د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6343
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ظهَر في العقدَيْنِ الأَخيرَيْنِ دعاوَى جديدة ذات أصولٍ قديمة ومُتكرِّرة، تحمل اسم: مشروع أسْلمة وتأصيل العلوم، والتكامُل بين العلوم الشرعيَّة والعلوم الاجتماعيَّة والإنسانيَّة، أو التكامل بين معطيات الوحي والخِبرة البشريَّة، وأُنشِئت لهذا الغرَض جامعاتٌ ومعاهدُ وكليَّات، تُخرِّج أجيالاً تحمِل هذا الفِكر وتُروِّج له.
اتِّجاهات ثلاثة تُؤصِّل المشروع:
وهناك اتِّجاهات ثلاثةٌ داخلَ هذا المشروع، أحسب أنَّها تتَّسِم جميعًا بسِمة الاستِعلاء على الكتاب والسُّنَّة، وما انبثق منهما مِن شريعة وفِقه، يلبس الاتِّجاه الأوَّل ثوبَ الاعتدال، وهو أخطرُها، فيدعو أصحابُه إلى الاستعانةِ بالقواعد الفقهيَّة والمنهجيَّة الأصوليَّة، وتطبيقها في العلوم الاجتماعيَّة، وعرْض نَتائج العلوم الاجتماعيَّة على عُلَماء الدِّين، وإقامة جسْر بينهما، ويغلب على الاتِّجاه الثاني صِفةُ السطحيَّة والوصوليَّة، أمَّا الاتجاه الثالِث فقد تطرَّف إلى الحدِّ الذي دعا فيه إلى نقْدِ التراث، ومراجعة الدِّراسات التي بُنِيت على القرآنِ والسُّنة، وتجديدها، مع استِبعاد مفاهيمِ الحقِّ والباطل، والإيمان والكُفر... إلخ[1].
وأيًّا كانتِ الاتِّجاهات داخلَ هذا المشروع بما فيها الاتِّجاه المعتدل، فإنَّ جميعَها تعتقد أنَّ مستجداتِ العصر قد أحدثَتْ خللاً في الأبنية الاجتماعيَّة، ومشكلاتٍ لم تكن قائمةً في الصدر الأول، ممَّا يستوجب مواجهتَها بالعلوم الاجتماعية العصرية الحديثة، مع مُراعاةِ اتِّساق ما يُؤخَذ منها مع الكتاب والسُّنَّة، فالمسألة إذًا ليستْ مواجهةَ تغيُّرات العصر بحلولٍ مستنبطة من الخطوط العريضة للشريعة، أو إقامة مصالِح الدنيا بالرُّجوع إلى التعاليمِ المتضمَّنة في القواعِد الكليَّة للشريعة، وإنزال الوقائع المتجدِّدة التي تَعرِض للأفراد والجماعات عليها، وفحْص ما يترتَّب عليها مِن المصالِح والمفاسد، وإنَّما الاستعانةُ بنظريَّات وتحليلات العلومِ الاجتماعيَّة، والخبرة البشريَّة التي لا يُبدو لهم أنَّها تَتعارَض مع معطياتِ الوحي في مواجهةِ هذه التغيُّرات، فيُصبح لدَيْنا مصدرانِ للتعامُل مع الحياةِ الإنسانية، هما: العقل والشَّرْع.
وهذا اتِّجاه قديم ترجِع جذورُه في اليهوديَّة عندَ فيلون السكندري، وفي النصرانيَّة عند كليمونتس، وتلميذه أوريجنس، وفي الإسلامِ عندَ أبي يوسف الكندي، وإخوان الصَّفا، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وغيرهم؛ ولأنَّ أكثرَ الناس لا يَجمعون بين معرفةٍ حقيقيَّةٍ بما جاء به الأنبياءُ والرسل، وحقيقة الأفكار التي تَحمِلها هذه الدَّعاوى، سادتِ البلبلةُ والفوضى الفكريَّة، مما أتاح الفرصةَ لانتشار مثل هذا الفِكر[2].
ويُمكِن القول - حسبما نرى - بأنَّ المشروعَ برُمَّته - بما فيه الاتِّجاه المعتدل - يقع في خطأٍ أساس، وهو عدمُ اعتقاد كمالِ الشريعة وتمامها، وعدم كفايتها في مواجهةِ تغيُّرات العصْر، وكأنَّما الله - تعالى الله عمَّا يتصوَّرون - لا يَعلم بأنَّ هذه التغيراتِ ستحدُث، فلم يحسب حسابها، فجاءَ هذا المشروع ليستدركَ ويستكملَ على الله، فسلَب صفاتِ الكمال عن الله - تعالى- وعلوَّه على خلقِه، وكماله وقدرته، وزاد في الدِّين وأفسدَه وخلطه بما لم يأمرِ الله به، ولبس الحقَّ بالباطلِ، وأعطى مشروعيَّةً لهذا الباطل، ولا يخرُج هذا المشروع برُمَّته عن كونِه هوًى متَّبَعًا، وتبدُّعًا وتنطُّعًا، وخروجًا على الصراط المستقيم بنصِّ مصطلحاتِ العلماء لا مصطلحاتنا؛ وذلك لأنَّ الطرائقَ في الدين تنقسِم إلى ما له أصلٌ في الشريعة، وما ليس له أصلٌ فيها، والأخير هو القسم المخترع، أي: إنه طريقة ابتدعت على غير مثال تقدمها في الشرع، ومن خواصِّ البدعة أنها خارجة عمَّا رسَمه الشارع، ومن ثم يدخل هذا المشروع تحت هذا المسمى، فالشريعة جاءت كاملةً لا تحتمل الزيادة والنقصان، كما أنَّ الله - تعالى - قد أكملَ للرسولِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولأمَّته دِينَهم، وأتمَّ عليهم نِعمته، ولم يحوجْه - لا هو ولا أمَّته - إلى عقلِ أو نقلِ سواه، وأنْكر الله - تعالى - على مَن لم يكتفِ بالوحي فقال: ﴿ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ [العنكبوت: 51]، وقال - تعالى -: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ [النحل: 89]، وقد تُوفِّي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وما من طائرٍ يُقلِّب جناحيه في السماء إلاَّ ذَكَر منه لأمَّته عِلمًا.
هدف المشروع:
حدَّد دُعاةُ المشروع أهدافَه في إعادة صِياغة العلومِ في ضوْء الإسلام؛ ممَّا يؤدِّي إلى أسلمةِ العلوم بثلاث طُرق بريئة المظهَر، وأحسبها فاسدةَ المَخْبَر، وهي:
1- فَهْم العلوم الحديثة واستِيعابها في أرْقى حالات تطوُّرها والتمكُّن منها، وتحليل واقعِها بطريقة نقديَّة لتقدير جوانبِ القوة والضَّعْف فيها مِن وجهة نظَر الإسلام.
2- فَهْم واستِيعاب إسهاماتِ التراث المنطلِق من فَهْم المسلمين للكتاب والسُّنَّة، في مختلف العصور، وتقدير جوانبِ الضعْف والقوَّة في ذلك التراث في ضوءِ حاجة المسلمين في الوقتِ الحاضر، وفي ضوء ما كشَفتْ عنه المعارفُ الحديثة.
3- القيام بتلك القَفْزَة الابتكاريَّة الرائدة اللازمة لإيجادِ تركيبة تجمَع بين معطياتِ التراث الإسلامي وبيْن نتائج العلومِ العصريَّة؛ ممَّا يساعد في تحقيقِ غايات الإسلام العُليا[3].
أمَّا الأهداف الحقيقيَّة لهذا المشروع، فتتلخَّص في الآتي:
1- إضفاء الشرعيَّة على علومٍ أوروبية الصُّنع، ليستْ حِيادية كالعلوم الطبيعيَّة، وإنَّما ذات موقفٍ خاص من الدِّين؛ فهي قد نشَأت أصلاً لتُزيح الدِّين، وتحل محلَّه، وتجعل الإنسانَ محورَ الكون بدلاً مِن الله، وترى أنَّ الدين من صنع الإنسان، وأنَّ التجرِبة الدِّينيَّة الآن مواجهةٌ مع الله وتحدٍّ له، ومِن ثَمَّ فهي فاسدةُ الأصل، وفساد الأصل لا بدَّ أن يمتدَّ إلى كلِّ فروعه.
2- إفساد المقصِد مِن الشريعة وضَرْب الفقه الأوَّل، وذلك بتلقيحِ الشريعة بمعطيات هذه العلومِ، مع تحميلِ هذا الفِقه أوزارَ تخلُّفِ المسلمين، وما يُسمُّونه بتشويه شخصياتهم، ومِن ثَمَّ إزالة هيمنتِهما على العقل المسلِم.
3- استبعاد مفاهيمِ الحقِّ والباطل، والإيمان والكُفْر، والفِرقة الناجية الفرق الهالكة، وغير ذلك مِنَ المفاهيم المحوريَّة في الإسلام، بحيث تكون آخِرَ ما يُرجَع إليه.
4- تحويل المقولة القديمة لزكي مبارك إلى واقعٍ ملموس، وهي التي يقول فيها: "قدْ نزعْنا راية الإسلام مِن أيدي الجهلة - ويقصد بهم علماءَ الدين - وصار إلى أقلامِنا المرجعُ الأوَّل في شرْح أصولِ الدِّين".
وقد وصَف الشيخ مصطفى صبْري هذه الأقلامَ بأنَّها أقلامٌ تنتقص خَزائن الإسلام الفِقهيَّة، التي ورثْناها من السَّلَفِ بأصولها وفروعها، وتفتح حصونَ العلوم بأسلحة مطليَّة بالذهبِ بدلَ الفولاذ المحض[4].
مكمن الخطورة في المشروع:
وتكمن خُطورة هذه الدَّعاوى في الآتي: أولاً: الإيحاء بأنَّ الشريعة لم تتم:
تُعطي هذه الدعاوى الإيحاءَ بأنَّ الشريعة لم تتمَّ، وأنَّه بقي منها أشياءُ يجب أو يُستحب استدراكُها، ولو كان أصحاب هذه الدَّعاوى معتقدين كمالَها وتمامَها من كلِّ وجه لمَا فكَّروا في الاستدراكِ عليها، قال مالك في هذا: "مَنِ ابتدعَ في الإسلام بدعة يَراها حسنةً، فقد زَعَم أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - خان الرِّسالة؛ لأنَّ الله - تعالى- يقول: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، فما لم يكن يومئذ دِينًا، فلا يكون اليوم دينًا.
ثانيًا: مُعاندة الشَّرع ومُضاهاة الشارع:
عيَّن الشارع لمطالِب الناس طُرقًا خاصَّة على وجهٍ خاص، وقصرَهم عليها بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، وأخْبَر أنَّ الخيرَ فيها والشرَّ في تعدِّيها؛ لأنَّ الله - تعالى - يعلم ونحن لا نَعْلم، ولهذا فإنَّ مَن زعم بأنَّ هناك طُرقًا أخرى غير التي حصَرَها الشارعُ وعيَّنها، يعني أنَّ الشارع يعلم وهو يعلم أيضًا، بل يَفْهم أنَّه استدرك الطرق الجديدةَ على الشارع؛ أي: عَلِم ما لم يعلمْه الشارع.
يُضاف إلى هذا أنه أنْزَل نفسَه منزلةَ المضاهي للشارع؛ لأنَّ الشارع وضَع الشرائع وألْزم الخلْق بها وتفرَّد بذلك، فهو الذي حَكَم بين الخلْق، فيما كانوا فيه يختلِفون ودَعواه هذه تعني أنَّه صيَّر نفسَه بمنزلة النظيرِ والمضاهي الذي يَشْرَع مع الشارع، فيكون بذلك قد ردَّ قصْدَ الشارع في الانفِراد بالتشريع، وفتَح للاختلافِ بابًا.
ثالثًا: تلبيس الحق بالباطل:
لو كانتِ العلوم الإنسانية أو الخِبرة البشريَّة باطلاً محضًا لمَا قُبِلت، ولبادَر كلُّ أحد إلى ردِّها وإنكارها، ولو كانتْ حقًّا محضًا لكانتْ موافقةً للشريعة، لكنَّها تشتمل على الحقِّ والباطل، ويلتبس فيها الحقُّ والباطل.
وقد قال - تعالى -: ﴿ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 71]، فنهَى الله بذلك عن تلبيسِ الحقِّ بالباطل، ولبْسُه هو خلطُه حتى يلتَبِس أحدهما بالآخَر، والشريعة حقٌّ محضٌ، والعلوم الإنسانيَّة والخِبْرة البشريَّة فيها الحق والباطل، والجمْع بيْن ما هو حقٌّ محض، وما هو حقٌّ وباطِل، تلبيس أحدهما بالآخَر، والتلبيس هو التدليسُ والغِش الذي باطنُه خِلافُ ظاهره، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل يكون قدْ أظْهر الباطل في صورةِ الحقِّ، وتَكلَّم بمقولة لها معنيان: معنًى صحيح، ومعنًى باطل، فيتوهَّم السامع أنَّه أراد المعنى الصحيح، ومُراد المتكلِّم هو الباطل.
رابعًا: اجتهادٌ في غير موضعه ومن غير أهله:
يَضَع أصحابُ هذه الدَّعاوى أنفسَهم موضعَ المجتهدين في الدِّين، والاجتهاد ضربان: أحدهما: الاجتهاد المعتبَر شرعًا، وهو الصادر من أهلِه الذين اضطلعوا بما يَفتقِر إليه الاجتهاد، والثاني: هو غيرُ المعتبَر، وهو الصادر عمَّن ليس بعارفٍ بما يَفتقِر الاجتهاد إليه، وحقيقتُه كما يرى العُلَماء: "أنه رأيٌ بمجرَّد التشهِّي والأغراض، وخبط في عماية، واتِّباع للهوى"، فكلُّ رأي صدَر على هذا الوجهِ لا شكَّ في عدمِ اعتباره؛ لأنَّه ضد الحقِّ الذي أنزله الله - تعالى - يقول - تعالى -: ﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ﴾ [المائدة: 49].
إنَّ أصحابَ هذه الدَّعاوى ليسوا مِن أهل الاجتهاد، ولكنَّهم أدخَلوا أنفسَهم فيه خطأً ومغالطة، فالشروط الشرعيَّة المتطلِبة في المجتهد لا تتوفَّر فيهم، كما لم تتوفَّرْ فيهم كذلك شروطُ العالِم بالعلم الشرعي، التي منها: أن يكونَ عارفًا بأصولِه، وما يَنبني عليه، قادِرًا على التعبيرِ عن مقصودِه فيه، عارفًا بما يلزم عنه، قائمًا على دَفْع الشُّبَه الواردة عنه.
خامسًا: قياس للدِّين بالرأي:
خصَّ الله - تعالى - بالهِداية مَن علم فيه القَبول والإنصاف والأهليَّة؛ كما قال في إبراهيم - عليه السلام -: ﴿ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴾ [الأنبياء: 51].
وقال معاذ: العِلم والإيمان مكانهما، مَن طلبَهما وجدَهما، فاطلبوا العِلمَ مِن حيثُ طلبُه إبراهيم؛ حيث قال: ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴾ [الصافات: 99]، فأصحاب هذه الدَّعاوى طلَبوا الدِّين من غيرِ طريق الأنبياء، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ستفترق أمَّتي على ثلاثٍ وسبعين فِرْقة، أشدُّهم فِتنةً الذين يَقيسون الأمورَ بآرائهم))[5].
وسمَّاهم ابنُ المبارك بالأصاغِر؛ أي: الذين يَقيسون الدِّين بآرائهم وعلى غيرِ أصل، فيتكلَّمون فيه بالتخرُّصِ والظن، إنَّ عملَهم لا دليلَ عليه في الشَّرْع، وقد يدفعهم اجتهادُهم المزعوم إلى القوْل في القرآن برأيهم؛ في حين أنَّه لا بُدَّ عندَ القوْل بالقرآن من بيانِ معنًى، واستنباط حُكم، وتفسير لفظ، وفَهْم مراد، وهذا ما لم يتوفَّرْ فيهم، وقد نُقِل عن الصِّدِّيق - رضي الله عنه - أنَّه قال: "أيُّ سماء تُظلُّني، وأي أرضٍ تُقلُّني إنْ قلتُ في كتاب الله ما لا أعْلم، أو قلت في كِتاب الله بِرأيي"[6]، وهذا هو ثاني اثنين إذْ هُما في الغار.
سادسًا: اتباع الهوى:
إذا لم يكن العقلُ مُتَّبِعًا للشرع لم يبقَ إلا الهوى والشَّهْوة، وقد أوْضَح العلماءُ أنَّه لو كانتِ الأهواء واحدًا لقالَ قائل: لعلَّ الحقَّ فيه، فلمَّا تشعَّبت وتفرَّقت عَرَف كلُّ ذي عقل أنَّ الحقَّ واحدٌ لا يتفرَّق.
الأمر إذًا محصورٌ بين الوحي وهو الشَّريعة، وبيْن الهوى ولا ثالثَ لهما، وهما متضادَّان؛ وحيث تعيَّن الحقُّ في الوحي توجَّه الهوى ضدَّه، واتِّباع الهوى مُضادٌّ للحق، وفي كلِّ موضع ذَكَر الله - تعالى - فيه الهوى جاء في معرِض الذمِّ له ولمتبعيه، ومعنى ذلك أنَّ الشريعةَ هي الوحي وهي الحق؛ وأنَّ العلوم الإنسانيَّة والخِبْرة البشريَّة (بحقها وباطلها) هي الهوى؛ لأنَّ الحقَّ واحدٌ لا يتفرق - كما ذكرنا.
سابعًا: الزيادة في الدين:
يقول العلماء: "إنَّ رفع المظنون في العقليات إلى مرتبةِ المعلوم زيادةٌ في الدِّين"؛ لأنَّ فيه تجويزَ خلوِّ كتاب الله - تعالى - وسُنة نبيِّه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - من بَيان بعضِ مهمَّات الدِّين، وقد جاء الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالدِّين القَيِّم تامًّا كاملاً، ليس لأحدٍ أنْ يستدركَ عليه، وقد أكملَ الله له الدِّين ولأمَّته مْن بعده.
ويُعرَف العِلم الحق بأنَّه صِفةٌ تُوجِب تمييزًا لا يحتمل النقيض، وهو الذي يجمع ما بين الجَزْم والمطابَقة والتثبُّت عندَ التشكيك؛ ولهذا نقول: إنَّه لولا الفرقُ بين العلوم الشرعيَّة والعلوم الظنية، لمَا تميَّز إسلامٌ من كفر، ولا شركٌ من توحيد، ولا صحيحٌ من خاطئ، هذا الفرْق هو الذي يُسمِّيه أصحاب هذه الدعاوى بالفصْل التعسُّفي، ويَسْعَوْن إلى القضاء عليه، فإذا تَمَّ لهم ذلك التبسَتِ الظنون بالعلوم الشرعيَّة، ودخل فيها ما ليس منها.
ثامنًا: طلب للشريعة بما هو غير أداة لها:
إنَّ هذه العلومَ التي يَسْعَون إلى تأصيلها إسلاميًّا وجمْعها مع الشريعة علومٌ أوروبية الصُّنْع - كما ذكرْنا - صدَرَتْ بلسان عربي مُبين، والشريعة نزلَتْ بلُغة العرب لا دخْلَ فيها للألسن الأعجمية، والله - تعالى - يقول: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ [يوسف: 2]، ويقول أيضًا: ﴿ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ﴾ [الشعراء: 195]؛ ولذا يلزم عندَ فَهْم الشريعة الاقتصارُ على كلِّ ما يُضاف عِلْمُه إلى العرَب خاصَّة، وليس إلى غيرهم، كما لا يستقيم للمتكلِّم في كتاب الله وسُنَّة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يتكلَّم فوقَ ما يَسعُه لسانُ العرَب.
ويَنطلق أصحابُ هذه الدعاوى في سعيِهم إلى أسلمةِ العلوم من المفاهيم والمصطلحات الغربية، بالبحث عن أصولٍ لها في القرآن والسُّنة ولو تعسُّفًا، وقد حسَم العلماءُ هذه المسألةَ بقولهم: "إنَّ كلَّ معنًى مستنبطٍ من القرآن غيرِ جارٍ على اللِّسان العربي - فليس من علومِ القرآن في شيء، ولا ممَّا يُستفاد به، ومَن ادَّعى فيه ذلك فهو في دعواه مُبطِل".
تاسعًا: الخروج على مقتضى وضْع الشريعة التي جاءت للعموم:
تَتضمَّن العلومُ الإنسانية - التي يَسْعَى أصحابُ هذه الدعاوى إلى تأصيلها إسلاميًّا وجمْعها مع الشريعة - تَرْسانةً ضخمة من المصطلحات الغامِضة، والنظريَّات المتعدِّدة، التي تحتوي على تناقضاتٍ فِكرية، وتصوُّرات متباينة، ومع ذلك فإنَّ عالِم الاقتصاد الأمريكي (فرتز ماشلوب) يقول: "إنَّ معنى العِلم أمرٌ لا يستطيع رجلُ الشارع أن يفهمَه، والمعرفة لا تدنو منها إلا العقولُ العالية فقط"، وذلك في معرِض محاولته إضفاءَ الصِّبغة العِلميَّة على العلوم الإنسانيَّة.
والأمر نقيضُ ذلك في الشريعة، فقد خرَّج الترمذي وصحَّحه عن أُبيِّ بن كعْب قال: "لقِي رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - جبريل، فقال: ((يا جبريلُ، إني بُعثتُ إلى أمَّة أُميَّة، فيهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية، والرجل الذي لم يقرأْ كتابًا قطُّ، فقال: يا محمَّد، إنَّ القرآن أُنْزِل على سبعةِ أحرُف)) [7].
ولهذا يقول العلماء: إنَّ طلب ما لا يشترك عامَّةُ الناس فيه مِنَ الشريعة خروجٌ على مقتضى الشريعة الأميَّة[8] التي تسَع تكاليفُها الاعتقاديَّة والعمليَّة الأميَّ، فيتعقَّلها ويدخُل في حُكمها، كما أنَّها قريبةُ الفَهْم، سهلةٌٌ على العقل، بحيث يَفهمها مَن كان ثاقبَ الفَهْم، أو بليدًا، فلو كانتِ الشريعة ممَّا لا يُدركها إلا الخواصُّ والمثقَّفون لم تكن شريعةً عامَّة ولا أُمية.
عاشرًا: مُحدَثات ومُخالفات لم تكن على عهد الأولين:
إنَّ خيرَ القرون هو قرنُ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وصحابته، ثم الذي يَليه، ولا يأتي آخِرُ هذه الأمَّة بأهْدى ممَّا كان عليه أولها، ولا هُم أعرف بالشريعة منهم، وأصحاب هذه الدعاوى في قرْنِنا هذا إمَّا أنهم أدرَكوا مِن فَهْم الشريعة ما لم يفهمْه الأوَّلون، أو أنهم حادوا عن فَهْمها، وهذا الأخيرُ هو الصواب، وقرن رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والذي يليه من السَّلَف الصالِح كانوا على الصِّراط المستقيم، ولم يَفهموا من الشريعة إلا ما كانوا عليه، ولم تكن هذه المُحْدَثات فيهم ولا عَمِلوا بها، بالرغمِ مِن أنهم عاصروا أكبرَ حضارتين وقتَها، وظلَّتِ الشريعة على نقائها وصفائها فيهم.
وصحيح أنَّ هناك من العلماء مَن تجاوز الحدَّ في الدعوَى على القرآن؛ فأضاف إليه كلَّ عِلم يُذكَر للمتقدِّمين في علوم الطبيعة والمنطق وغيرهما، لكن هذا لم يَحدُث من السَّلَف الصالح الذين كانوا أعرفَ بالقرآن، ويعلمون ما أودعَ فيه، ولم يبلغْنا أنَّ أحدًا منهم تَكلَّم في شيءٍ من ذلك؛ ممَّا يدلُّ على أنه لا يجوز أن يُضافَ إلى الشريعة ما لا تقتضيه، أو أن ينكر منها ما تقتضيه.
وأخيرًا: فإنَّ العلمَ وسيلةٌ من الوسائل، وليس مقصودًا بذاته، وذلك حسبَ نظر الشَّرْع، وكل عِلم لا يُفيد عملاً ولا يترتَّب عليه ثمرةٌ تكليفيَّة ليس في الشَّرْع ما يدلُّ على استحسانِه، ولو كان له غايةٌ شرعيَّة، لكان مستحسنًا شرْعًا، ولهذا فإنَّ هذا المشروعَ لا يُفيد علمًا ولا عملاً، ولا يترتَّب عليه ثمرةٌ تكليفيَّة، وليستْ له غاية شرعيَّة، ومِن ثَمَّ فهو ليس بمستحسنٍ شرعًا.
إنَّ هذا المشروعَ يدخُل تحتَ مقولة البطريرك التي نصَح بها مَلِك الروم حينما عرَض عليه أمرَ طلبِ خليفة المسلمين بترجمةِ كتب الفلسفة وغيرها إلى العربية: "أيُّها الملِك، أرسلها إليهم، واللهِ ما دخلَتْ هذه الكتبُ على قوم عندَهم شريعةٌ سماوية إلا أفسدتْ شريعتَهم، وأوقعتِ الخصومةَ بَيْنهم"[9].
________________________________________
[1] عشوى، مصطفى، نحو تكامل العلوم الاجتماعية والشرعية، التجديد، الجامعة الإسلامية، ماليزيا، العدد الثاني، يوليو 1997م، (ص: 55 - 81).
[2] ابن تيمية، شيخ الإسلام، بُغية المرتاد في الردِّ على المتفلسفة والقرامطة؛ تحقيق ودراسة: موسى الدويس، مكتبة العلوم والحِكم، (ص: 62 - 67).
[3] رجب، إبراهيم، المنهج الإسلامي وعلاج المشكلات الاجتماعية والنفسية، مجلة العلوم الاجتماعية، جامعة الكويت، مجلد 26، عدد4، (ص: 66).
[4] صبري، مصطفى، موقف العقل والعلم والعالَم مِن ربِّ العالمين وعباده المرسلين، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، (2/152).
[5] أخرجَه ابنُ عبدالبر في جامع بيان العم وفضله (1673)، وقال المحقِّق: لا يصح.
[6] كَنْز العُمَّال لعلاء الدين هندي، (2/327) رقم (4149).
[7] رواه االبخاري، ح (2241).
[8] الأميَّة: أي العامَّة التي هي لكافَّة الأمَّة.
[9] استنبطنا الرُّدودَ على أصحاب هذه الدعاوى من المصادر الآتية: الموافقات في أصول الأحكام، والاعتصام؛ للإمام الشاطبي، مختصر الصواعق المرسَلة؛ للإمام ابن القيم، شرْح وتعليق رضوان جامع رضوان، والفوائد؛ لابن القيم.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: