(118) طلب العلم تقرب إلى الله أم سعي إلى المال والمنزلة الرفيعة؟
د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6490
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يقول المفكرون الإسلاميون: "لا يعترف الإسلام بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا فى ذاته صالحا.ولهذا فإن سعى المؤمن كله ينبغى أن يتجه إلى إقامة دين الله فى الحياة كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم بكل تفصيلاته وجوانبه.والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام، ولا يتصور إمكان انفصال أى جزئية فى السعى اليومى فى حياة المسلم عن الإسلام لأنه ليست هناك جوانب من جوانب الحياة يمكن أن تخرج عن هذا الدين".
واقع الحال أنه يندر أن نجد من يؤمن بهذه القاعدة ويتحراها من الدارسين والدارسات، ومن ثم يندر أن نجد دارسا أو باحثا يسعى إلى درجة جامعية أولى أو يسعى للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه من يسأل نفسه: لماذا يدرس؟ وهل هذا الذى يدرسه يتفق مع العقيدة التى يحملها أو يتعارض معها؟.الكثيرون - إلا من رحم الله- لا يهمهم لا هذا ولا ذاك، كل ما يهمهم الحصول على الدرجة أو الشهادة، والعلو فى الأرض، وما يتبع ذلك من مال ومنزلة عالية بين الناس،.أما الدين والعقيدة فأقصى ما يفهمونه منها أنها مجرد شعائر تؤدى، لا دخل لها فى طلب العلم.
وضع العلماء قاعدتين هامتين فى هذا الشأن:
تقول الأولى: كل عمل وإن صغر من فعل وقول وحركة وسكون وجلب ودفع وفكر وذكر وخاطرة وخطوة ولحظة وغير ذلك من الأعمال التى لا يمكن إحصاؤها، إلا ينشر له ديوانان: لم؟ وكيف؟
فالأول: سؤال عن علة الفعل وباعثه وداعيه ؛ هل هو من أجل حظ عاجل، وغرض من أغراض الدنيا فى محبة المدح من الناس أو خوف ذمهم، أو استجلاب محبوب عاجل، أو دفع مكروه عاجل؟ أم الباعث على الفعل القيام بحق العبودية، وطلب التودد والتقرب إلى الرب سبحانه وتعالى، وابتغاء الوسيلة إليه؟
ومحل هذا السؤال: أنه، هل كان عليك أن تفعل هذا الفعل لمولاك، أم فعلته لحظك وهواك؟
والثانى: سؤال عن متابعة الرسول عليه الصلاة والسلام فى ذلك التعبد، أى هل كان ذلك العمل مما شرعته لك على لسان رسولى، أم كان عملا لم أشرعه ولم أرضه؟
فالأول سؤال عن الإخلاص، والثانى عن المتابعة، فإن الله سبحانه لا يقبل عملا إلا بهما.
فطريق التخلص من السؤال الأول: بتجريد الإخلاص، وطريق التخلص من السؤال الثانى: بتحقيق المتابعة ".( إغاثة اللهفان لابن القيم بتصرف).
كل عمل لا يراد به وجه الله إذن فهو باطل لا ثمرة له في الدنيا ولا في الآخرة.قال صلى الله عليه وسلم:" إن العبد ليعمل أعمالا حسنة فتصعد الملائكة في صحف مختمة فتلقى بين يدي الله تعالى فيقول: ألقوا هذه الصحيفة فإنه لم يرد بما فيها وجهي.ثم ينادى الملائكة اكتبوا له كذا وكذا اكتبوا له كذا وكذا فيقولون ياربنا إنه لم يعمل شيئا من ذلك فيقول الله تعالى إنه نواه " حديث حسن.
فطلب العلم إذن لا بد له من نية وعمل.
ويقول العلماء: " لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا حسبة له، يعنى لا أجر لمن لم يحتسب ثواب عمله عند الله عز وجل، ولا ينفع قول إلا بعمل، ولا ينفع قول ولا عمل إلا بنية، ولا ينفع قول ولا عمل ولا نية إلا بما وافق السنة.
وخلاصة ذلك أن لطالب العلم أن يتحقق من أمرين: أن يكون العلم الذى يدرسه في ظاهره على موافقة السنة، وذلك من حديث عائشة رضي الله عنها " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد".
والثاني: أن يكون العمل في باطنه يقصد به وجه الله عز وجل. وأفضل العمل أخلصه وأصوبه، فالعمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل، وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل.
