في دلالة "ترئيس" الطالبي على مجلس بيت الحكمة العلمي
أبو يعرب المرزوقي - تونس المشاهدات: 7484
يضعنا تعيين وزارة الثقافة الأستاذ محمد الطالبي رئيسا لمجلس بيت الحكمة العلمي يضعناأمام عدة تساؤلات. وهذا التعيين يضع هذه التساؤلات بصرف النظر عن كون الرجل قد آل به كبر سنه وحب الظهور إلى القبول بأن يصبح بوق دعاية يستعمله الحزب الذي يتصور من العلم والطلائعية التحديثة التخريف برد عظائم التاريخ إلى صغائر من قال هيجل في من يمثل فهمهم: لا وجود لأبطال في نظرخدم الغرف. إنه تعيين يوجب فهم دلالته التمحيص الدقيق حتى ندرك المقاصد الخبيثة التي تتجلي للعين المجردة بصفتي المعيَّن السلبيتين قبل صفتي التعيين الإيجابيتين: فلا المسمى ذو شرعية علمية وأكاديمة ولا التسمية ذات شرعية ديموقراطية أو وجاهة سياسية.
واختصارا للعلاج سأجمع التساؤلات الأربعة فأردها إلى تساؤلين كلاهما مضاعف لأن كل صفة من صفتي المعين السلبيتين تناظرها صفة من صفتي التعيين الموجبتين:
1-عالِمية المعيَّن وشرعيته الأكاديمية
2-وديموقراطية التعيين ووجاهته السياسية.
التساؤل الأول - عالمية المعيَّن وشرعيته الأكاديمية
فهل تتوفر في المعيَّن- الأستاذ محمد الطالبي في هذه الحالة- المعايير العلمية التي ينتخب بمقتضاها أعضاء المجالس العلمية في أكاديميات معيار جدارتها العلمية هو المطابقة بين الاسم والمسمى؟ قد يبدو هذا السؤال متجنيا على الرجل المعيَّن وعلى الرجل الذي عينه إن صح أنه فعل ذلك من تلقاء نفسه ولم يُفرض ذلك عليه من فوقه أو من تحته. وسأكتفي بوضع الأسئلة التي لا أتصور أحدا يتابع الشأن العامل لم تتبادر إلى ذهنه ثم أعرض الجواب الذي أتصوره مما يقرب من المجمع عليه من قبل أي مراقب موضوعي للساحة العالمة في البلاد وفي العالم:
السؤال:
في أي علم يمكن أن تدرج عالِمية محمد الطالبي بصرف النظر عن الرتبة العلمية التي يمكن أن تنسب إليه فيه إن صح أنه من أهله. فتحديد الرتب يمكن أن يكون ذاتيا. لكن تحديد الاختصاص قابل للتعيين الموضوعي لأن معياره خلال الدراسة هو نوع الشهائد وبعدها هو طبيعة البحوث.
الجواب:
فلنحص أصناف الاختصاصات العلمية التي يمكن أن يدعيها أي أكاديمي يحترم نفسه(صرفا للنظر عن الاختصاصات الجمالية والجلالية التي لا شك في أن الطالبي لن يدعيها). فقطعا ليس الأستاذ الطالبي بقابل لأن ينتسب إلى جماعة العلماء بمعنى أصحاب الاختصاص في أحد العلوم الطبيعية فضلا عن البحث في ما بعدها الفلسفي معرفيا ووجوديا.
أفيكون قابلا للانتساب إلى جماعة العلماء بمعنى أصحاب الاختصاص في أحد العلوم الإنسانية بمقتضى كثرة كلامه على التاريخ وليس فيه ناهيك عن الكلام في فلسفته التي لا أتصوره مدعيا الخوض فيها بغير زاد حب الاطلاع غير المختص؟ ومع ذلك فلنسلم بأن المسألة فيها نظر حتى لا أجزم دون حجة. ولنبدأ بنفي لا ينفيه المدعى عليه في هذه الحالة. فهو ليس مؤرخا بمعنى المختص في فن التاريخ بمقتضى تكونه العلمي فضلا عنه بمقتضى منتجه العلمي. فرسالته في الأدب. والمعلوم أن هذا النوع من الرسائل تزين عادة بالكلام العام في التاريخ السياسي والاجتماعي باعتباره علما مساعدا في التعرف على الشخصيات الأدبية أو على المنتج الأدبي. لكن ذلك ليس اختصاصا بالمعنى المتعارف في تحديد الاختصاصات الأكاديمية. فمثلا المهندس المعماري يستعمل الرياضيات. لكنه لا يمكن أن ينتسب إلى مجلس الرياضيين الأكاديمي إلا إذا كان عبقرية فأبدع مبرهنة رياضية.
ولنثن بإثبات لا يمكن أن يخالفنا الأستاذ الطالبي في إنيته حتى وإن خالفنا في صفاته: إنه مبرز في العربية من جامعة فرنسية (يكفي فيها تهجية العربية وموقف المستشرقين دون منهجهم الذي ليس في متناول مقلديهم).
وحاصل القول وعلى حد علمي فالأستاذ الطالبي ليس مبرزا في التاريخ مثل الأستاذ جعيط مثلا في تونس أو مثل العروي في المغرب الأقصى. إنه إذن مؤرخ بصورة عرضية حتى لا نقول إنه من المتطفلين على التاريخ بالمعنى العلمي لكلمة التاريخ. وتطفله لا يبعد كثيرا عن تطفل "المتعلِّطين(=عامية تونسية وتعني محاوليها بغير أهلية)" على الفلسفة والكلام والفقه وأصول الفقه ممن يدرسون ما يسمى بالحضارة أو بالنقد الأدبي بعد أن انتقل هذان الفنان من كونهما فنين مساعدين لفهم النصوص الأدبية إلى تعالمين لست أدري ما سر فرح أهلهما بهما إلى حد التحول إلى قادة فكر هو إلى "التكر (=عامية تونسية وتعني السخف الهذياني)" أقرب .
لعله يكون عالما في أحد علوم الشريعة التي يتكلم فيها خابطا ومن منطلق (علمــــ)ـكلامي يشبه منازعات الفرق في القرون الوسطى أعني تبادل التهم العقدية التي تصل إلى حد التكفير بينه وبين بعض طلبته ممن بزه في "الزعامة التكرية" النافقة لدى دراويش الحداثة ؟ لكني لا أعلم للرجل كتابات علمية في علوم الشرع الأداتية فضلا عن الكتابات في علومه الغائية:
لم ير له أحد بحوثا في فقه اللغة والهرمينوطيقا ولا في المنطق والأنطولوجيا من حيث الأدوات التي من دونها لا علم في الدين يمكن أن يدعى.
كما لم ير له أحد بحوثا في الفقه وأصوله ولا في الكلام وأصوله ولا في التصوف وأصوله ولا في الفلسفة وأصولها فضلا عن التفسير وأصوله.
وفي الأخير لعل الطالبي قد أصبح عالما يرأس المجالس العلمية لمجرد كونه يعبر عن أحواله نفسه النفسية (ses états d’âmes) ويتوسط في الحوار مع الكنيسة الكاثوليكية ليعرض لنا معتقداته وأحكامه على جيله من معاصريه سواء كانوا طلبة عاقين أو زملاء منافسين. أفيكون ذلك معدودا من العلوم المؤهلة لرئاسة المجالس الأكاديمية ؟ لا عجب إن كان ذلك كذلك في بيت حكمة تنشئها حكومة لا يحكمها إلا التحكم عديم الحكمة. فإذا كان هذا علما فلم يبق أمام أي مواطن يحتكم إلى معايير العقل ويتجنب إثقال المناخ العام إزاء تصرفات هذه الحكومة بأكثر مما هو ثقيل به إلا أن يعتبر الحكومة تعمل بمبدأ: من لم يعجبه ذلك فليشك إلى عبد العزيز العروي رحمه الله. فهو أفضل من يقيم ما تعطينا إياه من "مشاتر" عن السلوك السياسي الراشد بعد الثورة.
لكن المعلوم أن الانتساب إلى المجالس العلمية في أكاديمات العالم المتحضر كله يقع بالانتخاب من قبل أعضاء المجلس السابقين. والمعلوم كذلك أنه في حالات التكوين الأول لا بد من شيء من التعيين لصعوبة الانتخاب بسبب الدور في تحديد الجماعة الناخبة. لذلك فعادة ما يُكتفى بالتشاور مع من اشتهر في الجماعة الوطنية والعالمية (لوجود أعضاء أجانب) بصفة العالم حتى لو كان من ذوي السمعة الكاذبة كجل الحالات في المجتمعات التي لا تزال فيها الجماعة العلمية تابعة للجماعة السياسية. إذ غالبا ما تنصب الجماعة السياسية من يخدمها أكثر من الجماعة الأكاديمية في الرتبة التي تريد فلا يكون معيرا الترتيب الإنتاج العلمي بل الولاء السياسي. وفي كل الحالات فإنه يعسر أن يمر تعيين رئاسة المجلس التي لا تكون إلا بالانتخاب حتى في حالة تعيين الأعضاء في المجلس الأول.
التساؤل الثاني: ديموقراطية التعيين ووجاهته السياسية
"الشكوى لعبد العزيز العروي" بمعناها الشعبي طبعا لو قمنا بها لاتعني أننا اخترنا ملجأ العاجزين بل إنما في ذلك إشارة ساخرة إلى الطابع الشعبي البدائي في حكاياته الواصفة للسلوك السياسي الذي من جنسه ما تواصله الحكومة المؤقتة من سلوك دال على تصرف من يظن نفسه ذا شرعية فرعونية يفعل ما يريد في ما ليس من اختصاصه وفي غياب تام للشعب حتى بعد الثورة. فضبط المؤسسات الأكاديمية ليس من المسائل العاجلة التي تنشغل بها الحكومات المؤقتة ذات الوظيفة التيسيرية للعاجل من الشأن العام العادي. والمهم أن ما بيناه من خاصية سلبية أولى يجعلنا نتساءل عن طبيعة التسمية وبصورة أدق طبيعة سندها القانوني فضلا عن سند الشرعية المعدوم.
لذلك فهذا التعيين المباشر لرئيس مجلس لم يتكون بعد لا يمكن أن يكون دالا على توجه نحو الديموقراطية حتى في ما هو من المفروض أن يكون أبعد الأشياء عن التوظيف السياسي فضلا عن وجاهة استغلاله السياسي إلا إذا كان القصد مجازاة له على سب الصحابة. والتعيين إذا كان ذلك قصده فهو من الغباء السياسي الذي يبث الفتنة في لحظة حرجة من لحظات تاريخ شعبنا: لكن بيت الحكمة ليس لها أدنى دور في التأثير على الرأي العام الداخلي ولا الخارجي خاصة إذا صارت مجمع من هم يستمدون سمعتهم من العدوان على قيم شعوبهم بزعم التحديث المستبد أو من بلغوا أرذل العمر فصاروا ثوارا لا يشق لهم غبار بعد أن كانوا في كهولتهم مشرفين على مؤسسة الزمر والطبل في أعياد ميلاد الرئيس الأسبق.
أما الأمر الأخطر الذي يمكن أن يشتم من هذا التعيين ودون محاكمة النوايا فهو أن المعين لعله اختير ليكون غربالا ومستشارا في اختيار أعضاء المجلس بحيث يعكس المجرى العادي لمثل هذه المهام فيصبح الرئيس هو الذي ينتخب الأعضاء الذين يرأسهم وليس العكس. وعلى كل فهذا أمر ما كنت أتصوره فابلا لأن يقع فيه الأستاذ عز الدين باش شاوش- الذي زاملته في بيت الحكمة سنوات طوال بوصفي مشرفا على قسم الترجمة لما كان هو رئيس بيت الحكمة.
لم يكن يخطر على بالي أن يقدم على مثل هذا التعيين خاصة بعد أن أصبح الرجل بوق دعاية لفريق معلومة نواياه في السعي إلى بث الفتنة وحرف الأنظار على المشاكل التي ينبغي العجيل بحلها لإخراج البلاد من الأزمات الخانقة. واستبعادي مثل هذا السلوك يأتي خاصة بعدما سمعته يقول خلال حديث دار قبيل افتتاح ندوة الغزالي أنه يفكر في تكوين المجلس العلمي بصورة جديرة بأن ترفع المنزلة الأكاديمية لبيت الحكمة.
وهذا الكلام على حد فهمي يعني أن ذلك سيكون بعد مشاورات موسعة مع أهل الذكر لتكوين أقسام المجلس واختبار أعضائها الذين ينتخبون رئيسا للمجلس. فلم أسمع عن حصول مثل ذلك-تسليما بأني لست من أهل ذكر حكومتنا بحكم تواصل أحكام العهد السابق المسبقة-أدى إلى تعيين رئيس مجلس لم يعين بعد. فهل ترى الأمر مفروضا عليه أم تراه هو بدوره ينسى المبادئ بمجرد أن يصبح وزيرا كالعادة في المجتمعات المتخلفة ؟
يؤسفني في الحالتين أن أقول إن الثوار قد يشعرون بأن الثورة لم تغير شيئا بل وبأنها ينبغي أن تستأنف إذا تواصل هذا الخور في إدارة الشأن العام كبيره وصغيره آملا ألا يعرض ذلك البلد إلى ما لا تحمد عقباه خاصة والتعيين هذا بالذات فيه استفزاز للشعب كله لأن الرجل المعين استمد هذا الحق ليس من العلم بل من الجهل في التعامل مع قيم الأمة في شكل بوق يدعو إلى الحرب الأهلية ليس في شكل بحث علمي يفصل بين ما يسميه كنط بالوظيفة العلمية وبالمشاركة في الفضاء العام.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: