(119) اعترافات علماء الاجتماع فى العالم العربى
الحلقة الثانية
د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9159
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
المصدر: حلقات من كتاب (اعترافات علماء الاجتماع، عقم النظرية وقصور المنهج في علم الاجتماع)
هذه اعتِرافاتٌ لرجال الاجتماع عن حَقِيقة وأَوْضاع علم الاجتماع في بلادنا، كتَبُوها بأقلامِهم، وننقلها عنهم دُونَ إضافةٍ أو نقصٍ.
يقولُ محمد عزت حجازي - الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعيَّة والجنائيَّة بالقاهرة -:
1- "إنَّنا لا نُنتِج علمًا حقيقيًّا؛ وإنما نستَورِد ونستَهلِك دون تبصُّر، ونخلط في ذلك بين ما يُمكِن أنْ يفيد وما لا غناء فيه"، صـ15.
2- "يجبُ أنْ نُسلِّم بحقيقةٍ بسيطةٍ ومهمَّة، وهي: أنَّه لا يوجد شيءٌ اسمُه "علمٌ مُحايِد"، وإذا كان هذا يَصدُق على العلم بعامَّة، فإنَّه يَصدُق على علم الاجتماع بدرجةٍ أكبر"، صـ17.
3- "تحوَّلَ مُعظَمُ المشتَغِلين بعلم الاجتماع إلى مفكِّرين بأجرٍ، يبحَثُون ويدرُسون ويكتُبون في حُدود ما يُطلَب منهم، ويُؤجَرون عليه، وتردَّى بعضٌ منهم في الغَفلة دون قَصدٍ، وتَمادَى آخَرُون في السَّير في طريق الانتهازيَّة والوصوليَّة"، صـ18.
4- عن كتابات أصحاب ما يُسمَّى بعلم الاجتماع الإسلامي يقول عزت حجازي:
"ولكن مُعظَم ما يُكتَب في هذا الاتِّجاه تَغلُب عليه الضَّحالة، ويَكشِف عن شيءٍ غير قليلٍ من السَّطحيَّة والغَفلة، ولا يخلو الأمرُ في بعض الأحيان من الانتهازيَّة وتملُّق مشاعر الجماهير، بل المشاركة الواعية في تزييف الوعي".
5- مُعظَمُ ما عرَض له المشتَغِلون بالعِلم والدِّراسة والبحث موضوعاتٌ أو مشكلاتٌ يفتَقِر الكثيرُ منها إلى عُنصر المُعاصَرة؛ أي: إنَّه تقليديٌّ تجاوزَتْه حركة البحث والتفكير، هذا من ناحيةٍ، وهو من ناحيةٍ أخرى بعيدٌ عمَّا هو محوريٌّ في النظام الاجتماعي وحيويٌّ لحياة البشر"، صـ23.
6- بالنسبة لإشكاليَّة المنهج في علم الاجتماع في الوطن العربي، تَكمُن الأزمة في تصوُّرنا لا في نقص علميَّة العلم، وإنما في اختِيار مَداخل منهجيَّة قاصرة، واستعمال أساليب بحثٍ وأدوات جمْع معلومات مَعِيبة بطريقةٍ غير سليمة، وارتكاب أخْطاء كثيرة في مُمارَسة البحث، والتفريط في الوظيفة التنظيريَّة للعلم، هذا فضلاً عن شيءٍ غير قليلٍ ولا هيِّن من سُوء الفَهْمِ والخلط"، صـ25.
7- عن أدوات البحث الاجتماعي المستخدَمة في بلادنا يقول عزت حجازي:
"ومعروفٌ أنَّ تلك الأدوات تخضَعُ للنسبيَّة الحضاريَّة؛ أي: ترتبط قيمتها وجَدواها بالسِّياق الحضاري الذي تُعَدُّ وتُستَعمَل فيه أصلاً، ومن هنا يكونُ استِيرادُها من سِياقٍ حَضاري إلى آخَر، واستعمالُها بدون تعديلات جوهريَّة - أمرًا غير مقبول.
والقول الذي يتردَّد كثيرًا عن (تطويع) أدوات جمْع البيانات وتقنينها ليتوافَرَ فيها الصدق والثَّبات المطلوبُ توافُرُهما في أيَّة أداة مقبولة علميًّا - لا يَتجاوَز حُدودَ الكَلام والنِّيات إلا في حالاتٍ نادرةٍ، ويقتَصِر في الأغلب على بعْض الإجراءات الشكليَّة التي لا تُحقِّق شيئًا مهمًّا، ولا يَفطِن غير القليلين منَّا إلى أنَّ أدوات جمْع المعلومات ليست محايدةً على الإطلاق، وإنما ينطَوِي إعدادها واستِعمالها على أبْعادٍ أيديولوجية مهمَّة ومؤثِّرة، والخطير في الأمْر هو أنَّ مُعظَم عمليَّات البحث والكتابة في علم الاجتماع عندنا تقومُ على أساس تسليم غير صريح بأنَّ كُلاًّ من أطراف عمليَّة جمْع المعلومات (إنسان مجرد) بدون وعي ولا رَغبات، ولا إحباطات ولا تحيُّزات، وما إليها، ممَّا يُؤثِّر في عائد البحث"، صـ27.
8- عن ناتج الجهد في البحوث الاجتماعيَّة يقول عزت حجازي:
"... ولهذا تنتَهِي مُعظَم الدراسات والبحوث الاجتماعيَّة بعددٍ يكونُ هائلاً في بعض الحالات من الجداول، تتوزَّع فيها المعلومات أو المادة الميدانيَّة، ويُعلق عليها بوصفٍ مُوجَز يُلخص ما يتضمَّنه كلُّ جدول، وقد تُضاف فقراتٌ تُشِير إلى الاتِّجاهات العامَّة التي تنطَوِي عليها المادَّة الميدانيَّة، ويأتي ناتج الجُهد هَزِيلاً لا يُضِيف كثيرًا، وقد لا يُضِيف شيئًا إلى ما يَعرِفه الإنسان المثقَّف - بل العادي - عن موضوع البحث"، صـ28.
9- يردُّ عزت حجازي على الادِّعاء بأنَّ مشكلة علم الاجتماع في بلادنا تَرجِع إلى حَداثته، فيقول:
"... ففي رأي مَن يذهَبُون هذا المذهب أنَّه لَمَّا كان علم الاجتماع حديثَ النَّشأة في بلادنا؛ فإنَّه لا يستَطِيع أنْ يُؤدِّي دورًا مهمًّا، وتترتَّب على هذا نتيجةٌ، هي: أنَّ العلم سوف يستَطِيع بمرور الوقت أنْ يتغلَّب على المشكلات التي تعتَرِض مَسِيرته، ويكونُ أكثر كَفاءةً وفاعليَّة، ولكن تطوُّر عِلم الاجتماع في الوطَن العربي على مَدَى أكثر من نِصف قرن، وشواهد أخرى، لا يوحي بأنَّ الوقت هو سرُّ الأزمة"، صـ32.
10- عن رجال الاجتماع في بلادنا يقول عزت حجازي:
الكثيرون منهم يوجدون هنا - في بلادِهم - بأجسامهم، بينما يعيشون هناك - في الخارج - بأفكارهم وفهمهم وتطلُّعاتهم ونظرتهم إلى الحياة وغير ذلك، ولقد بلَغ اعتِماد بعض المشتَغِلين بعِلم الاجتماع في الوطن العربي على علم الاجتماع الأوربي الغربي المثالي - والأمريكي بخاصة - سواء في مرحلة إعدادهم الأكاديمي، أو في مرحلة ممارستهم لنشاطهم في التدريس والبحث والكتابة - حدَّ التوحُّد معه، لا عن تقديرٍٍ موضوعي لقِيمته وإفادةٍ واعية منه؛ وإنما عن شُعورٍ بالنقص حياله"، صـ35.
هذه هي أهمُّ اعتِرافات عزت حجازي عن أوضاع علم الاجتماع ورجاله في بلادنا، وعن البُحوث الاجتماعيَّة فيها، أمَّا عن حقيقة اتِّجاه عزت حجازي، فهو ماركسي التفكير، علماني النَّزعة، يرى أنَّ (العلمانية) هي أيُّ قيمةٍ يجبُ استِيعابها من تراث الحضارة الأوروبيَّة، مُعادٍ للدِّين، يَرفُض أيَّ هجومٍ على النظريَّات الغربيَّة التي يرى أنها قدَّمت أعمق التحليلات عن تخلُّف الوطَن العربي وتبعيَّته، ويرى أيضًا أنَّ مُعظَم النظريَّات الغربيَّة تَحوِي تجارِب ودُروسًا بالغة الثَّراء والفائدة، وأنَّ تراث أوروبا الغربيَّة لا يحقُّ أنْ يكون ملكًا للأوروبيين وحدَهم، وأنَّ العموميَّات التي تجمَعُ بين المجتمعات البشريَّة تسمَحُ لنا باستِخدام مَقُولات وأفكار وأدوات الغرب، (ص38، 41).
لم يقرَّ (حجازي) بأنَّ النظريَّات الغربيَّة التي قدَّمت في نظره أعمقَ التحليلات عن تخلُّف الوطن العربي - لم تُصمَّم في الأصل لتحليل المجتمع العربي ودِراسته بقدْر ما كانت قد وُضِعتْ لتفسير جُمود المجتمع العربي والمجتمعات الشرقيَّة عُمومًا، مُقابِل ديناميَّة المجتمع الغربي وفاعليَّته.
نظَر الغربيُّون إلى مظاهر حَضارتنا على أنها بَقايا أو فَضلات باقية من الماضي، وخاصَّة (القبيلة والدِّين)، ورغم هذا، فإنَّ "حجازي" قد استَلهَم مفاهيم وادِّعاءات هذه النظريَّات وقَبِلَها، رغم قُصورها وأخطائها، (خلدون النقيب صـ220، 221).
أمَّا عن الاتِّجاه الماركسي لعزت حجازي، فيتجلَّى بوضوحٍ في قوله:
"ومطلوبٌ منَّا ثانيًا أنْ نختار مُنطَلقًا أيديولوجيًّا قادرًا على أنْ يُساعِدنا في أداء عملنا بكَفاءة، وفي تصوُّرنا أنَّ الاتِّجاه الصراعي والمادي التاريخي بعامَّة يُلائِمنا أكثر من غيره، لا في صُوَرِه الكلاسيكيَّة، وإنما في صِيَغٍ أو تركيباتٍ جديدة كفُؤة"، صـ42.
ثانيًا: علي الكنز أستاذ علم الاجتماع بجامعة الجزائر:
1- عن تبعيَّة علم الاجتماع في بلادنا لعلم الاجتماع الغربي والماركسي، وعن ترديد النظريَّات الصادرة من الخارج في جامعاتنا بشكلٍ آلي، يقول الكنز:
"إذا أردنا تَقويمَ المُمارَسات السوسيولوجية الحاليَّة في بلادنا، أمكننا وصفها بتبعيَّتها الأساسيَّة للسوسيولوجيا الغربيَّة، يمكن أنْ نؤكِّد هذه الحقيقة دون خوفٍ، وقد انسَحَب هذا الحُكم علينا سابقًا، تأخُذ هذه التبعيَّة أشكالَ التَّكرار والتقليد، سواء أكان هذا التقليد واعيًا أم غير واعٍ؛ ممَّا يُؤدِّي إلى انعِكاس، أو بالأحرى انحِراف قَضايا وإشكاليَّات العالم الغربي داخل البِنَى الثقافيَّة والاجتماعيَّة لعالَمنا... وفيما يتبدَّى تأثير النظريَّات الإنكلوساكسونيَّة في المشرق، نُلاحِظ أنَّ السوسيولوجيا الفرنسيَّة هي التي تُسَيطِر على المغرب، علمًا بأنَّ التقارُب الجغرافي والثقافي للمغرب مع العالم الغربي يُسَهِّلُ له إقامةَ علاقات مباشرة وعميقة مع النظريَّات التي تَتطوَّر هناك وتزدَهِر، ومن ثَمَّ في القاهرة، كما في الرباط، كما في الجزائر وتونس، نظريَّات دخيلة من إنتاجٍ غربي، وغير مُعدَّة لتُلائِم البيئة الاجتماعيَّة المحليَّة، وهكذا نرى نظريات الوظائفيَّة والبنيويَّة ومختلف الماركسيَّات الصادرة عن باريس وموسكو وفرانكفورت، والمنحى الثقافي وعلم الاجتماع البيولوجي وغيرها أيضًا من التيَّارات الفكريَّة التي ظهَرتْ على الأرض الأوربيَّة انطِلاقًا من إشكاليَّات لها خُصوصيَّتها، نرى هذه النظريَّات قد نُقِلت كما هي إلى الجامعات العربيَّة لتردد فيها بشكلٍ آلي، فيبدو كما لو أنَّ الممارسات السوسيولوجية في بلادنا قد اقتَصَر دورُها على أنْ تكون محطَّات وساطة للنظريَّات الغربيَّة؛ أي: أنْ تقوم بالدور السلبي الذي يعودُ للمقلِّد - كما هو حال الأطفال مع الكبار - هذا هو الدور الذي تُقلِّده بلادنا في مَجالات أخرى كمَجالات نقْل التكنولوجيا مثلاً"، صـ100.
2- يعتَرِف الكنز بأنَّ النظريات الغربية لم تعطنا الأدوات اللازمة لمعالجة قَضايا واقِعنا، وبأنَّ البُحوث الاجتماعيَّة في بلادنا عقيمةٌ يُعاد تركيبُها في إشكاليَّات مُصطَنعة لا تُلائِم الواقع، فيقول:
"ويُواجِه عُلَماء الاجتماع في بلادنا المسائل الصَّعبة ذاتها التي يُواجِهها الصناعيُّون في مجالهم، التي تتعلَّق بالتنظيم الاجتماعي للمصنع المستورد، كما تتعلَّق بتأمين صِيانة الآلات، التي يَنشَأ منها حالةٌ من التبعيَّة للمُختصِّين الأجانب، لقد جعلَتْنا إيجابيَّتنا تجاه النظريَّات السوسيولوجية الغربيَّة نُتقِن التعليمَ في هذا المجال، إلاَّ أنها لم تُعطِنا الأدوات اللازمة لِمُعالَجة قَضايا واقعنا الذي يختَلِف في تكوينه، ويزيد تعقيدًا على واقع المجتمعات الغربيَّة؛ لذا تَبقَى الأبحاث المحليَّة - باستِثناء بعضها القليل - عقيمةً؛ إذ تُؤدِّي في أحسن الأحوال إلى تجميع طائفةٍ من المعلومات التجريبيَّة يُعادُ تركيبُها في إشكاليَّات مُصطَنعة لا تُلائِم الواقع، لقد بَرهَنت التجرِبة أنَّه من الصَّعب استِعمال أدوات تحليل مُستَوردة من حَضارةٍ أخرى في بحوثٍ محليَّة"، صـ100.
3- عن عدم ملاءمة النظريَّات الغربيَّة لبيئتنا، وعن خطَأ رِجال الاجتماع في بِلادنا في نقلها إلينا دون النظَر إلى خصوصيَّة هذه النظريَّات، يقول الكنز:
"وبالفعل فإنَّ علاقتنا بالنظريَّات الغربيَّة، كأيَّة علاقة وضعيَّة براجماتيَّة (ذرائعيَّة) لا يمكن أنْ تُؤدِّي إلى النتائج التي توصَّلت إليها النظريَّات الغربيَّة، وهي نتائجُ غيرُ ملائمةٍ لبيئتنا، كونها جُرِّدت من إطارها الاجتماعي والتاريخي وانفَصلت عن مسار تكوينها المعرفي... فكلُّ النظريَّات الغربيَّة قد نتجَتْ عن علاقتها بالعاملَيْن التاليَيْن: خصوصيَّة مجتمعاتها وقضاياها الاجتماعية والتاريخية من ناحية، والحقل المعرفي الذي نَمَتْ بداخله وطوَّرت قَضاياها النظريَّة المحدَّدة.
يكمن خطأ علماء الاجتماع العرب - في نظَرنا - في اعتِقادهم أنَّه من الممكن استيراد نظريَّات الغرب بغَضِّ النظَر عن ارتباطها بهذين العاملين، خطَأٌ فادح يمكن اعتباره (الْتباسًا تاريخيًّا حقيقيًّا) صـ 100-101.
4- عن تطوُّر تاريخ العلوم الاجتماعية المختلف عن تطوُّرها في الغرب، وعن تنظيم جامعاتنا على صُورة النموذج الغربي، وعن انتِهاج رجال الاجتماع في بلادنا نهجَ (نقل المعرفة) التي تحصَّل عليها الغرب في قرنين من الزمان إلى جامعاتنا لردْم الهوَّة بينهم وبين الغرب، وعن تشدُّد رجال الاجتماع العرب في الارتباط بالنظريَّات المنقولة أكثر من أصحابها، يقول الكنز:
"عرَف تاريخ العُلوم الاجتماعيَّة في البُلدان العربيَّة تطوُّرًا مختلفًا كلَّ الاختلاف؛ عملتْ هذه البلدان في حقبةٍ تاريخيَّة لاحِقة، وبعد أنْ حازَتْ على استِقلالها - على تشييد جامعات حديثة نظَّمَتْها على (صورة النموذج الغربي)، ووجد عُلَماء الاجتماع العرب أنفسهم أمام تأخُّر كبير في التحصيل العلمي، فعمدُوا كزُمَلائهم في المجالات العلميَّة الأخرى، إلى انتِهاج طريق (نقل المعرفة)، هذه المعرفة التي حصَّلَها الغرب طوال قرنين من البُحوث، وقد شملت هذه العمليَّة كلَّ البلدان العربيَّة بأشكالٍ وأوتارٍ مختلفة، إلا أنها كلها اتَّصفت بالميزات الثابتة التالية: إنَّ هذا النقل الذي تَمَّ في مناخٍ من الفَوضَى لم (يتمشكل) ضِمنَ تحديدٍ بعيد النظَر في تفسير مختلف النظريَّات، وبناء المفاهيم في ضوء الواقع المحلي... وإذ وجَدُوا أنفسهم أمام مفاهيم ونظريَّات ضعيفة التأثير لكونها مستوردةً ومقطوعةً عن جذورها الاجتماعية والتاريخية، وعن مَسار تكوينها الإبستمولوجي والزمني، لَجَأَ هؤلاء المستوردون إلى تَشوِيه الحقائق أحيانًا لتَطوِيعها وفْق الأفكار المقتبسة، ممَّا أدَّى بهم إلى علاقة دوغماتية (قطعيَّة) بموضوعهم، من هنا وتأكيدًا لمقولة: (ملكي أكثر من الملك) نجد ماركسيِّي القاهرة مثلاً أكثر قطعيَّة من نظرائهم الباريسيِّين، ونجد أتباع النظريَّة الوظائفيَّة في الرباط أكثر تشدُّدًا من صاحِبها في نيويورك"، صـ102.
5- يعترف الكنز بأنَّ ما يدورُ من نِقاشاتٍ في حقل علم الاجتماع في بلادنا هو نِتاجٌ للتَّجارب العمليَّة التي جرت في الغرب، فيقول:
"تُقدِّم معظم النقاشات التي تَدُورُ في الأجواء السوسيولوجيَّة العربيَّة مفاهيمَ ومواضيع نظريَّة، غالبًا ما تكونُ نتاجًا للتجارِب العمليَّة التي جرَتْ في الغرب"، صـ105.
علي الكنز ماركسي التفكير، يفهَمُ الدِّين في ضوء نظريَّة الصِّراع الطبقي، وهو مُعادٍ للدِّين، ينظر إليه على أنَّه انعكاسٌ لبُؤس العالم وشَقائِه، ويعتبر أنَّ الفكر العقلاني هو تعبيرٌ عن حيويَّة الوعي الجماعي الذي يَعكِس تطوُّر العالم وازدِهاره، من أشهر مقولاته المعادية للدِّين:
"علينا تركُ الاعتقاد بالدِّين؛ لأنَّه لم يُبَرهن على أنَّ الدِّين أصبح بمثابة رؤيةٍ للعالم أو كَثافة، فهو وظيفةٌ عكسيَّة للتطوُّر التاريخي والاجتماعي".
(انظر: علي الكنز، "الإسلام والهوية، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1990، صـ91-109).
ثالثًا: سالم ساري، مدرس علم الاجتماع بجامعة الإمارات العربية المتحدة:
1- عن سَيْطَرة المفاهيم الغربيَّة على فِكر رجال الاجتماع في بلادنا، وعن عدَم نَجاحهم في تطوير مفاهيم أصيلة لتحليل واقع مجتمعاتنا، يقولُ سالم ساري:
"يكتب رجال الاجتماع العرب والمفاهيمُ التحليليَّة الغربية تَطغَى على مُحِيطهم الفكري، فلم يُطوِّروا إلاَّ قليلاً من المفاهيم التحليليَّة الأصليَّة التي تساعد على فهْم الواقع الاجتماعي العربي وتتوجَّه إلى تغييره، ولم يظهَرْ لسنواتٍ طويلةٍ في التراث العربي لعلم الاجتماع فيما يتَّصل بالمشكلات الاجتماعيَّة التقليديَّة على الأقل إلاَّ تطابقٌ مع المفاهيم النظريَّة الغربيَّة بِمُسلَّماتها وافتِراضاتها وارتِباطاتها"، صـ187.
2- عن معالجة رجال الاجتماع في بلادنا مشكلات مجتمعاتنا في ضوء المفاهيم الغربيَّة التي تجمَّدت في بلادها، يقول ساري:
"وقد أخَذ الاجتماعيُّون العرب مفهوم (المشكلات الاجتماعية) كما تجمَّد في المجتمعات الغربيَّة الصناعيَّة... فلم تخرُج إشكاليَّات البحوث العربيَّة بذلك عن أنماطٍ سلوكيَّة، وأفعال انحرافيَّة، وقيمٍ باثولوجية، أو ظواهر مشكلة قابلة للملاحظة والقياس كاختلالات فرديَّة، واختلافات ثقافيَّة، أو وصمات اجتماعية"، صـ192.
3- عن عدَم وُضوح الرؤية في النظرية والمنهج عند رجال الاجتماع في بلادنا، يقول ساري:
"إنَّ الاجتماعيين العرب يُعانون من عدم وضوح الرؤية في النظرية وفي البحث المنهجي، فهم يَمِيلون في مُعظَم الأحيان إلى نقْد كلِّ ما يُطرَح في المجتمعات الغربيَّة دون التوصُّل إلى نظريَّةٍ للمجتمع العربي، وإنَّ إشكاليَّات بحوثهم تَكمُن في أنها لا تمتُّ بصلةٍ إلى الواقع المجتمعي العربي"، صـ383.
4- عن نقْد رجال الاجتماع في بلادنا للنظريَّات الغربية مع استمرار الاعتماد عليها اعتمادًا كليًّا، يقول ساري:
"كثيرًا ما يصبُّ رجال الاجتماع العرب نقدَهم على النظريَّات والمفاهيم التحليليَّة الغربيَّة؛ بدعوى أنها نائيةٌ وسحيقة، صُنِعتْ لعالمٍ غير عالمهم، ولا تحمل إلا صلة قليلة فقط لواقعهم الاجتماعي المَرِير، وفي حين لا يمكن الإنكارُ أنَّ المجتمعات العربيَّة - كغيرها من مجتمعات العالم الثالث - تخبر مشكلات ذات تعريفات ومصادر ومصاير مغايرة، فإنَّ رجال الاجتماع العرب لم يُقدِّموا البديلَ الجديَّ، نظريًّا ومنهجيًّا لدراسة حَقائق مشكلاتهم العربيَّة، ومن المفارقات العجيبة أنْ يستمرَّ وعيُ رجال الاجتماع العرب بقُصور هذه النظريَّات الغربيَّة جَنبًا إلى جنب مع استِمرار الاعتماد عليها بصورةٍ كليَّة أحيانًا في بحوثهم ودراساتهم العربيَّة"، صـ45.
5- عن عدَم اكتراث رجال الاجتماع في بلادنا بقِيَمِ وتقاليد مجتمعاتهم، ونَظرتهم لها على أنها عاداتٌ وتقاليد جامدة، وتفسيرهم للمشكلات الاجتماعيَّة في ضوء عَقائِدهم ومَصالِحهم الضيِّقة، يقول ساري:
"وستظلُّ المشكلات الاجتماعيَّة تعني بذلك أحكامًا قيميَّة، وتقويمات فنيَّة يُطلِقها مُعرِّفوها ودارسوها وخُبَراؤها على ما يعتَرِي النِّظام الاجتماعي والسياسي القائم - لا تعكس إلاَّ قيمهم وعقائدهم ومصالحهم الضيِّقة، ما لم يتمَّ الرُّجوع في تعريفها وتحديدها إلى أفراد المجتمع العاديين، الذين لا تُعرَف أيُّ مشكلات مجتمعيَّة فعليَّة إلا بهم، وقد لا يُعنَى كثيرٌ من دارِسي علم الاجتماع بالقِيَم المجتمعيَّة الراسخة، شيئًا أكثر من عادات وتقاليد ونُظُم جامدة، تحجب عنهم رؤية التناقُضات والمتغيِّرات والتحوُّلات التي تقَع داخل مجتمعاتهم"، صـ14.
رابعًا: محمد شقرون الأستاذ بكلية الآداب بالرباط بالمغرب:
يعدُّ (محمد شقرون) مثالاً بارزًا لرجال الاجتماع الذين يُهاجِمون استِخدام المفاهيم الغربيَّة مع استمراريَّة الاعتماد عليها في الوقت نفسه، كما أشرنا إلى ذلك في البند الرابع عند سالم ساري، ويتَّضح ذلك من الفقرة الآتية التي ناقَض فيها شقرون نفسه بعد سطْر واحدٍ ممَّا كتبه! يقول شقرون:
"كما أنَّه لا يصلح كذلك قبول الألفاظ المرجعيَّة للآخَرين التي تُؤدِّي بنا إلى ميدانهم الخاص لكي نَخضَع لِمُنطَلقهم الخصوصي في معركةٍ نكونُ الخاسِرين فيها مسبقًا، يجدر بنا - حسب رأيي - أنْ نتكلَّم فيما يتعلَّق بالمجتمعات العربيَّة عن (الأنوميا) عوض الأزمة"، صـ68.
يُهاجِم محمد شقرون تمسُّك العرب بالحِفاظ على أعراضهم وشرفهم، واهتمامهم بتهذيب أخلاقهم بالتمسُّك بالسلوك القويم حسب التقاليد، ويدعو إلى قَطِيعة الماضي، بل فقدان الذاكرة فيما يتعلَّق به، يُطالِبنا بإعادة النظَر فيما يُسمِّيه بالنظام القديم، وفي كلِّ التصانيف التي يقومُ عليها (صـ70، 71)، وهو رجلٌ ماركسيُّ التفكير، مُعادٍ للدِّين، ينادي بالتصادم معه، والسعي نحو تفكيكه، وجعله موضوعًا للبحث العلمي والتاريخي، (انظر محمد شقرون، الظاهرة الدينية كموضوعٍ للدراسة، الدين في المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1990 صـ127-136).
خامسًا: غالي شكري، وهو رجلُ اجتماعٍ مصري:
غالي شكري ماركسي التفكير أيضًا، اعتَرَف بأنَّ رجال الاجتماع في بلادنا يستَورِدون العلم الاجتماعي كما يستَورِدون قطع غيارات السيارات، كما يعتَرِف بغِياب الرُّؤية النقديَّة عندهم، وباستخدامهم لأدوات المناهج الغربية التي لا تولد إلا نفس النتائج التي توصَّل إليها الغرب كذلك، أقرَّ غالي شكري بعدم حياديَّة الفكر الاجتماعي، وكشف عن عدَّة نقاطٍ مهمَّة:
الأولى: أنَّ رجال الاجتماع في بلادنا حاوَلُوا فهْم التيَّارات الإسلاميَّة بمنهج غربي فسَد في بلاده أصلاً، وأنَّ هناك العديد من الكتب التي كُتِبت باللغة الفرنسيَّة عن الجماعات الإسلاميَّة المعاصرة في مصر، وأنَّ هذه الكتب سوف تَتحوَّل بالضرورة إلى مَصادِر للباحثين العرب الشباب في بلادهم أو في الغرب.
الثانية: هي أنَّ محاولة التوفيق بين الإسلام والغرب سوف تنتَهِي إلى أنْ يُصبِح الغرب هو المنهجَ، والمجتمعات الإسلاميَّة هي مادَّةَ التحليل.
الثالثة: إنَّ التفاعُل مع الغرب قد أثمر في نظَرِه أينع الثمار، التي يضْرب لها مثالاً بكتاب طه حسين "في الشعر الجاهلي"، فكشَف بذلك عن أنَّ العداء للإسلام، والسعي نحو فهمه على الطريقة الغربيَّة هو أحد أسباب تمسُّك رجال الاجتماع بالمنهج الغربي.
الرابعة: أنَّ الخبراء الاجتماعيين العرَب يشغَلُون مناصب مرموقة في الهيئات العربيَّة والدوليَّة، ويتقاضون رواتب كبيرة من أجل خِدمة أهداف هذه الهيئات ذات الطابع الأيديولوجي (صـ83-97).
سادسًا: حيدر إبراهيم، المحاضر السابق في قسم الاجتماع بجامعة الإمارات العربية المتحدة:
أكَّد حيدر إبراهيم ما أشرنا إليه سابقًا على النحو التالي:
1- عدم حياديَّة علم الاجتماع، وأنَّ العلوم الاجتماعيَّة علوم عقَدِيَّة، وأنَّ الباحث فيها لا ينفَصِل عن ظُروف حَياته، ومُعتَقداته، وطَبقته، وعضويَّته في المجتمع.
2- أنَّ أصحاب ما يُسمَّى بعلم الاجتماع الإسلامي - باستثناء من لهم قَناعات إسلامية واتِّساق فكري - يجمَعُون ما لا يأتلف، شديدو العموميَّة، يضعون المشروع القديم في أكوابٍ جديدة لا يُغيِّرون المضمون، يستَخدِمون المفاهيم الغربيَّة نفسها بوضع ملصقات جديدة عليها، أو إضافة كلمة "إسلامي" أو "مسلم" لهذه المفاهيم، يتحوَّلون في فترةٍ قصيرة من اتِّجاهات ومدارس متناقضة تمامًا مع هذا الاتجاه الجديد الذي تبنوه، تعجُّ مُؤلَّفاتهم بالأخطاء والمُغالَطات المنهجيَّة التي تَتعارَض مع مَنحاهم الجديد.
يُدافِع حيدر إبراهيم عن اتِّجاهه الماركسي، ويُشِير إلى بِدايات محاولات كسْر احتِكار علم الاجتماع الغربي للمنطقة العربيَّة، هذه المحاولات التي بدَأت بترجمة سمير نعيم وفرج أحمد فرج لكتاب أوسيبوف عام 1970، وتأييد عاطف غيث لهذه المحاولة بكتابته مقدمة الكتاب، التي يرى فيها أنَّ الماديَّة التاريخيَّة هي المنهج الأكثر مُلاءَمةً لفهم واقعنا الاجتماعي، يُشِير حيدر إبراهيم أيضًا إلى ترجمة كتاب نقد علم الاجتماع البورجوازي المعاصر، ثم لكتاب عبدالباسط عبدالمعطي (مطالعات نقدية في الاتجاه السوفياتي في علم الاجتماع عام 1977) صـ107-137.
يفهم حيدر إبراهيم الإسلامَ في ضوء المفاهيم الماركسيَّة، وآراء موللر وسبنسر وكونت ودوركايم وغيرتز وفيرث وورسلي ودومونت وطومسون وثربورن وستارك وجلوك وسبيرو وفوشتوانغ ودكسون والتوسير وماكس فيبر ونيدهام، لكنَّ المهمَّ هنا هو أنَّ حيدر إبراهيم من دُعاة ما يُسمَّى بلاهوت التحرُّر وتناقُض الثورة مع الدِّين، (صـ137، انظر كذلك الأسس الاجتماعية للظاهرة الدينية، الدين في المجتمع العربي صـ33-62).
سابعًا: أحمد مجدي حجازي، أستاذ الاجتماع بجامعة القاهرة:
من دُعاة المادية التاريخيَّة ومنهجها الجدلي، ينظُر إلى الدِّين على أنَّه خُرافة وتزييف، ويدعو إلى ما يُسمِّيه بالرؤية التقدميَّة التي تُحرِّر التراث وتُغَربِله ممَّا يُسمِّيه بالقَداسة والتوثُّن (صـ139-161).
ثامنًا: محمود الذواري، أستاذ الاجتماع بجامعة الملك سعود:
أقرَّ الذواري بطُغيان المدارس السوسيولوجية الغربيَّة على التكوين المعرفي لعُلَماء العرب المحدَثِين، لكنَّ الذي أضافَه الذواري هو إشارته إلى احتِقار رجال الاجتماع في بلادنا لتراثهم العربي، واعتقادهم بعدم تمشِّيه مع الحياة العصريَّة، يقول الذواري:
"لكنَّ أزمة المثقَّفين العرب لا تنتَهِي عند فقر أو عدم وجود أساسٍ لقاعدة تفكيرٍ اجتماعي؛ وإنما تتعدَّاه إلى تركيبتهم النفسيَّة (الشخصيَّة)، فمنهم مَن يميلُ إلى تحقير التراث العربي على العُموم؛ لأنَّه في نظَرِهم بعيدٌ عن أنْ يَتماشَى أو يَتلاءَم مع قَضايا الحياة العصريَّة"، صـ174.
تاسعًا: عبدالباسط عبدالمعطي، أبرز أعضاء حزب التجمُّع الشيوعي المصري، رئيس الجمعية العربية لعلم الاجتماع، وأستاذ الاجتماع بكلية البنات جامعة عين شمس:
اعتَرَفَ عبدالباسط عبدالمعطي بالآتي:
1- فقدان الثقة والفَجوة بين متَّخذي القَرار والمتخصِّصين في علم الاجتماع، وأنَّه قلَّما يُستَدعَي المتخصِّصون في علم الاجتماع للمُشارَكة في تحليل القَضايا التي تُواجِهها المجتمعات، أو حتى في حُدود البحوث التي تُجرِيها مؤسَّسات علميَّة رسميَّة، وأنَّ الإفادة منهم تكون في أضيق نِطاق (صـ201).
2- أنَّ رجال الاجتماع في بلادنا يَدرُسون القَضايا والمشكلات بعد حُدوثها وتضخُّم حجمها، وأنَّ معظم القضايا التي دُرست جزئيَّةٌ ومرتبطة بمشكلاتٍ اجتماعيَّة غير سويَّة (صـ202-203).
3- أنَّ النقل الذي يقومُ به رجالُ الاجتماع في بلادنا للفكر الغربي أو الشرقي - ليس نقلاً أمينًا ولا دقيقًا، وأنَّ النقد الذي ينقلونه ضد هذا الفكر نقلٌ حرفيٌّ؛ ممَّا يُخفِي الضعف المعرفي والفكري للمُشتَغِلين بعلم الاجتماع في بلادنا.
4- أنَّ شروط الإبداع عند رجال الاجتماع في بلادنا غير مُتوافِرة، (صـ206).
5- سَيْطَرَةُ المكتبة الغربيَّة على علم الاجتماع في بلادنا، وخاصَّة الفرنسية والأمريكية والإنجليزية، يقول عبدالمعطي:
"فأكثر من 90% من الترجمات هي عن هذا المصدر".
6- أنَّ المؤسَّسات الأمريكيَّة تقومُ بتدعيم وجود الفكر الغربي، ومنها مؤسسة فرانكلين بصفةٍ خاصةٍ، (صـ365).
7- أنَّ هناك بحوثًا مشتركةً بين جامعاتنا وهَيْئات أجنبيَّة تَتِمُّ لصالح الأمريكيين واليهود، ويُشارك فيها رجال الاجتماع في بلادنا، (صـ367).
يُدافِع عبدالمعطي عن تبعيَّته الشخصيَّة للفكر الماركسي وللنظام الاشتراكي العالمي، بقَناعته الأيديولوجيَّة بهذا الفكر، وبأنَّ أساليب النِّظام الاشتراكي لا تطلب تابعين، وأنَّ هذا النِّظام لم يسعَ إلى فرض التبعيَّة على المشتَغِلين بالعلم (صـ365).
يُحدِّد عبدالمعطي أوجُهَ الشَّبَه بين أصحاب الفكر الماركسي وبين ما يُسمِّيه بالتراثيِّين الجُدُد، ويرى أنَّ هناك أرضيَّة مشتركة بينهما، وأنَّ الصِّراع لن يكونَ إلا بينهما، وأنَّ هذا الصِّراع سيُفضِي إلى: "إمَّا سطوة أحدهما وغَلَبته مع بَقاء الآخَر، وإمَّا الوصول إلى تيَّارٍ نوعي جديد يخرج من صِراعهما"، صـ378.
عاشرًا: المختار الهراس، أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بالرباط:
يرى الهراس أنَّ الطروحات الماركسيَّة تتضمَّن مع الإمكانات النظريَّة والمنهجيَّة البديل الأكثر مُلاءمة وقُدرة على الاستجابة لواقِع مجتمعاتنا، (صـ285).
حادي عشر: عبدالصمد الديالمي، أستاذ الاجتماع بفاس بالمغرب:
اعترف الديالمي بما يلي:
1- أنَّ رجوع رجال الاجتماع في بلادنا إلى ابن خلدون ما كان إلا مجرَّد عصًا سحريَّة تُغطِّي - عن طريق الوهم - غِيابَ العرب عن ساحَة عِلم الاجتماع، (صـ287).
2- أنَّ عِلمَ الاجتماع في المغرب كان في خِدمة الاستعمار الفرنسي ومخابراته، وأنَّه كان يَسعَى إلى إعادة تركيب حَياة المجتمع المغربي وتنظيمه، وتعميق الصِّراعات العرقيَّة بين العرب والبربر، والعمل على استِمرار الرَّواسب ما قبل الإسلاميَّة فيها على صعيد المعتقدات والمؤسَّسات والممارَسات، وتصوير الإسلام للبربر بأنَّه قوَّة استعماريَّة تسلَّطَتْ عليهم لتسلب منهم مُمتَلكاتهم وهُويَّتهم على وجْه الخصوص؛ ممَّا يُسهِّل الطريقَ لتنصيرهم؛ بالتأكيد على تجنُّب أسلمتهم وتعريبهم، ثم العمل على تَطوِيرهم نحو الثقافة الأوربيَّة.
3- ساعَد علم الاجتماع على تكوين طبَقة متوسِّطة بفضل التعليم، تتوجَّه إلى الوظائف العصريَّة، وتُدافِع عن قِيَمِ الحداثة في شَكلِها الغربي، وخاصَّة في مَجال اللباس والسُّكنَى وتحرير المرأة.
والديالمي من أتْباع الماديَّة التاريخيَّة ونظريَّة الصِّراع الطبقي، ويرى أنَّ ولادة علم اجتماعٍ مغربي مشروطٌ بإنتاج نظريَّة حول الأشكال المغربيَّة الخصوصيَّة للصِّراع الطبقي، (صـ287-307).
ثاني عشر: الطاهر لبيب، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسيَّة:
أقرَّ الطاهر لبيب بما يلي:
1- أنَّ تاريخ علم الاجتماع في تونس يَبدَأ بأرسطو، ثم يمرُّ بابن خلدون ومونتسكيو وسان سيمون وروسو وماركس وبرودون ودوركايم ومارسال موسى وماكس فيبر، قبل الوصول إلى أهمِّ مدارس علم الاجتماع المعاصر في أهمِّ البلدان.
2- أنَّ المغرب العربي موضوعٌ مبجَّل لدى بعض علماء الاجتماع الفرنسيين، الذين واكَبُوا نَشأة قسم علماء الاجتماع في تونس.
3- أنَّ المؤلفات في علم الاجتماع في تونس تغلب عليها الثقافة الأوربيَّة - مع الهيمنة الفرنسية - وأنَّ اللغة الفرنسيَّة هي لغة أغلب المراجع.
4- أنَّ سمير أمين هو المرجع الأوَّل في تدريس علم الاجتماع في تونس، وأنَّ ماركس هو الإله الخفيُّ الذي يتغيَّر الموقف منه دون أنْ يُهمِله أو ينفَصِل عنه.
5- أنَّ الواقع المغربي يُفهَم دائمًا عبر قِراءات ماركسيَّة، (صـ309-329).
ثالث عشر: فوزي العربي:
يعتَرِف فوزي العربي بانعِكاس تبعيَّة رجال الاجتماع في بلادنا للفكر الغربي والماركسي على الطلاب، فيقول:
"الوضع الراهن لعلم الاجتماع في البلاد العربيَّة وضعٌ مؤسف إلى حدٍّ كبيرٍ؛ نظَرًا للتحدِّيات التي يُواجِهها، ونظرًا لأنَّ كثيرًا من الأساتذة متأثِّرون غالبًا بالنظريات الغربية والمستوردة والدخيلة على المجتمع العربي، فنجد أنَّ بعضَهُم يناصر في محاضراته ومؤلفاته المدارس الغربية في علم الاجتماع ويُؤيِّدها، ويتعصَّب لها أحيانًا، ويتأثَّرون في ذلك بما كتَبَه علماء الغرب في علم الاجتماع، ونرى البعضَ الآخَر يتمسَّك دائمًا بعِلم الاجتماع الماركسي، ويُؤيِّدون قَضاياهم بأفكارٍ راديكالية لا تمتُّ إلى مجتمعنا العربي الذي نعيشُ فيه بصلةٍ، والنتيجة عكسيَّة سواء من ناحية المسافات، أو من ناحية المناهج أو الموضوعات المطروحة في أقسام الاجتماع في الجامعات العربيَّة تنعَكِس على الطلاب بصفةٍ خاصَّةٍ؛ إذ نجدُ أنَّ الطالب المتخصِّص يتعرَّض لآراء المفكِّرين الغربيين أو الماركسيين، أكثر من تعرُّضه للفكر الاجتماعي عند العرب، وبعبارةٍ أخرى: فإنَّ علماء الاجتماع العرب يُعانُون من التبعيَّة الفكريَّة، ومُتأثِّرون بالنظريَّات المستوردة التي عاصَرُوها في مرحلة التكوين، وما زالوا يُكرِّسون أنفسهم لها"، صـ382.
رابع عشر: عبدالوهاب بوحديبة:
يتحدَّث بوحديبة في نفس القضايا التي تحدَّث عنها فوزي العربي، فيقول:
"لقد تأثَّرنا نحن من الغرب (بالموضات) الباريسيَّة؛ حيث يرتدون الفستان الطويل فنطول، ثم يقصرون فنتبعهم بذلك، يُنادون بالنمط الآسيوي للإنتاج، فنَنساق خمس سنواتٍ نبحَثُ في النمَط الآسيوي للإنتاج، ويقولون: (التبعية)، فندخل في مناقشة قضيَّة التبعيَّة، ثم يقولون: لا تبعية؛ ولكن هناك محاور ومراكز وهوامش، فندخُل في هذه المجادلات"، صـ384.
هذه هي حقيقةُ علمِ الاجتماع في بلادنا، أورَدْناها بأقلام أكثر من أربعة عشر رجلاً منهم:
إنهم يعتَرِفون بتبعيَّة علم الاجتماع في جامعاتنا للفِكر الغربي والماركسي، وبأنَّ رجالَه أكثر تشدُّدًا في تبعيَّتهم لهذا الفكر من أصحابه أنفسهم.
يعترفون بأنَّ علم الاجتماع ليس محايدًا، وبأنهم لا يُنتِجون عِلمًا حقيقيًّا، وإنما يستَورِدون ويستَهلِكون دون تبصُّر.
ناتج بحوثهم هزيلٌ، لا يُضِيف معرفةً إلى المعرفة القائمة عند المثقَّف أو الرجل العادي.
يَعِيشون في بلادنا بأجسامهم، أمَّا عقولهم وفكرهم ففي بلادٍ بعيدةٍ.
يُهاجِمون وينتَقِدون الفكر الغربي، ويعتَمِدون عليه في الوقت نفسِه، ويرَوْن أنَّه قدَّم أعمق التحليلات عن تخلُّف مجتمعاتنا وأصدقَها، وأنَّ النظريَّات الغربيَّة تَحوِي دُروسًا بالغة الثراء والفائدة.
يسلمون بأنَّ هذه النظريَّات لم تُعطِنا الأدوات اللازمة لِمُعالَجة واقعنا، وأنها تردَّد في جامعاتنا بشكلٍ آلي، وأنَّ جامعاتنا نُظِّمت على النموذج الغربي، وانتَهجَتْ طريق (نقل المعرفة) التي تحصَّل عليها الغرب في قرنَيْن من الزمان.
يُعالِجون مُشكِلاتنا الاجتماعيَّة في ضوء المفاهيم الغربيَّة التي تجمَّدت في بلادها.
ليس عندهم وضوحٌ في الرؤية ولا في البحث المنهجي.
يحتَقِرون تراث أمَّتهم ويَنظُرون إلى عاداتها وتقاليدها على أنها جامدةٌ.
لا تثقُ الدولة فيهم، ولا يُستعان بهم في اتِّخاذ القرارات المتعلِّقة بالقضايا المجتمعيَّة.
يتعاوَنُون مع المؤسسات الأجنبيَّة في تقديم ما تَحتاجُه من معلوماتٍ عن بلادهم.
هذا هو حال علم الاجتماع ورجاله في بلادنا!
________________________________________
[1] راجع: "نحو علم اجتماع عربي"، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1986.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: