه فيبر حقًّا هي بالضرورة مخيِّبة للآمال، يقومُ علم الاجتماع عنده على أهميَّة فهْم (ادِّعاءات) الفاعل قبلَ الشُّروع في تفسيرها، وعند دراسته للإسلام وللنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان هو أوَّل مَن تخلَّى عن مبدئه، هاجَم الإسلام والنبي رغم محدوديَّة الدراسات الألمانيَّة عن الإسلام، ورغم عدم توافُر المعلومات الواقعيَّة عنده، وعدم وجود تفسيرات للقُرآن لديه.
تعقيد وغُموض وصُعوبة وعدم اتِّساق في فكر (فيبر)، وتحيُّز وعَداء وتعدٍّ منه على الإسلام ونبيِّه، كلُّ هذا يعترف به الباحثون الغربيون، أمَّا أتباع فيبر في بلادنا فيقولون: إنَّ فكرَه يصلح صلاحية تامَّة لدراسة مجتمعاتنا.
(فيبر) عندهم رجلٌ مبجَّل ومحترم ونشط وذو شخصيَّة ساحرة وقويَّة، وقدرة عقليَّة ثاقبة، مؤلفات فيبر عند رجالنا نصبٌ تذكاري يجب تأمُّله من بعيدٍ، وأنَّ علينا أنْ نجعلها هاديًا لنا، وأنْ نطوِّر بحوثنا بصفةٍ عامَّة في ضوء النظريات الألمانية بزعامة (فيبر)؛ لأنها مليئةٌ بالمنطق والأطر التصوُّرية السليمة، رجالنا يرَوْن (فيبر) رجلاً عبقريًّا ذا فكر منهجي، إنَّه الرجل الذي (تجلَّت عظمته) في قُدرته الفائقة على شمول كافَّة مسائل علم الاجتماع، إنَّه صاحب الإطار النظري الواضح المعالم، المستخدِم لمنهج متميِّز ثاقب الرؤية واسع البصيرة، لقد أعمى الله بصيرتهم حتى عن مجرَّد فهْم واستيعاب ما ترجموه بأيديهم عن أستاذهم الألماني.
أوقع ماكس فيبر أتباعَه في بلادنا في حفرةٍ عميقةٍ حينما علَّمهم ألاَّ يعبَؤُوا بالنص الديني، وإنما يهتمُّون فقط بالآثار الاجتماعية والنفسية لهذا النص على الناس، فراحوا كالبُلَهاء يُطبِّقون هذا المبدأ على الإسلام، فضاعَتْ نصوص العقيدة من بين أيديهم، ولم يبقَ لهم إلا نصوص (فيبر)، فكانوا أُمَناء معها، محافظين على روحها، أمَّا مهمَّة الدِّفاع عن الإسلام فتركوها لغير المسلمين الذين لا يفهَمُون الإسلام إلا كظاهرةٍ، ولا ينطَلِقون في دراسته إلا من نفس مفاهيم فيبر، ونسوا أنهم ترجموا لنا قولهم: إنهم لا يهدفون إلى الحكم على مَدَى صلاحية مقولات فيبر، بل يُحاوِلون توضيح ماهيَّتها.
هؤلاء هم (المسلمون الفيبريون)، وهذه هي حقيقتهم، إنهم من بني جلدتنا ويتحدَّثون بألسنتنا ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ ﴾ [البقرة: 14].
حادوا عن الطريق المستقيم ﴿ اشْتَرَوُا الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى ﴾ [البقرة: 16].
في طبيعتهم آفةٌ وفي قلوبهم علة ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11].
إنهم نموذج مُتكرِّر على امتِداد الزمن، لا يجدون في أنفسهم الجُرأة والشجاعة ليُواجِهوا الحقَّ بالإيمان الصريح، أو يجدون في أنفُسِهم الجرأة والشجاعة ليواجهوا الحق بالإنكار الصريح.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: