(133) علي رضي الله عنه هكذا كان.. وهكذا قال.. وهكذا مات
د- أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 5683
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد- صلى الله عليه وسلم -وعلى آله وصحابته أجمعين.
هذا هو الإصدار الثاني من سلسلة "مختارات من كتب التراث الإسلامي"، وعنوانه: "علي - رضي الله عنه - هكذا كان.. وهكذا قال.. وهكذا مات".
استخرَجْنا مادَّة هذا الكُتيِّب من كتاب "مختصر كتاب صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي"؛ تأليف الشيخ عبدالوهاب بن أحمد بن علي الأنصاري المعروف بالشعراني، نشرتْ الكتاب مكتبةُ الفلاح بالهفوف والإحساء في عام 1387هـ/1967م.
وحتى تتحقَّق وحدة موضوع هذا الكُتيِّب، فقد طعَّمناه بما كتَبَه الشيخ محمد يوسف الكاندهلوي عن إسلام علي - رضِي الله عنه - في كتابه "مختصر حياة الصحابة"، وبما كتبه الشيخ ابن الجوزي نفسه عن الإمام عليٍّ في كتابه "تلبيس إبليس" الذي طبَعَتْه دارُ إحياء الكتب العربية بالقاهرة.
نسأَلُه - تعالى - أنْ يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأنْ يتقبَّلَه منَّا، وأنْ يجعله في مِيزاننا يومَ الموقف العظيم.
• • • • • •
جاء النبي- صلى الله عليه وسلم -والسيدة خديجة - رضِي الله عنها - يُصلِّيان، فقال علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه -: يا محمد، ما هذا؟ قال: ((دِين الله الذي اصطَفَى لنفسه وبعَث به رُسلَه، فأدعوك إلى الله وحدَه لا شريك له وإلى عِبادَته، وأنْ تكفُر باللات والعُزَّى))، فقال علي: هذا أمرٌ لم أسمعْ به قبلَ اليوم، فلستُ بقاضٍ أمرًا حتى أحدِّث به أبا طالب، فكَرِه رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -أنْ يفشي عليه سرَّه قبل أنْ يستَعلِن أمره، فقال له: ((يا علي، إذا لم تُسلِم فاكتُم))، فمكَث عليٌّ تلك الليلة، ثم إنَّ الله أوقع في قلب عليٍّ الإسلامَ؛ فأصبح غاديًا إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -حتى جاءَه فقال: ماذا عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((تشهَد ألا إله إلا الله لا شَرِيك له، وتكفُر باللات والعُزَّى، وتبرَأ من الأنْداد))، ففعَل عليٌّ وأسلَم، ومكَث يَأتِيه على خَوْفٍ من أبي طالبٍ، وكتَم إسلامَه ولم يُظهِرْه.
هذا هو عليُّ بن أبي طالب، يجتَمِع مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم -في عبدالمطلب، الجد الأدنى ويُنسَب إلى هاشم ويُقال له: القرشي الهاشمي، ابن عمِّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم -لأبويه، ولم يزَل اسمه في الجاهليَّة والإسلام عليًّا.
ويُكنى بأبي الحسن وأبي تُراب، كنَّاه به رسول الله- صلى الله عليه وسلم -فكان أحبَّ أسمائه إليه، أسلَمَ وهو ابن سبع سِنين وقيل: تسع، وقيل: عشر، وقيل: خمسة عشرة وشهر، شَهِدَ المشاهد كلَّها إلا تبوك، فإنَّه - صلَّى الله عليه وسلَّم – خلفه في أهله، ولَمَّا هاجَر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -أقامَ بعدَه ثلاث لَيالٍ وأيَّامها حتى أدَّى عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -الودائع ثم لَحِقَ به.
فهو ابن عَمِّهِ ومُؤازره ومُؤاخِيه وزوج ابنته فاطمة البَتُول، وقرَّة عين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم.
كم له من قتيلٍ ومُصاب وجريح! وكم كشَف عن نبيِّ الله- صلى الله عليه وسلم -شدَّةً وبُؤسًا؛ حتى خَصَّه بقوله: ((أنت منِّي بمنزلة هارُون من موسى))! وكم فرَّج عنه غمَّةً وكربًا حتى أنزل الله فيه قوله: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ [الشورى: 23].
كان علي - رضِي الله عنه - "بعيد المدى، شديد القُوى، يقول فصلاً، ويحكُم عدلاً، يتفجَّر العلم من جَوانبه، وتنطق الحكمة من نَواحِيه، يستَوحِش من الدُّنيا وزَهرتها، ويستَأنِس بالليل وظُلمته، كان غزير الدمعة، طويل الفكرة، يُقلِّب كفَّه ويخاطب نفسَه، يُعجِبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما كان بلا أدم، يُعظِّم أهلَ الدِّين، ويحبُّ المساكين، لا يطمع القويُّ في باطِله، ولا يَيْئس الضعيف من عدله.
كان يقبض على لحيته، ويتمَلمَل تملمُلَ السليم، ويبكي بُكاءَ الحزين، ويقول: يا دُنيا، إليَّ تعرَّضتِ، أم لي تشوَّقتِ؟! غرِّي غيري، عمرك قصير، وعيشك حقير، وخطرك كبير، آهٍ آهٍ من قلَّة الزاد، وبُعد السفر، ووحشة الطريق".
هكذا وصَفَه ضِرارٌ لمعاوية - رضِي الله عنه - فذرفت دُموعُ معاوية على لحيته ثم قال: "رَحِمَ الله أبا الحسن كان والله كذلك".
قال رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم -يوم خيبر: ((لأُعطينَّ هذه الراية غدًا رجلاً يفتَح الله على يديه؛ يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله"، فباتَ الناس يتساءَلون طول ليلهم: أيُّهم يُعطاها؟ فلمَّا أصبح الناس غدَوْا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم -كلهم يرجو أنْ يُعطاها فقال: ((أين علي بن أبي طالب؟))، فلمَّا جاءَه أعطاه الراية فقال علي: أقاتِلُهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعُهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله فيه، فوالله لأنْ يهدي الله بك رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النَّعَمِ)).
كان له شفقةٌ على رعيَّته، متواضعًا وَرِعًا، ذا قوَّة في الدِّين، وكان قُوتُه من دقيق الشعير؛ يأخُذ منها قبضة يضعها في القدح ثم يصبُّ عليه ماءً ويشربه.
أُتِيَ له بالفالُوذَج فوُضِع أمامَه، فقال: "إنَّك لطيِّبُ الريح، حسَن اللون، طيِّب الطعم، لكنِّي أكرَه أنْ أُعوِّد نفسي ما لم تعتَدْ، ولم يأكُل منه"، لم يأكُلْ طعامًا منذ قُتِل عثمان ونهبت الدار إلا مختومًا؛ حذرًا من شُبهة الحرام فيه، ولم يَأكلْ من طعام العراق إلا قليلاً.
كان يرقع قميصه ويقول: "لبس المرقع يحسن القلب، ويقتدي به المؤمن"، وكان يقطع عن قميصه ما زاد على رُؤوس الأصابع، كان - رضِي الله عنه - يبرد في الشتاء حتى ترتَعِد أعضاؤه من البرد، فقِيل له: ألا نأخُذ لك كساءً من بيت المال؛ فإنَّه واسع؟ فقال: لا أنقص المسلمين من بيت مالهم شيئًا"!
قيل له مرَّةً: ألا نحرسك يا أمير المؤمنين؟ فقال: "حارس كلِّ امرئ أجلُه".
ومن أقواله - رضِي الله عنه -:
تسع كلمات تقطَّعت الأطماع عن اللحاق بواحدةٍ منهن؛ ثلاث في المناجاة، وثلاث في العلم، وثلاث في الأدب.
فأمَّا التي في المناجاة فهي: كفاني عِزًّا أن تكون لي ربًا، وكفاني فَخْرًا أنْ أكون لك عبدًا، أنت لي كما أحبُّ، فوفِّقني لما تحبُّ.
وأمَّا التي في العلم فهي: المرء مخبوءٌ تحتَ لسانه، تَكلَّموا تُعرَفوا، ما ضاعَ امرؤ عَرَفَ قدرَه.
وأمَّا التي في الأدب فهي: أنعِمْ على مَن شئت تكن أميرَه، واستَغنِ عمَّن شئت تكنْ نظيرَه، واحتَجْ إلى مَن شئت تكن أسيرَه.
الدنيا جِيفة، فمَن أراد منها شيئًا فليَصبِر على مخالطة الكلاب.
موت الإنسان بعدَ أنْ كبر وعرف ربَّه خيرٌ من موته طفلاً، ولو دخل الجنَّة بغير حساب؛ لأنَّ أقلَّ ما هنالك أنَّ العبد يُجالِس ربه في الجنَّة بقدر ما عمل من العبادات.
أعلَمُ الناس بالله أشدُّهم حُبًّا وتعظيمًا لأهل لا إله إلا الله.
كُونوا لقبول أعمالكم أشدَّ اهتِمامًا منكم بالعمل؛ فإنَّه لن يقلَّ عمل مع التقوى، وكيف يقلُّ عمل متقبَّل؟!
إذا كان يوم القيامة أتت الدنيا بأحسن زينتها، ثم قالت: يا رب، هبني لبعض أوليائك، فيقول الله - عزَّ وجلَّ - لها: اذهبي بلا شيء، فلَأنتِ أهون من أنْ أهبك إلى بعض أوليائي، فتُطوَى ثم تُلقَى في النار.
لا يرجونَّ العبد إلا ربَّه، ولا يخافنَّ إلا ذنبه.
لا يستحيي جاهلٌ أنْ يسأل عمَّا لم يعلم، ولا يستحيي عالم إذا سُئِل عمَّا لا يعلم أنْ يقول: الله أعلم.
أخوف ما أخاف عليكم اتِّباع الهوى وطُول الأمل؛ فأمَّا اتِّباع الهوى فيضلُّ عن الحق، وأمَّا طُول الأمل فينسي الآخِرة.
الفقيه كل الفقيه مَن لا يقنط الناس من رحمة الله، ولا يؤمنهم من عذاب الله، ولا يرخص في معاصي الله، ولا يدع القُرآن رغبةً منه إلى غيره.
لا خيرَ في عبادةٍ لا علمَ فيها، ولا خيرَ في علمٍ لا فهْم فيه، ولا خيرَ في قراءةٍ لا تدبُّر فيها.
التقوى هي ترك الإصرار على المعصية، وترك الاغترار بالطاعة.
أشدُّ الأعمال ثلاثةٌ: إعطاء الحقِّ من نفسك، وذِكرك الله - تعالى - على كلِّ حال، ومُواساة الأخ في المال.
لم يرضَ الله - تعالى - من أهل القُرآن الإدهان في دِينه والسُّكوت على معاصيه.
ما نلت مِن دُنياك فلا تكثرن به مرحًا، وما فاتك منها فلا تأسَ عليه حزنًا، وليكنْ همك فيما بعد الموت.
ليس الخير أنْ يكثُر مالك وولدك، ولكنَّ الخير أنْ يكثُر عملك، ويعظم حلمُك.
لا خيرَ في الدنيا إلا لأحد رجُلَيْن: رجل أذنب ذنبًا فهو يتدارَك ذلك بتوبة، ورجل يُسارع في الخيرات، ولا يقلُّ عملٌ مع التقوى، وكيف يقلُّ ما يتقبَّل؟ ألا وإنَّ الدنيا قد ترحَّلت مدبرةً، وإنَّ الآخرة قد ترحَّلت مقبلة، ولكلِّ واحدة منها بنون، فكونوا من أبناء الآخِرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإنَّ اليوم عملٌ ولا حساب، وغدًا حسابٌ ولا عمل.
الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، ولا خيرَ في جسدٍ لا رأسَ له.
الناس ثلاثة: فعالم رباني، أو متعلِّم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كلِّ ناعق، العلم خيرٌ من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، العلم يزكو على العمل والمال تنقصه النفقة، العلم حاكمٌ والمال محكوم عليه، ومنفعة المال تَزُول بزواله، ومحبة العالم دين، بات خُزَّان المال أمواتًا وهم أحياء، والعُلَماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة.
أوحى الله - عزَّ وجلَّ - لنبيٍّ بين الأنبياء أنَّه ليس من أهل بيتٍ ولا أهل دارٍ ولا أهل قريةٍ يكونون لي على ما أحبُّ فيتحوَّلون عن ذلك إلى ما أكره إلا تحوَّلت لهم ممَّا يحبون إلى ما يكرهون، وليس من أهل بيت ولا أهل دار ولا أهل قرية يكونون لي على ما أكره فيتحوَّلون من ذلك إلى ما أحبُّ إلا تحوَّلت لهم ممَّا يكرهون إلى ما يحبُّون.
اعلَمُوا أنَّكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيُّون بها، فلا تغرَّنَّكم الحياة الدنيا فإنها دار بالبلاء محفوفة، وبالفناء معروفة، وبالغدر موصوفة، كلُّ ما فيها إلى زوال، وهي بين أهلها دول وسجال.
واعلَمُوا أنَّكم وما أنتم فيه من زهرة الدنيا على سبيل مَن قد مضى ممَّن كان أطول أعمارًا وأعمر ديارًا، فأصبحت أجسادهم بالية، وديارهم خالية، وفي القبور التي محلُّها مقترب، وساكنها مغترب، قد طحنهم البِلَى، وأكلَتْهم الجنادب والثَّرى، وكأنْ قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البِلَى، والوحدة في دار المثوى، فكيف بكم لو قد تناهَت الأمور وبُعثِرت القبور وحُصِّلَ ما في الصدور، هنالك تُجزَى كلُّ نفس بما كسبت وهم لا يُظلَمون.
الدنيا لا يدوم نعيمُها، ولا تؤمن فجائعُها، غرورٌ حائل، وسنا مائل.
شيَّع علي - رضي الله عنه - جنازةً، فلمَّا وُضِعتْ في لحدها عَجَّ أهلها وبكوا فقال: ما تبكون! أمَّا والله لو عايَنوا ما عايَن ميِّتهم لأذهلتهم مُعاينتهم عن ميِّتهم، وأنَّه له فيهم لعودةٌ ثم عودة حتى لا يبقي منهم أحد.
قال عبدالله بن عباس - رضي الله عنهما -: ما انتفعتْ بكلام أحدٍ بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -كانتفاعي بكتابٍ كتَبَه إليَّ علي بن أبي طالب؛ فإنَّه كتب إليَّ:
أمَّا بعدُ، فإنَّ المرء يسوءُه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسرُّه إدراك ما لم يكن ليفوته، فليكنْ سرورك بما نلت من أمر آخِرتك، وليكنْ أسفك على ما فاتَك منها، وما نلت من دُنياك فلا تكثرن به فرحًا، وما فاتك منها فلا تأسَ عليه حُزنًا، وليكن همك فيما بعد الموت.
لبَّس إبليس على بعض الناس حتى قالوا: إنَّ عليًّا هو الإله فأحرقهم في النار، ومن الناس مَن يقول: هو خيرٌ من الأنبياء، ومنهم مَن سبَّ وكفَّر أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - ومنهم مَن ذَمَّ جبريل - عليه السلام - ويقول: إنَّه كان مأمورًا بالنزول على عليٍّ فنزل على محمد، بالَغ هؤلاء الناس في حُبِّ عليٍّ - رضِي الله عنه - فحملهم هذا الحبُّ على وضع أحاديث كثيرة في فضائله، أكثرها تُشِينه وتُؤذيه، فقالوا مثلاً: إنَّ الشمس إذا غابت ففاتت عليًّا صلاة العصر فردَّت له الشمس.
جاء رجلٌ إلى علي - رضي الله عنه - كان قد مَرَّ على نَفَرٍ من أصحابه يذكرون أبا بكرٍ وعمر - رضِي الله عنهما - بغير الذي هما له أهل، فدخل على علي - رضِي الله عنه - فذكر له ذلك، وقال له: يا أميرَ المؤمنين، لولا أنهم يرَوْن أنَّك تُضمِر لهما على مثل ما أعلنوا به ما اجترؤوا على ذلك، فقال علي: "أعوذ بالله أنْ أضمر لهما إلا الذي ائتمنَنِي النبي عليه، لعن الله مَن أضمر لهما إلا الحسن الجميل، أخوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وصاحباه ووزيراه - رحمة الله عليهما - ثم نهض دامعَ العين يبكي، قابضا على يد الرجل، حتى دخل المسجد فصعد المنبر، وجلس عليه متمكنًا وهو قابض على لحيته، وينظُر فيها وهي بيضاء، حتى اجتمع لهما الناس، ثم قام فتشهَّد وقال: ما بال أقوام يذكُرون سيدَيْ قريش، وأبوَيِ المسلمين بما أنا عنه مُتنزِّه، وممَّا قالوا بريء، وعلى ما قالوا مُعاقِب، أمَا والذي فلَق الحبة وبرَأ النَّسَمة، لا يحبهما إلا مؤمن تقي، ولا يبغضهما إلا فاجرٌ شقي، صَحِبَا رسول الله- صلى الله عليه وسلم -على الصِّدق والوفاء، يأمُران وينهيان، ويغضَبان ويعاقبان، فما يتَجاوَزان فينا يصنعان رأي رسول الله- صلى الله عليه وسلم -ولا كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يرى غيرَ رأيهما، ولا يحبُّ كحبهما أحدًا، مضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وهو راضٍ عنهما، ومضيا والمؤمنون عنهما راضون، أمَّر رسول الله- صلى الله عليه وسلم -أبا بكرٍ على صلاة المؤمنين، فصلَّى بهم تسعة أيام، في حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -فلمَّا قبَض الله نبيَّه واختار له ما عنده، ولاَّه المؤمنون ذلك، وفوَّضوا إليه الزكاة، ثم أعطوه البيعة طائعين غير مكرهين، وأنا أوَّل مَن سنَّ له ذلك من بني عبدالمطلب، وهو لذلك كاره، يودُّ لو أنَّ منَّا أحدًا كفاه ذلك، وكان والله خير مَن بقي، أرحمه رحمةً، وأرأفه رأفةً، وأسنه ورعًا، وأقدمهم سنًّا وإسلامًا، شبهه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بميكائيل رأفةً ورحمةً، وإبراهيم عفوًا ووقارًا، فسار بسيرة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -حتى مضى على ذلك - رحمة الله عليه - ثم ولي الأمر من بعده عمر - رضِي الله عنه - وكنت فيمَن رضي، فأقام الأمر على منهاج النبي- صلى الله عليه وسلم -وصاحبه؛ يتبع آثارهما كما يتبع الفصيل أثر أمِّه، وكان والله رفيقًا رحيمًا بالضعفاء، ناصرًا للمظلومين على الظالمين، لا تأخُذه في ذلك لومة لائم، وضرَب الله الحقَّ على لسانه، وجعل الصدق من شأنه حتى إن كنَّا لنظنُّ أنَّ ملكًا ينطق على لسانه، أعزَّ الله بإسلامه الإسلام، وجعل هجرته للدين قوامًا، وألقى له في قلوب المنافقين الرهبة، وفي قلوب المؤمنين المحبَّة، شبَّهه رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بجبريل؛ فظًّا غليظًا على الأعداء، فمَن لكم بمثلهما - رحمة الله عليهما - ورزقنا المُضِيَّ في سبيلهما، فمَن أحبَّني فليحبهما، ومَن لم يحبهما فقد أبغضني وأنا منه بريء، ولو كنت تقدَّمت إليكم في أمرهما لعاقبت في هذا أشدَّ العقوبة، ألا فمَن أُتِيت به يقول بعد اليوم، فإنَّ عليه ما على المفتري، ألا وخير هذه الأمَّة بعد نبيها- صلى الله عليه وسلم -أبو بكر، وعمر - رضِي الله عنهما - ثم الله أعلَمُ بالخير أين هو، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم".
"لَمَّا مات أبو بكرٍ - رضي الله عنه - جاء عليُّ بن أبي طالب - رضِي الله عنه - مُسرِعًا مسترجعًا وهو يقول: اليوم انقطعت النبوَّة، حتى وقَف على البيت الذي فيه أبو بكرٍ فقال: "رحمك الله يا أبا بكر، كنت إلفَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وأنيسه ومكان راحته، وموضع سِرِّه ومشاورته، وكنت أوَّل القوم إسلامًا، وأخلصهم إيمانًا، وأحسنهم صُحبةً، وأكثرهم مناقب، وأفضلهم سوابق، وأشرفهم منزلة، وأرفعهم درجةً، وأقربهم وسيلةً، وأشبههم برسول الله- صلى الله عليه وسلم -هديًا وسمتًا، وأكرمهم عليه، فجَزاك الله عن رسوله وعن الإسلام أفضلَ الجزاء، صدَّقت رسول الله- صلى الله عليه وسلم -حين كذَّبه الناس، وكنت عنده بمنزلة السمع والبصر، سمَّاك الله في تنزيله صدِّيقًا فقال: ﴿وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: 33].
الذي جاء بالصِّدق: محمد، والذي صدَّقَه به: أبو بكر.
واسَيْته حين بَخِلوا، وقُمت معه على المكاره حين قعَدوا، وصَحِبته في الشدَّة أكرَمَ الصحبة، ثاني اثنين وأنت صاحبه في الغار والمنزَّل عليه السكينة، وخلفته في دينه أحسن الخلافة حين ارتدُّوا، فقمت بالأمر ما لم يقمْ به خليفةُ نبيٍّ، نهضت حين وهَن أصحابه، وبرزتَ حين استكانوا، وقويت حين ضعفوا، ولزمت منهاج رسول الله- صلى الله عليه وسلم -إذ وهنوا.
كنت خليفته حقًّا، لم تنازع ولم تصارع، قمت بالأمر إذ فشلوا، ونطقت إذ تتعتَعُوا، ومضيت بنور الله إذ وقَفُوا، فاتَّبعوك فهُدوا، وكنت أبلغهم قولاً، وأكرمهم رأيًا، كنت بالمؤمنين برًّا ورحيمًا حين صاروا عليك عيالاً، فحملت أثقال ما ضعفوا، وكنت على الكافرين عذابًا صبًّا وللمؤمنين رحمة وخصبًا، فطرت والله بغنائها، وقد فُزت بحبائها، وذهبت بفَضائلها، وأدرَكتَ سَوابِقها، ثم لم تفلل (تهزم) حجتك، ولم تضعُف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، ولم يزغ قبلك، فلذلك كنت كالجبل لا تُحرِّكه العواصف، ولا تزيله القواصف، وكنت كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم -أمنَّ الناس عليه في صُحبتك، وذات يدك، وكنت كما قال ضعيفًا في بدنك، قويًا في أمر الله، متواضعًا في نفسك، عظيمًا عند الله، جليلاً في أعين الناس، كبيرًا في أنفُسهم، لم يكن لأحدٍ فيك مَغمَز، ولا لقائلٍ فيك مَهمَز، ولا لأحد فيك مَطعَن، ولا لمخلوق عندك هَوادة، الضعيف الذليل عندك قويٌّ حتى تأخذ بحقه، القريب والبعيد عندك سواء، وأقرب الناس عندك أطوعهم لله وأتْقاهم له، قولك حكم، ورأيك علم، فسبقت والله سبقًا بعيدًا، وأتعبت مَن بعدك تعبًا شديدًا، وفُزت بالخير فوزًا مُبِينًا، فجللت عن البكاء، وعظمت رزيَّتك في السماء، وهدَّت مصيبتك الأنام، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون! رضينا عن الله قضاءه، وسلَّمنا لأمرِه، فوالله لن يُصاب المسلمون بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم -بمثلك أبدًا، كنت للدِّين سندًا وكهفًا، وللمؤمنين فئة وحصنًا، وعلى المنافقين غلظةً وغيظًا، فألحقك الله بنبيِّك- صلى الله عليه وسلم -ولا حرمنا أجرَك، ولا أضلَّنا بعدَك، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون!".
سكتَ الناس حتى فرغ عليُّ بن أبي طالب من مَقالته، ثم قالوا: صدقت يا ختن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -وبكوا حتى علَتْ أصواتهم - رضِي الله عنهم.
ولَمَّا ولي عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - الخلافة بزمنٍ كتب أهل الكوفة إليه كتابًا، فصعد إلى المنبر وهو يبكي ويُنادي: أين المسلمون؟ أين المهاجرون والأنصار؟ فاجتمعوا إليه حتى امتلأ المسجد، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمَّا بعد، أيها الناس، فإنَّ الشيطان قد جمَع لكم جموعًا كثيرة وأقبل بها إليكم، ألا وإنَّ أهل الري وأهل خراسان وهمدان ونهاوند أممٌ مختلفة ألوانها وأديانها، ألا إنهم قد تعاقَدُوا وتعاهَدُوا على أنْ يسيروا إليكم في بلادكم فيقتُلوكم، ألا وإنَّ هذا يومٌ له ما بعده من الأيام، فأشيروا عليَّ برأيكم.
هنا قام علي بن أبي طالب - رضِي الله عنه - بعد طلحة بن عبيدالله وعثمان بن عفان - رضي الله عنهما - فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أمَّا بعدُ يا أمير المؤمنين، فإنَّك إنْ كتبت إلى أهل الشام أنْ يسيروا إليك من شامهم إذًا تسيرُ الروم إلى ذَراريهم فتسبيهم، وإنْ تكتب إلى أهل اليمن أنْ يسيروا إليك من يمنهم إذًا تسيرُ الحبشة إلى ذَرارِيهم فتسبيهم، وإنْ سرت أنت ومَن معك إلى هذين المصرين إذًا والله انتقضتْ عليك الأرض من أقطارها وأكنافها، وكان والله يا أمير المؤمنين مَن تخلف وراءك من العَوْرات والعَيْلات أهم إليك ممَّا بين يديك من العجم، والله يا أمير المؤمنين لو أنَّ العجم نظروا إليك عيانًا لقالوا: هذا عمر، هذا رأس العرب، وكان والله أشد لحربهم وجرأتهم عليك، وأمَّا ما كرهت من مسير هؤلاء القوم فإنَّ الله أكره لمسيرهم منك، وهو أقدَرُ على تغيير ما كره، وأمَّا ما ذكرت من كثرتهم فإنَّا ما نُقاتِل مع نبينا بالكثرة، ولكنَّا نُقاتِل معه بالنصر من السماء، وأنا أرى يا أمير المؤمنين رأيًا من تِلقاء نفسي، أرى أنْ تكتب إلى أهل البصرة فيفترقوا ثلاثَ فرق: فرقة تُقِيم في أهل عَهْدِهم بألاَّ ينتقضوا عليهم، وفرقة تُقِيم من ورائهم في ذَراريهم، وفرقة تَسير إلى إخوانهم بالكوفة مددًا لهم، فلمَّا سمع عمر - رضي الله عنه - ذلك أهلَّ مكبرًا يقول: الله أكبر، الله أكبر، هذا رأيي، هذا رأيي! كنت أحبُّ أنْ أُتابَع عليه صدقت يا ابن أبي طالب، لو خرجت بنفسي لانتقضت عليَّ الأرض من أقطارها، ولو أنَّ العجم نظروا إليَّ عيانًا ما نالوا الفُرصة حتى يقتلوني أو أقتلهم، فأشِرْ عليَّ يا ابن أبي طالب برجلٍ أولِّيه هذا الأمر، فقال: ما لي وما لهم! هم أهل العراق وفَدُوا عليك ورأَوْك ورأَيْتهم وتوسَّمتهم وأنت أعلم بهم.
هذا ما قالَه علي - رضِي الله عنه - لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وما قالَه عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - أمَّا عن صحابة رسول الله- صلى الله عليه وسلم -فقد قال عنهم: لقد رأيت أصحاب محمَّد- صلى الله عليه وسلم -فما أرى اليوم شيئًا يُشبِههم؛ لقد كانوا يصبحون شعثًا صفرًا غبرًا بين أعيُنِهم أمثال ركب المعز، قد باتوا لله سجدًا وقيامًا، يتلون كتاب الله يُراوِحون بين جباههم وأقدامهم، فإذا أصبحوا فذكروا الله مادوا كما يَمِيد الشجر في يوم الرِّيح، وهملت أعينهم حتى تبلَّ ثيابهم.
جاءَه رجلٌ من بني عبس وقال له: تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان، فقال علي - رضِي الله عنه -: "أمنِّي يطلبون دمَ عثمان أوَلستُ منكرًا لقتله، اللهم إنِّي أبرأ إليك من دم عثمان، وقال للعبسي: أخرج، فقال: وأنا آمِن، فقال: وأنت آمِن، فخرج.
قُتِلَ - رضي الله عنه - في سنة ثمانٍ وثلاثين، ذلك أنَّ عبدالرحمن بن ملجم وكان من بَقايا أهل النهروان، وكان يرى رأيهم أبصر امرأة يُقال لها: فطام، من بني الرباب، وكانت من أجمل النساء، وترى رأي الخوارج، قُتِلَ أهلُها يوم النهروان، فعشقها ابن ملجم وولع بها، وسألها أنْ تتزوَّج به، فقالت: لا أتزوَّجك إلا على قتْل عليٍّ وثلاثة آلاف وعبدٍ وقينة، فتزوَّجها على ذلك، فلمَّا بنى بها قالت له: يا هذا، وفيت لك فأوفِ بما شرطت لي وضمنت لي، فخرج لابسًا سلاحَه ومعه سيف قد سمَّه فكمن له بالمسجد بالكوفة، فخرج عليٌّ - رضي الله عنه - إلى صلاة الصبح وهو يقول: الصلاة الصلاة، فاتَّبعه ابن ملجم، فضرَبَه على رأسه فوصلت الضربة إلى أمِّ دِماغه فقال: فزتُ ورب الكعبة لا يفوتنكم الكلب، فشدَّ الناس عليه من كلِّ جانب فأخَذوه، فقال عليٌّ: احبسوه وأحسِنوا طعامه وشرابه، فإنْ متُّ فاقتُلوه ولا تمثلوا به، وإنْ لم أمتْ فالأمر إليَّ في القصاص أو العفو، وذلك ليلة الجمعة لثلاث عشرة، وقيل: لأحدى عشرة بقيتْ، وقيل: خلتْ، من رمضان، وبقي بعد ضربته الجمعة والسبت ومات ليلة الأحد، وقيل: يوم الأحد، وغسَّله ابناه وعبدالله بن جعفر، وكُفِّنَ في ثلاثة أثواب، وصلى عليه الحسن ابنه وكبَّر عليه تسع تكبيرات، وكان آخر كلامه قبل موته: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان له من الأولاد الذُّكور أربعة عشر ولدًا ذكَرًا، ولم يكن النسل إلا لخمسةٍ منهم فقط: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعمر والعباس - رضِي الله عنهم - ومات وله من العمر خمسٌ وستون سنة وقيل: ثلاث وستون، وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر ويومًا.