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه، وابتغى به وجهه.وخرج أبو داود من حديث أبى هريرة : أن رجلا يريد الجهاد وهو يريد عرضا من أعراض الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أجر له، فأعاد عليه ثلاثا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا أجر له.
عن ابن مسعود، قال: كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تزوجه حتى يهاجر، فهاجر، وكنا نسميه مهاجر أم قيس، وهذه كانت سبب قول النبي صلى الله عليه وسلم : من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه..ولهذا يقول العلماء: لا يصلح العمل إلا بثلاث: تقوى لله، والنية الحسنة والإصابة في العمل.
وهناك أمر هام في مسألة النية.فرب دارس - وقف على حقيقة ذلك يقول - الآن أغير نيتى فبعد أن كانت همتى السعى للعلو فى الأرض - أجعلها الآن لله.
وحقيقة الأمر أن النية ليست داخلة تحت الاختيار، فهي فتح من الله تعالى، لا يتيسر لكل أحد.يقول العلماء:" النية والإرادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد.(منهاج القاصدين 387).
وتعرف النية بأنها: انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنه مصلحة لها إما في الحال أو المآل.لكن النية تجرى مجرى الفتوح من الله تعالى.وليست النية داخلة تحت الاختيار، فقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر، لكنها تتيسر في الغالب لمن يميل قلبه إلى الدين لا الدنيا (منهاج القاصدين 389).
يقول تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ [الحج: 11]: "فيكون المقصد للعمل مضاد لقصد الشارع.روى أن بعض الناس سمع بحديث "من أخلص لله أربعين يوما ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه" فتعرض لذلك لينال الحكمة فلم يفتح له بابها، فبلغت القصة بعض الفضلاء فقال هذا قد أخلص للحكمة ولم يخلص لله" (الموافقات ج2/382).
وهناك من يقول: لا بأس: أجمع بين الدين والدنيا، الإخلاص لله والسعي نحو العلو في الدنيا.
جاء فى الحديث بإسناد صالح " إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ينادي مناد من كان أشرك في عمل عمله لله أحدا فليطلب ثوابه من عند غير الله فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك " (الدرر السنية).
يقول العلماء فى ذلك: " الإخلاص هو صفاء الأمر وخلوصه عما يشوبه غيره.فإخلاص العمل لله يعنى أن يكون القصد من الفعل هو التقرب إلى الله، فإن امتزج الباعث على الفعل بباعث من رياء أو حظوظ نفس لم يكن الإخلاص.مثال ذلك أن يصوم لينتفع بالحمية الحاصلة بالصوم مع قصد التقرب، أو يحج ليصح مزاجه بحركة السفر، أو للتخلص من شر يعرض له، أو ليتعلم العلم ليسهل عليه طلب ما يكفيه من المال، أو يشتغل بالتدريس ليفرح بلذة الكلام.ونحو ذلك، فمن كان باعثه التقرب إلى الله تعالى، ولكن انضاف إليه خاطر من هذه الخواطر، حتى صار العمل أخف عليه بسبب هذه الأمور، فقد خرج عمله عن حد الإخلاص. وقلما ينفك الإنسان في أفعاله وعباداته عن شيئ من هذه الأمور.فلذلك قيل: من سلم له في عمره لحظة واحدة خالصة لوجه الله تعالى، نجا وذلك لعزة الإخلاص.وعسر تنقية القلب من هذه الشوائب، لأن الخالص هو الذى لا باعث له إلا طلب القرب من الله تعالى..قيل لأحدهم أى شي أشد على النفس قال: قلة الإخلاص إذ ليس لها فيه نصيب (منهاج القاصدين 392).
وقد وضع الإمام الشاطبى حلا لهذه المعضلة وهى: عدم انفكاك أفعال العبد وأعماله عن حظوظ النفس وحظوظ الدنيا، فى قاعدة هامة مؤداها:" على المتعلم أن يدرك أن للعلم قصدا أصليا هو عبادة الله وقصدا تابعا، كالسعى نحو المال والمنزلة الرفيعة، لكن القصد التابع لا بد أن يكون خادما للقصد الأصلى".
يقول الشاطبى: " العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة وأهله أحياء أبد الدهر إلى سائر ماله فى الدنيا من المناقب الحميدة والمآثر الحسنة والمنازل الرفيعة..كل ذلك غير مقصود من العلم شرعا وغير مقصود من العبادة، وإن كان صاحبه يناله.والعلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة.إذ هو نوع من السيطرة على المعلومة، وقد جبلت النفوس عليها ومالت إليها القلوب وهو مطلب خاص برهانه التجربة والاستقراء.كما يطلب العلم للتفكه به والتلذذ بمحادثته ولا سيما العلوم التى للعقول فيها مجال وللنظر فيها متسع.وكل تابع من هذه التوابع إما أن يكون خادما للقصد الأصلى أو لا.فإن كان خادما له فالقصد إليه ابتداء صحيح.وقد قال تعالى فى معرض المدح: ﴿ وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا ﴾ [الفرقان: 74].وجاء عن السلف الصالح "اللهم اجعلنى من أئمة المتقين". أما إن كان غيرخادم له فالقصد إليه ابتداء غير صحيح كتعلمه رياء، أو ليمارى به صاحبه السفهاء، أو يباهى به العلماء، أو يستميل به القلوب.أو لينال به من الدنيا أو ما أشبه ذلك.وجاء فى الحديث:" لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء ولا لتماروا به السفهاء ولا لتحتازوا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار" (رواه ابن ماجه والحاكم فى المستدرك).
وقال صلى الله عليه وسلم:"من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به غرضا من الدنيا لم يجد عَرْفُ الجنة يوم القيامة" -أى ريحها- رواه أبو داود فى سننه).وفى الحديث كذلك:" سئل عليه السلام عن الشهوة الخفية، فقال هو الرجل يتعلم العلم يريد أن يجلس إليه" ( الموافقات للشاطبى بتصرف 1/36).
وهناك من الدارسين فى العلوم التطبيقية والتجريبية من يسعى إلى المال والمنزلة الرفيعة، ويعرف أن دراسته هذه - فى عمومها- ليست مخالفة لأمر الشارع، بل إنها توافقه، فما المشكلة هنا؟
يقول الإمام الشاطبى: " ان الأعمال التى يكون الحامل فيها مجرد الهوى والشهوة من غير التفات الى خطاب الشارع فيها كالأكل والشرب والنوم وأشباهها والعقود المنعقدة بالهوى ولكنها وافقت الأمر او الأذن الشرعى بحكم الاتفاق لا بالقصد إلى ذلك فهى أعمال مقرة شرعا لموافقتها للأمر أو الأذن لما يترتب عليها من المصلحة فى الدنيا فروعى فيها هذا المقدار من حيث وافقت قصد الشارع فيه، وتبقى جهة قصد الأمتثال مفقودة فيكون ما يترتب عليها فى الآخرة مفقودا أيضا لأن الأعمال بالنيات.ومن هنا كان لا بد من الإضافة الى الأعمال العادية قصدا يجد أصحابها به أعمالهم في الآخرة (الموافقات1/206 /239).
ويشرح العلماء ما سبق بقولهم:" ولما ندر أن ينفك فعل الإنسان عن حظوظه وأغراضه، وكان الخالص لوجه الله هو سبب الثواب، كان لا بد من النظر إلى كل من الباعث الدينى والباعث النفسي، فإن تساويا تقاوما وتساقطا، فصار العمل لا له ولا عليه، ولأن كان الباعث النفسي أغلب وأقوى، فهو ليس بنافع بل يؤدى إلى العقاب وهو أخف من العقاب في العمل المتجرد للرياء، ولم يمتزج به شائبة التقرب.
جاء فى الحديث الصحيح " إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه، رجل استشهد.فأتى به فعرفه نعمه فعرفها.قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت.قال: كذبت.ولكنك قاتلت لأن يقال جريء.فقد قيل.ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن.فأتي به.فعرفه نعمه فعرفها.قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن.قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم.وقرأت القرآن ليقال هو قارئ.فقد قيل.ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار.ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله.فأتى به فعرفه نعمه فعرفها.قال: فما عملت فيها؟ قال: ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك.قال: كذبت.ولكنك فعلت ليقال هو جواد.فقد قيل.ثم أمر به فسحب على وجهه.ثم ألقي في النار" (الدرر السنية).
أما إن كان قصد التقرب إلى الله أغلب بالإضافة إلى الباعث النفسي فله ثواب بقدر ما زاد من قوة الباعث الدينى، وهذا لقوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7- 8].ولقوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ﴾ [النساء: 40]، فلا ينبغى هتا أن يضيع قصد الخير، بل إن كان غالبا على قصد الرياء حبط منه القدر الذى يساويه وبقيت زيادة، وإن كان مغلوبا سقط بسببه شيء من عقوبة القصد الفاسد.وطلب الدنيا ليس بحرام ولكن طلبها بأعمال الدين حرام.
(انظر مقالتنا: الزواج تعبد لله أم إشباع رغبة وإنجاب ولد).
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: