(105) التجسس عن طريق التحليل النفسى لشخصيات الزعماء ورؤساء الدول
د - أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9934
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
اهتم الأمريكيون اهتماما كبيرا بدراسة شخصيات الزعماء ورؤساء الدول الأجانب. وأسندت هذه المهمة إلى وحدة خاصة من وحدات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية. تتكون هذه الوحدة من علماء نفس وأطباء نفسيين مهمتهم هى وضع "تصور تشخيصى" نفسى يعطى وصفا مختصرا لملامح شخصية ونفسية زعيم ما، أو رئيس دولة ما، وهو ما يعرف عادة بـ "البروفيل". الهدف من هذا " البروفيل " هو مساعدة صانعى القرار الأمريكي على فهم الكيفية التى يمكن أن يتصرف بها نظراؤهم فى قضية ما أو أزمة ما. يستخدم صانع القرار الأمريكى المعلومات المتوافرة عن الشخصية التى يتعامل معها بحيث تساعده فى تكتيكات التفاوض، أو المساومة، أو الاستمالة، أو التهديد، أو فى تحريك أزمة ما.
أولا : الفارق بين الدراسات التشخيصية والدراسات الاكلينيكية للشخصية :
يمزج المتخصصون فى تصميم هذا "التصور التشخيصىى" لشخصية ما بين علم النفس وعلم السياسة، ويشكلون منهما هجينا أو فنا يسمونه " نفسنة رؤساء الدول على بعد "، ويميزونه هنا عن الدراسة الإكلينيكية التى تحتاج إلى التعامل مع هذه الشخصية بصورة مباشرة. لا يلتقى مصمم هذا "التصور التشخيصى" بالشخصية التى يرسمها ولا يجرى على عقل هذه الشخصية دراسة تمكنه من فهم القلق أو الصراعات المكبوتة التى تجرى بداخله. إنما يفحص بعمق كتابات وملاحظات هذه الشخصية، ويعتمد على مصادر ثانوية تتعلق بحياته ومقابلاته مع أناس آخرين يعرفهم، ويبحث عن مفاتيح تكشف له عن اتجاهاته ودوافعه السلوكية.
ثانيا :النظريتان الأساسيتان حول الكيفية التى تعمل بها السياسة الدولية
هناك نظريتان تشرحان الكيفية التى تعمل بها السياسة الدولية. ترى النظرية الأولى وهى نظرية "الرجل العظيم" أن الشخصية القوية للرئيس هى المحرك لسياسته الدولية، وترى النظرية الثانية أن شخصية الرئيس ذات أهمية ثانوية إلى جانب العوامل الاستراتيجية والجغرافية والاقتصادية. ويرى الباحثون أن فهم السياسة الدولية فى ضوء أحد النظريتين غير مُجد، وأنه لا بد من الجمع بينهما. ففهم السياسة الدولية فى ضوء شخصية الرئيس لا يعطى صورة واضحة لهذه السياسة لأن الدوافع الشخصية قد تكون ثانوية فى معظم الحالات. كما أن النظرة إلى الرئيس على أنه صندوق أسود، وأن سياسة الدولة لا تفهم إلا وفق العوامل الموضوعية والمصالح القومية نظرة تتجاهل دور الشخصية الفردية للرئيس. ومن هنا عنى الباحثون بتوجيه اهتمام العلماء والأطباء النفسيين إلى أنهم قد يخظئون فى تحليلاتهم إذا أسقطوا من اعتباراتهم السياق الاستراتيجى والجغرافى والاقتصادى الذى يعمل الرئيس من خلاله.
ثالثا : تركيز معظم الدراسات على تحليل الشخصية
الواقع هو أن معظم تحليلات شخصيات رؤساء الدول وغيرهم تركزعلى شخصية الرئيس. وكانت الوقائع التاريخية تؤيد ذلك. فكان الأباطرة والجنرالات عبر القرون يحاولون معرفة مالذى يجرى فى عقول أعدائهم. يقول " نابليون" :" ليس هناك رجال محاربون فى القتال، إنما هو الرجل... ليس الجيش الرومانى هو الذى عبر نهر الروبيكون، إنه القيصر". كما أكد المؤرخون دوما على دور الشخصيات العظيمة فى إحداث التغيرات التاريخية. كما كان التركيز على الشخص يجد تأييدا عند الفلاسفة الأمريكيين مثل "رالف والدو إيمرسون " الذى كتب فى عام 1841 يقول : " إنه ليس من المناسب أن نقول أن هناك تاريخا، هناك فقط سيرة ذاتية ".
وفى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى وضع " هارولد لازويل" أبو علم النفس السياسى أساسا مهما فى التحليلات النفسية للزعماء والقادة، يقول " لازويل ": أن القادة السياسيين يسقطون حاجاتهم الشخصية على الحياة العامة، ويعطون عقلانية لأفعالهم على أساس ما يعرف بالخير العام. باختصار إن القادة يعكسون صراعاتهم اللاشعورية ورغباتهم الداخلية على الواقع الخارجى، وحتى فى الشئون الدولية ".
وهناك أمثلة عديدة لدور شخصيات القادة والزعماء ورؤساء الدول فى الشئون الدولية. هناك شخصية الزعيم الألمانى " هتلر". وشخصية " هوشى منه " وكذلك شخصية " كاسترو" و" جورباتشوف "، و"يلسن " وشخصيتى "السادات وبيجين "، و" صدام حسين " و"الخمينى " ". وفى أيامنا هذه لازالت شخصية زعيم كوريا الشمالية " كيم آل سونج " وشخصية ابنه " كيم جونج " تهددان باندلاع حرب نووية. لقد تركت هذه الشخصيات آثارا كبيرة وخطيرة على السياسة الدولية، ولهذا كانت دراستها ووضع تصورات تشخيصية لها على درجة كبيرة من الأهمية.
رابعا :أهمية تحليل شخصيات رؤساء الدول ذات النظام التسلطى
تزداد أهمية وضع تصورات تشخيصية لرؤساء الدول فى الأنظمة التسلطية بالنسبة للأمريكيين. فهم يرون أن البرلمانات ووسائل الاتصال الإخبارية والأحزاب السياسية كلها أبواق للرئيس، و أن الجيش هو ذراعه الأساس. أى أن شخصية الرئيس هنا محورية وذات تأثير قوى على سياسته الدولية. إن مزاج " فيدل كاسترو" على سبيل المثال يمكن أن يحدد أنه بإمكانه أن يحارب حربا شرسة إذا انهارت الشيوعية الكوبية. كما كانت عقلية " صدام حسين " تحدد إمكانية دخوله فى حرب مع جيرانه ومع العالم. وهناك على مستوى الاتحاد السوفياتى " فلاديمير شيرونوفسكى" المفرط فى الاعتزاز بالقومية والذى كان يتحدث كثيرا عن إذلاله الجنسى المبكر، فكان يعلن :" أن عصر الوهن السياسى قد انتهى " وهذا فى رأى المحللين الأمريكيين أمر يعوق ميل روسيا نحو الديموقراطية.
صمم الأمريكيون تصورا تشخيصيا لعقلية زعيم كوريا الشمالية " كيم سونج". فرأوا أن النظرة إليه رسميا تقوم على أساس أنه : المخلص، والأمل الأبدى، والأب المحب لكل الشعب، ونجم الخلاص والمجد، والشمس العظمى، والبطل القومى المنتصر دائما، والقائد الفولاذى العظيم.. وصفت "الواشنطن بوست"شخصية " كيم الإبن "قائد رابع أكبر جيش فى العالم بأنه رجل مدلل، وغير ناضج، يميل إلى الحفلات الصاخبة، وإلى العنف، والعلاقات الجنسية. قال مستشار الأمن القومى فى إدارة بوش " برنت سكوكروفت " حينما طلب قراءة التصور التشخيصى لـ " كيم الإبن " : "إنه رجل يحب ضرب النساء، ولا أرى فيه شخصية مكتملة الرجولة، ولهذا يحاول أن يثبت هذه الرجوله فى تعامله المتسم بالقسوة للجيش " تعنى هذه التحليلات النفسية للأمريكيين أنه حينما توضع حسابات الطبيعة النفسية لـ" كيم الإبن " فى الاعتبار، يتبين أنه شخص متهور، يمكن أن يصل بالأزمة النووية الحالية إلى حد الخطر ".
لكن هناك رأيا آخر يرى أن وكالة المخابرات يمكن أن تؤدى خدمة نفيسة لصانع القرار إذا كانت تصوراتها التشخيصية أكثر دقة ومتجاوزة الحدود الدعائية للزعيم الكورى، لأنه مثل هذه التصورات يمكن أن تؤدى إلى كارثة إذا لم تكن حساباتها دقيقة. ويرى أصحاب هذا الرأى أن سجل الوكالة فى هذا المجال ليس مشجعا.
والحقيقة هى أن هذه التصورات التشخيصية لم تصب نجاحا كاملا، كما لم تصب إخفاقا كاملا. وكما أثنى صانعوا القرار السياسى على بعضها، هاجمها آخرون بشدة.
خامسا : نتائج غريبة للتحليلات النفسية
مع ظهور التحليل النفسى لـ " سيجموند فرويد " تولد بُعد جديد للـ " بيوجرافيا " أو السيرة الذاتية " تتمثل فيما يعرف بـ "البيوجرافيا النفسية " وتعنى فهم ما يجرى فى عقل شخص ما من خلال دوافعه اللاشعورية، ورغباته، وصراعاته الداخلية. وقد دشن " فرويد " بداية هذا المولود الجديد فى دراسة له عام 1932 عن الفنان "ليوناردو دى فينشى". كما اشترك "فرويد" مع آخرين فى عام 1932 فى تأليف مجلد عن "وودرو ولسون ". لكن نتائج هذه التحليلات بدت مرتكزة على بيانات تأملية وهزيلة بشدة. كما كانت بعض نتائج الجهود الأولى فى التحليل النفسى للشخصيات التاريخية غريبة.. فى عام 1913 قام المحلل النفسى "هانز شاس" بتفسير حلم رجل الدولة الألمانى " أوتو فون بسمارك" وتوصل إلى نتيجة مؤداها : أن وراء رغبات بسمارك فى هزيمة النمسا تحقيق وحدة ألمانيا خيالات عن انتصارات شهوانية، وممارسة العادة السرية فى الطفولة وهذه نتائج يراها الباحثون غريبة.
سادسا : تحليل شخصية الزعيم الألمانى " أدولف هتلر " :
سيطر التحليل النفسى الفرويدى على العلماء والأطباء النفسيين فى الولايات المتحدة بعد تدفق المهاجرين النمساويين والألمان إليها. وكانت شخصية " أدولف هتلر" هى الشخصية التى استخدم فى دراستها البعد الفرويدى الجديد. وفى عام 1942 أصدر وايلد بل دوفان" رئيس مكتب الخدمات الاستراتيجية فى زمن الحرب OSS التابع لوكالة المخابرات أمرا سريا بدراسة شخصية " هتلر". كان الباحث الرئيس فى جماعة الدراسة هو المحلل النفسى " والتر لانجلر". وصدرت نتيجة هذه الدراسة فى عام 1972 بعد أن أزيلت منه صفة السرية تحت عنوان " عقل أدولف هتلر".
توصل "لانجر" إلى أن "هتلر" كان "سيكوباتيا عصابيا". ( بمعنى أنه شخص منحرف عن السلوك السوى، وسلوكياته مضادة للمجتمع وخارجة عن قيمه ومعاييره، ومثله العليا ). أعاد "لانجلر" النظر بصورة شاملة فى المعلومات الخاصة بـ "هتلر"، كما أجرى مقابلات مع الذين قابلوا " هتلر" شخصيا.أجريت الدراسة فى زمن الحرب ووفق فترة زمنية محددة. وهى لا تعكس بالطبع التطورات المتلاحقة التى حدثت فى علم النفس، كما أنها لا تضم تفاصيلا عن هذا الجمع الهائل من الوثائق حول "هتلر". ورغم هذا القصور فى الدراسة فقد كانت أشبه بكنز ثمين يتضمن تفصيلات وتحليلات حول شخصية " هتلر" وبعض التنبؤات الدقيقة عنه. بينت الدراسة أنه كلما تعرضت ألمانيا لهزائم متلاحقة زادت عصبية "هتلر"، وكانت كل هزيمة له تفقده ثقته بنفسه أكثر وأكثر. كان "هتلر" يشعر بأنه غير محصن، وكان يخشى من هجوم رفقائه عليه، وكان هذا سببا فى شدة غضبه، فكان يحاول تعويضه بالشدة والقسوة المتزايدة. ورأى الباحثون أن "لانجر" كان مصيبا فى اعتقاده بأن " هتلر" سوف ينتحر، لكنه لم يكن هناك من دليل على أن " روزفلت " وكبار القادة قد قرأوا تقرير "لانجلر".
سابعا : تحليل شخصية نيكيتا " خروشوف "
شجعت دراسة "لانجر" وكالة المخابرات على الإشراف على تقويمات نفسية عرضية خلال الخمسينيات والستينيات. كان أكثرها تأثيرا هو هذا التحليل الذى أجرى على شخصية " نيكيتا خروشوف" زعيم الاتحاد السوفياتى الأسبق. كان الرئيس "جون كيندى" مستغرقا فى قراءة "بروفيل خروشوف" قبل لقاء القمة معه فى فيينا. وكما يصف المؤرخ" مايكل بيشلوس" فى مؤلفه "سنوات الأزمة" أن الـوكالة حذرت "كيندى" من أن القائد السوفييتى قد يحاول تضليله. وصف التصور التشخيصى "خروشوف " بأنه ممثل لاذع، لايمكن كبح جماحه، يوضح وجهات نظره بنوع خاص من الدعابة الكبيرة، وهو فى نفس الوقت مقامر ومراوغ وخبير فى العديد من أوجه الخداع. ولكن النقاد يرون أن الدراسة أغفلت الجانب الآخر من شخصية "خروشوف " الهامة، وهو أنه الإصلاحى الذى أنهى الستالينية وبدأ فى انفتاح الاتحاد السوفياتى على العالم الخارجى.
ثامنا : إعجاب الرئيس " كيندى " بالتصورات التشخيصية
كان الرئيس " جون كيندى " قارئا شرها للتصورات التشخيصية لرؤساء الدول. ويقول الخبراء فى ذلك :" عرف رجالات الوكالة ان اهتمامات الرئيس منصبة حول الأسرار الجنسية للقادة الأجانب، وجذب اهتمامه بصفة خاصة حادثة إطلاق رئيس البرازيل "جوا جولارت" النار على عشيق زوجته حتى الموت.
تاسعا : التصور التشخيصى لـشخصيتى "السادات و بيجن "
هناك تصورات تشخيصية نفسية تقليدية برزت فى سنوات "كارتر".ثَمَّن "كارتر" فى مذكراته هذه التحليلات التى أجريت على الرئيس المصرى " أنور السادات " ورئيس الوزراء الاسرائيلى "مناحم بيجين" التى ساعدته فى الاعداد لمهمته التاريخية فى الوساطة فى محادثات السلام فى كامب دافيد عام 1978. ظلت هذه التصورات التشخيصية النفسية سرية حتى بعد وفاة أصحابها. يقول "وليم كاندر" أن بروفيل "بيجين" ركز على حدته الشخصية، وركز كذلك على رغبته غير المشكوك فيها فى الوصول إلى تسوية لقضايا بعيدة عن المحور الإيديولوجى. ولهذا كان الوصول إلى تسوية بخصوص سيناء التى تحتلها إسرائيل أمرا ممكنا، أما الضفة الغربية فلا. استرجع "كندر" عند إعداده لبروفيل "بيجين" اشارة تدل على مرونته حتى فى الأوقات العصيبة، تمثلت هذه القصة فى جرأته حينما كان قائدا لعصابة الأورجون الصهيونية. أصر "بيجين" أن يكون آخر من يترك السفينة الحربية "آلتالينا" التى اشتعلت بنيران اسرائيلية، ولكنه وافق بعد ذلك على مغادرتها بإلقاء نفسه منها إلى البحر.
كانت مجموعة الباحثين الذين وضعوا التصورات التشخيصية للسادات وبيجن مجموعة غير معروفة كثيرا، لكنها مجموعة أنشأتها الوكالة فى أواخر الستينيات تحمل إسم "مركز تحليل الشخصية والسلوك السياسى"، وعرفت أخيرا بمركز علم النفس السياسى، وأنشئت خصيصا لتصميم تصورات تشخيصية لخدمة صانعى القرار.أسس المركز وأشرف عليه " جيرولد بوست" الطبيب النفسى المدرب فى جامعتى ييل وهارفارد الذى حصل على تدريب متقدم آخر فى مدرسة "جونز هوبكنز" فى الدراسات الدولية المتقدمة. كان "بوست " هو الذى ألف وأدار التصورات التشخيصية لمباحثات "كامب دافيد". يعمل "بوست" الآن أستاذا ومديرا لبرنامج علم النفس السياسى فى جامعة جورج تاون.. قضى " بوست " واحدا وعشرين عاما فى الحكومة يعمل فى تخصصه بجد واجتهاد. أدخل " بوست" المنهج التكاملى فى تحليلات القيادة جمع فيه بين الأطباء النفسيين، وعلماء النفس، وعلماء السياسة والمتخصصون، فى الثقافة وعلم الأنثروبولوجيا.
اكتسبت التصورات التشخيصية التى أشرف عليها " بوست" سمعة خاصة فى أنها مسلية وليست جافة كتلك التحليلات الأخرى الخاصة بالوكالة. وقد وصلت هذه التصورات التشخيصية إلى المستويات العليا فى الدولة. وعرف المعمل الذى يعمل فيه "بوست" داخل أروقة وكالة المخابرات بأنه " معمل السحر"، وكان ينظر الى "بوست" نفسه على انه ملاكم بيروقراطى عنيف، يعمل على تطوير مهنته. وطبقا لما يقول المدير الأسبق للـوكالة "ستانسفيلد تيرنر" بأن التصورات التشخيصية لـ" بوست " عن السادات – بيجن أسعدت كارتر، وهذا مما شجعه أن يطلب استمرار هذا العمل.
حادى عشر : إسهامات " بوست" التاريخية
كان " بوست " موضع تقدير لأنه مدخله فى دراسات القيادة كان أكثر جدية. كما أنه أشرف على العديد من الدراسات على حالات فردية بصورة مكثقة، وحاول أن يكشف الغطاء عن الديناميات النفسية للقائد أو الرئيس الذى يعمل فى بيئة سياسية، كما كان مهتما بدراسة سلوكه وأشكال تفاعلاته، ورغباته، وحاجاته الشعورية واللاشعورية. هذا إلى جانب تركيزه على دراسة تاريخ الشخص، والاحداث الرئيسة التى عاشها فى طفولته وما وراءها. ولهذا فإن "بوست" أكد على أهمية الحصول على معلومات كافية حوال السنوات التشكيلية الاولى للقائد أو الرئيس، مؤمنا بأهمية هذه المعلومات، ذلك لأن الهوية السياسية للشخص تتكون عادة فى مرحلة المراهقة.
كان "بوست " يعيد النظر فى أحاديث القائد أو الرئيس، وملاحظاته، وكتاباته وقيمه. و حاول أن يحدد أهم العوامل التى تحدد استجاباته. كما كان يرسم خريطة لأفعال القائد عبر الزمن : كيف كان القائد يتصرف فى الأزمات الماضية ؟ هل كان سلبيا ؟ أم كان متهورا ؟ ماهو رد فعله فى المواقف الضاغطة ؟ ماهى دوافعه الأساسية للحفاظ على السلطة ؟ هل يريد القائد أو الرئيس أن يضع بصمة لنفسه فى سجل التاريخ ؟ هل يريد أن يكون محبوبا أو معبودا عند الناس ؟. كان " بوست" يرى أن الهدف هو تحديد اتجاهات وليس وضع تنبؤات. يقول "بوست" أنك يمكن أن تجمع معلومات ضخمة عن شخصية ما بحيث تجد نفسك قد دخلت فى عقل هذه الشخصية.
ثانى عشر : "بوست" والتحليل النفسى لشخصية "صدام حسين"
تعرض ما عرف بـ "مركز علم النفس السياسى " فى وكالة المخابرات الأمريكية أو "معمل السحر" المشار إليه سابقا لظروف صعبة أدت إلى إغلاقه والاستغناء عن بعض باحثيه وتقليص ميزانيته، وتحويل مهامه إلى وحدات أخرى، مما أدى إلى تأثر " بوست" بما جرى تأثرا شديدا. لكنه على الرغم من أن "بوست" لم يستطع أن يناقش تقاريره السرية منذ مغادرته الحكومة فى عام 1986، فإنه كان قد درس شخصيات مثل " ميخائيل جورباتشوف، وبوريس يلتسن، وسلوبودان ميلوسوفيك، وفيدل كاسترو"، لكن التصور التشخيصى الذى وضعه لـ "صدام حسين" خلال أزمة الخليج كان أكثر التشخيصات جذبا للاهتمام العام، ولم يكن لهذا الاهتمام نظيرا منذ الاهتمام بالبروفيل الخاص بالزعيم الألمانى "هتلر". جذبت شخصية "صدام حسين " تخيلات الأمريكيين الذين رأوا أن تهديداته مشابهة لتلك التى كانت لـ"هتلر"، ونظروا إليه على أنه الدكتاتور الشرير. وكانت المادة الخاصة بصدام مكثقة فى وسائل الإعلام. قدم "بوست" تصوراته عن "صدام" فى شهادة له أمام الكونجرس. وكانت هذه الشهادة سببا فى تشجيع صانعى القرار على منح السلطة لادارة بوش فى استخدام القوة ضد العراق.
وقد كانت وكالة مخابرات الدفاع DIA قد صممت تصورا تشخيصيا عن " صدام حسين" احتفظت به الـ CIA كنسخة سرية.عهد إلى وكالة مخابرات الدفاع مهمة الوقوف على القدرات والمقاصد العسكرية العراقية. وقبل يومين من إرسال صدام قواته على حدود الكويت، قال " والتر لانج " أقدم المحللين النفسيين المدنيين فى مخابرات الدفاع عن شئون الشرق الأوسط لرؤسائه :" أن صدام جمع قوات بأكثر مما يحتاج إليها لتخويف الكويت ". كما جاء فى تقارير " بوب وودوارد" " أنا نظرت إلى بروفيل شخصية "صدام" فوجدت " أنه لا يعرف كيف يخدع..ولا تبين أنماط سلوكيات السابقة ذلك ". وبعد الغزو قدم "بوست" بروفيله عن صدام أمام مستمعيه من وكالة مخابرات الدفاع مؤكدا أن " صدام "يمكن ان يغير رأيه. قدم "بوست" وصفا متقنا عن "صدام".قال فيه أنه يعانى من نرجسية شديدة " وهى اختلال خطير فى الشخصية، سمتها مبالغة متشددة، وقسوة سادية (حب التعذيب والسيطرة والتحكم وإذلال الآخر) وافتقاد كامل للندم.كان صدام غارقا تماما فى ربط نفسه مع " بختنصر" الملك البابلى الذى دخل القدس، ومع صلاح الدين الذى أخرج الصليبيين من القدس فى 1110، ومع "جمال عبد الناصر" الذى أخرج البريطانيين من مصر. لقد نجح " خيرالله" عم "صدام" فى تشريبه منذ صغره كراهية الأجانب والايديولوجية البعثية الانتقامية للقومية العربية. وصف "بوست" صدام بالقسوة وبسيطرة أحلام توحيد العرب تحت لوائه." لكنه اعترف بأن " صدام " لم يكن رجلا مجنونا، وحكم عليه بأنه كان متسقا نفسيا مع الواقع ولكنه سياسيا كان بعيدا عن الواقع. وأبدى "صدام" توافقا مدهشا عند الضرورة. خالف نفسه على سبيل المثال عندما انسحب من المناطق الايرانية التى احتلها ووافق على مشاركة مياه شط العرب المتنازع عليها مع ايران....إن "صدام" سوف ينسحب فقط من الكويت اذا كان الانسحاب مشرفا ومحافظا على قواته ". تجنب "بوست" التنبؤات الحادة حول الكيفية التى تنتهى بها الأزمة. وقال : ان مواقف "صدام" المعاكسة هى التى تصدم القارئ. رأى الكثيرون أن بروفيل "بوست" يقوى الاعتقاد بأن " صدام " يمكن أن يتنازل عن موقفه فى اللحظة الأخيرة. لكنه لم يفعل ذلك. قال المسئولون فى إدارة بوش السابقة :" أن حسهم الباطنى هو أن "صدام" لن يتراجع تماما، ولكن بالأحرى سوف ينسحب انسحابا جزئيا بحيث يخترق تجمع الحلفاء ضده ". وكان رأى "سكاوكروفت " كما جاء فى مذكراته بأنه :" ليست واحدة من التصورات التشخيصية لصدام تتسق مع شخصيته " ولهذا فإن " جورج بوش" كما يرى "بوست" استبعد أن يغادر " صدام" الكويت حفاظا على ماء وجهه، وأنه لن ينسحب إلا مجبرا ومصابا بالخزى ".
ثالث عشر :" بوست " والتحليل النفسى لشخصية " بوريس يلتسن "
تتبع " بوست" تاريخ الزعيم الروسى "بوريس يلستن " منذ الطفولة، فقال :" كان " يلتسن" يعرف نفسه عبر هؤلاء الذين يعارضونه " و يؤكد "بوست" أنه قد وجد هذه السمة عند " يلتسن" عبر تحليله لسيرته الذاتية...وأنه أى " يلتسن "رجل متعجرف لا يطيق معارضة أحد له، وينظر إلى متحديه على أنهم أغبياء. كما ظهر اتجاهه التسلطى بصورة واضحة فى مواجهته الدموية لمعارضيه فى البرلمان الروسى".
انتقد " روبرت جيتس " المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية ووزير الدفاع الحالى التصورات التشخيصية بقوله :" ان محاولة تشخيص حالة شخص ما يبعد عنك خمسة آلاف ميل والذى لم تره أبدا لا يعطك الإحساس بالثقة فى هذه المحاولة".....انه ليس من الأخلاقى أن تقدم رأيا اكلينيكيا على الملأ إذا لم يكن الطبيب النفسى قد فحص الشخص وحصل على تصريح بذلك ".
خامس عشر : رد " بوست " على انتقادات "روبرت جيتس"
حاول " بوست" أن يرد على الانتقادات الموجهة إلى التصورات التشخيصية النفسية من أن نتائجها قد لا تكون صحيحة لآن التفاعل مع الشخصية موضع التحليل يفتقد إلى الاتصال الشخصى. يقول " بوست" أن ذلك ميزة وليس عيبا. ذلك لأن الاتصال الشخصى قد لا يحقق التوازن فى التحليل. فالمحلل النفسى حتى لو كان مدربا فإنه يمكن أن ينخدع بالجاذبية المظهرية، والخداع المحسوب للسياسى المتمرس. ومن غير المحتمل أن تعطى المقابلات مع مثل هذه الشخصية اضواء هامة على شخصية الرئيس. علاوة على ذلك فإن الاتصالات الشخصية فى فترة ما من حياة الرئيس قد تكون مخادعة فى فهم شخصيته فيما بعد. ولهذا يرى "بوست" وزميله السابق "هويتاكر " أن المقابلات المكثقة مع الرؤساء المعروفين يمكن ان تقلل من التحيزات، كما تمكن هذه المقابلات المكثفة من فهم نمط شخصية الرئيس.
سادس عشر : الثورة على منهج " بوست" وظهور منهج " اللسانيات النفسية "
من المعروف أن "بوست" هو الأب المؤسس ورائد البروفيل النفسى الحديث. لكن علماء نفس أكاديميين آخرين من المتعاقدين مع الحكومة الأمريكية، تحدوا منهجية " بوست" وقاموا بتصمميم تصورات تشخيصية سرية جديدة دون الاعتماد على الديناميات النفسية القائمة على اكلينيكية " بوست. لم يهتموا كثيرا بالبحث فى جذور سلوكيات الشخصية المبحوثة. تركز اهتمامهم على ما يعرف بـمنهج " اللسانيات النفسية " الذى يعنى بالفحص الدقيق لما يصدر من الشخصية من بيانات شفهية ومكتوبة فى محاولة لوضع خريطة عن عقل هذه الشخصية. رأى المدافعون عن هذا المنهج الجديد أنه أكثر موضوعية وتنظيما عن البيوجرافيا النفسية " عند بوست ".
اعتمد المتخصصون فى "اللسانيات النفسية "على التركيز على الخطابات الحديثة التى يدلى بها الرؤساء الأجانب وكذلك لقاءاتهم مع غيرهم، وكانوا يستخدمون دليلا كوديا مشتقا من علم النفس التجريبى للحصول على معلومات أو إعداد بيانات عن الشخصية موضع الدراسة. يعتمد منهج "اللسانيات النفسية " على الكم بصفة كبيرة. يقول أحد رواد هذا المنهج وهو "دافيد وينتر" من جامعة ميتشجان. " أيا كانت اطباعاتنا عن الشخص، نحن نذهب إلى الأرقام، وبعد أن نحصى بيانات القائد فاننا نقارنها ببيانات عشوائية من القادة العالميين من الثقافات المختلفة والانظمة السياسية المختلفة. رتب "وينتر" القادة وفق تصورات بلاغية من ثلاثة عوامل هى : الانجاز، والقوة، والانتماء. ويمكن عن طريقها وضع تنبؤات مشروطة حول الأفعال المستقبلية للشخصية. على سبيل المثال، يحاول واضع التصور أن يقيس ميل القائد إلى العنف ضد بلد آخر بتحديد ما اذا كان دافع القوة يرتفع أو لا يرتفع خلال خطاباته. طبق " وينتر" هذا المنهج على اثنين وعشرين من رؤساء جنوب افريقيا واعضاء مجلس الوزراء، وقادة حرب العصابات فى دراسة أجريت لصالح الحكومة الأمريكية.
سابع عشر : تطبيق منهج "اللسانيات النفسية" على "الخمينى " و"رافسنجانى"
استخدمت الحكومة منهج " اللسانيات النفسية " لمحاولة التنبؤ بمن سيخلف الخمينى الحاكم الأعلى فى إيران. يقول "والتر وينتروب" الطبيب النفسى بجامعة ميريلاند الذى كان قد خدم كمستشار لوكالة المخابرات : " هناك تصورات تشخيصية نفسية عديدة استخدمت انواعا مختلفة من تحليل المضمون، كلها استنتجت أن الذى سيخلف الخمينىى هو "هاشمى رافسنجانى". أشارت بيانات " رافسنجانى" إلى تمتعه بقدرة عالية على استمالة الجماعات الايرانية المختلفة بالمقارنة مع منافسيه. كما أظهر "رافسنجانى " ايضا قدرا اعظم من الثقة والاستقلالية كما ظهر فى استخدامه المستمر للضمائر الشخصية " أنا" ورغبته فى اعطاء تعليقات تلقائية.
ثامن عشر : تطبيق منهج اللسانيات النفسية على" دى كليرك " رئيس جنوب أفريقيا الأسبق
استخدم " وينتروب " منهج "اللسانيات النفسية " لمعرفة ما إذا كان رئيس جنوب أفريقيا الأسبق " دبليو دى كليرك " سيلتزم بإصلاحاته فى إلغاء التمييز العنصرى أم لا. وكشف التحليل الدقيق للبيانات وفق هذا المنهج تكلفا وانحرافا محدودين فى أنماط أحاديث " كليرك ". كما تبين أيضا أن أهدافه الاصلاحية لم تكن متهورة وكانت جدية بدرجة عالية. يقول " وينتروب": " أن أحد إشارات ذلك هى الميل العالى لاستخدام حروف او استدراكات متزامنة مثل و" لكن" " و" مع ذلك " و"على العكس من ذلك".
تاسع عشر : التصورات التشخيصية النفسية بين الثناء القليل والقدح الكثير
الواقع هو أن بعض الرؤساء الأمريكيين كانوا يعتمدون بصورة روتينية على التصورات التشخيصية النفسية لنظرائهم من الرؤساء قبل الالتقاء بهم. من هؤلاء الرؤساء "جيمى كارتر" الذى ازداد ولعه بها بعد معاهدة كامب دافيد، وكذلك النجم السينمائى السابق " رونالد ريجان " الذى كان يشاهد منها ما يخص "جورباتشوف " و"بيجن " فى شكل فيديو وعلى أنغام موسيقى مزاجية. ويقول " فرانك كارلوسى" مستشار الأمن القومى السابق ووزير الدفاع السابق عنها " انها تصنع افضل قراءة لأى شيئ "، كان السياسيون يريدون بصفة عامة أن يعرفوا عن معارضيهم كل شيئ، ووصفها البعض بأنها أشبه بالطعام الشهى المحاط بالقيل والقال.
ويرى الباحثون أن صانعى القرار هم أقل الناس أهتماما بالتفاصيل الدقيقة عما تكشفه تقارير التصورات التشخيصية النفسية للرؤساء. إنهم يريدون فقط معرفة كيف سيتصرف الرؤساء فى أزمة ما، وماهى الدوافع التى تقودهم فى المفاوضات. يريد أن يعرف المسئولون من هؤلاء الذين يتعاملون معهم. لقد كشفت النقاشات السابقة مع المسئولين أنهم يشكون بشدة فيما قرأوه منها، كما يشكون فى فائدتها ودرجة صدقها. ويرون أن اسهاماتها فى صوغ السياسة ليست متواضعة فقط بل هامشية.
كما ازدادت حدة الانتقادات التى وجهت إلى التصورات اتشخيصية النفسية. هذا " بيتر رودمان" المساعد الأسبق لوكالة المخابرات يقول :" أن هذه التصورات التشخيصية مسلية لكنها غير دقيقة بحيث لا يمكن أن تكون اساسا لعمل ما ".
يقول المسئولون فى إدارة "بوش" السابقة أنها لم تكن مفيدة وهى أشبه بنتائج اختبار " رورشاخ " ( بقع الحبر) التى يمكن أن يفسرها القراء بأى طريقة يختارونها. أما الرسميون المعاصرون على اختلافهم فيصفونها بأنها عامة جدا وبيروقراطية جدا ومليئة بالتحذيرات و بالثرثرة.
من بين الانتقادات التى وجهت إلى التصورات التشخيصية النفسية أنها تعطى صاحب القرار إحساسا متضخما عن الشخصية التى يقرأ عنها، وتجعله يهتم بمسائل شخصية، ويهمل عوامل أساسية على المستوى السياسى والاستراتيجى. كما اتهم نقاد آخرون هذه التصورات بأنها تثمن بدرجة كبيرة العوامل الفردية وتقلل من أهمية المتغيرات الموقفية، وبالتالى لا تضع فى حسبانها أن الشخصية محل البحث يمكن أن تذعن للحركات الأمريكية دون الحاجة للتنبؤ.
ومن أهم الانتقادات التى وجهت لهذه التصورات التشخيصية النفسية أنها تعانى من مشكلة التحيز الثقافى. إذ كيف يمكن لعالم أوطبيب نفسى غربى أن يطبق نماذجه على شخصيات تنتمى إلى ثقافات غير غربية. ولهذا كان " فاميك فولكان" الطبيب النفسى بجامعة فيرجينيا الذى ألف عن البيوجرافيا النفسية لـ" كمال أتاتورك " يشك فى أن سمات "صدام حسين" التى حددها " بوست " وقال فيها أن القول بأن
صدام " يعانى من "نرجسية شديدة " قد يكون صحيحا، لكنه أى " بوست" لم يكن حذرا فى أن هذه السمة قد تمتد إلى الثقافة العربية فتبدو وكأنها نرجسية.
كان الذين يقرأون التصورات التشخيصية يعانون من ضغوط كثيرة حينما يكون الأمر متعلقا بتغيير فى السياسة. ووجد "جيتس" أن الاستدلالات النفسية لهذه التصورات ذات استخدام قليل بالنسبة لصانعى القرار.
عشرون : أمثلة على بعض النماذج التى أثارت فيها تقارير جهاز المخابرات انتقادات حادة.
1- حالة الزعيم الهاييتى " جان بيرتراند آرستيد".
فى العشرين من شهر أكتوبر 1993وصلت مذكرة من إدارة المخابرات المركزية الأمريكية إلى الكونجرس الأمريكى تحتوى على تصور مقلق عن رئيس هاييتى المبعد "جان بيرتراند أرستيد". زعمت المذكرة أن تاريخ "أرستيد" بين أنه كان يعانى من مرض عقلى وكان عرضة لاكتئاب جنونى وميل إلى العنف وأنه كان قد تلقى علاجا طبيا نفسيا فى مستشفى مونتريال فى عام 1980. فى نفس اليوم توجه السناتور "جيللى هيلمز" ممثل نورث كالورينا الذى كان قد طلب المذكرة ليعلن أن "آستيد" شخص سيكوباتى مضطرب العقل.
أنكر"آستيد" التقرير الذى جاء بخصوصه ووجه الرئيس "بيل كلينتون" ونائبه " آل جور" توبيخا فوق العادة للوكالة.. وصف " كلينتون " و "آل جور" دراسة الوكالة بأنها غيرموثقة ومبنية على معلومات قديمة وتتناقض مع سجل "آستيد" كرئيس. وقال " كلينتون" أن تقرير الـوكالة فشل فى أن يقف على حقيقة أن "آرستيد" كانت له اتصالات مكثفة مع المسئولين الأمريكيين فى واشنطن التى عاش فيها لمدة عامين. وقال:" أنا لا أوافق مع الاستنتاج الذى رسم حوله وأرى أنهم وضعوه على أدلة غير كافية ".
التصور الذى وضعته الـوكالة عن " آرستيد " أدى إلى تشويه سمعتها إلى درجة بعيدة. قالت صحيفة "النيويورك تايمز " : "انها اكتشفت أن الـوكالة كانت تدفع لقادة الانقلاب العسكرى وهم أعداء لـ"آرستيد" للحصول على معلومات. وتبين للوكالة فيما بعد أن تقريرها عن "آرستيد" قد شوهته علاقتها بمعارضيه الذين أطاحوا به. كما نشرت صحيفة " ميامى هيرالد " بعد ذلك تقريرا فندت فيه مزاعم خضوع "آرستيد" للعلاج الطبى النفسى فى كندا بعد أن حصلت على تصريح منه لمراجعة سجلاته الطبية. يقول " صمويل لويس" رئيس فرع تخطيط السياسات فى وزارة الخارجية :"كان يجب على الـوكالة أن تراجع المزاعم التى ادعتها عن حالة " آستيد" العقلية....إن الوكالة لم تبذل أية جهود فى مقابلة الناس الين كانوا قد تقابلوا مع "آرستيد" عبر السنتين الماضيتين الأخيرتين. لقد وضع المسئولون فى الـوكالة رأيا محددا عنه وأنا أعتقد أنهم شعروا بأنه ليست هناك حاجة لإثباته. لقد كانت تصورات الـوكالة سطحية فى حقيقتها ومكثقة فى تأملاتها. لقد كانت أقرب إلى اغتيال شخصية أكثر منها تحليل لشخصية ".
عندما تسربت الأنباء عن الاستقرار العقلى لـ " آرستيد "، فتحت الطريق للعديد من التساؤلات عن هذا اللغز وحقل البحث السرى المسمى بـ " البروفيل النفسى" . كان علماء النفس والأطباء النفسيون العاملون فى وكالة المخابرات المركزية يجرون العديد من الدراسات على شخصيات رؤساء الدول الأجنبية التى تهون كثيرا من شأنهم. كانت نتائج دراساتهم مصنفة على أنها سرية وكانت الوكالة تمنع باحثيها من مناقشة أعمالهم على الملأ.. ومع ذلك فإن العشرات من اللقاءات مع العديد من صانعى السياسة والرسميين من رجال المخابرات أكدت أن مشروع التصورات التشخصية النفسية الحكومية والأكاديمية يحتاج إلى مراجعة. وأن هذا المشروع مشكلة فى حد ذاته. وقال "روبرت باستر": الباحث المتخصص فى شئون أمريكا اللاتينية :" إن المشكلة ليست مشكلة "آرستيد" وحده.. لقد كنت أحاول مراجعة المعلومات البيوجرافية بطرق غير مباشرة، وتبين لى أن أكثر من نصفها خاطئ.إن وكالة المخابرت قد تقف جامدة أمام معلومات تتعلق بما إذا كانت الشخصية موضع البحث متعلمة أم لا، وما إذا كان صاحبها متزوجا وله أطفال أم لا "
لقد دمرت حالة " آستيد " سمعة المشروع فى الإدارة الأمريكية والكونجرس. وكانت النتيجة هى نقل موظفى هذا المشروع إلى وحدات أخرى كما خفضت ميزانية المشروع، وازدادت الشكوك حول فائدة التصورات التشخيصية النفسية ومدى دقتها فى تحليل الشخصية. قال أحد كبار موظفى المخابرات الذى طلب عدم ذكر اسمه حديثا :" أن هذا المشروع يعد من أضعف وسائل التحليل لشخصيات الرؤساء ، وأنا لا أثق فيه كثيرا ".
2- حالة "اليسبرج" موظف الوكالة
ساءت سمعة وكالة المخابرات المركزية فى أوائل السبعينيات بسبب التصورات التشخيصية التى قامت بها. طلبت وحدة فى البيت الأبيض فى عهد ادارة " نيكسون " من مكتب الخدمات الطبية أن يعد تقويما نفسيا سريا عن "دانييل إليسبرج" الموظف فى مجلس الأمن القومى الأسبق NSC لأنه سرب أوراقا تخص البنتاجون عن جذور تورط الولايات المتحدة فى فيتنام. وافقت الوكالة على هذه المهمة بالرغم من أن هناك حظرا على أن تتدخل فى أمور داخلية تخص الوكالة ذاتها. كانت الحملة فى اتهام "إليسبرج" تسير فى طريقها بدون دليل. انتقد البيت الأبيض التصور التشخيصى الأول الذى أعدته الـوكالة عن "إليسبرج" ووصفته بأنه سطحى ومربك وغير كاف. كما قال " إليسبرج" نفسه : "أن تقارير الوكالة هنه كانت خاطئة وأنها أساءت فهم أحداث هامة فى حياته، وكررت أخطاء ظهرت فى الصحف استخدمتها الوكالة فى كتابة تقريرها عنه ".
3- حالة "شاه إيران"
كانت هناك أخطاء واضحة فى تقرير الوكالة عن "شاه إيران" الذى أجرى فى السبعينيات. كلفت الحكومة عالم النفس الأمريكى والأستاذ فى جامعة كولومبيا " روبرت جيرفتز" بإجراء دراسة تكشف عن الأسباب التى أدت إلى إغفال الوكالة الإشارات الدالة على سقوط الشاه ؟. ولما روجعت تحليلات " بوست" وتصوراته الشخصية وجد أنه أغفل نقطة هامة وهى تردد الشاه وعدم إحساسه بالأمن، وعدم رغبته فى نفس الوقت فى تعبئة قوة كبيرة لإخماد الثورة. كما أغفلت الوكالة التأثير النفسى لإصابة الشاه بمرض السرطان الذى أخفاه عن الآخرين، وكان يتلقى بسببه علاجا كيماويا فى دولة حليفه له وهى "الولايات المتحدة". كل هذه العوامل تسببت مع أشياء أخرى فى إضعاف قرار الشاه أن يبقى مكانه.
4- انتقاد " جيتس " لرأى الوكالة فى تحليلها القاصر لشخصية "الخمينى"
يقول " جيتس " أن التصور التشخيصى لـ" الخمينى" اظهر انه رجل اصولى دينى. والواقع هو أن الخمينى له " أجندة سياسية " والذى يمكن فهمه فى ضوء هذه الأجندة أن الذى كان يحركه هو الدافع الطائفى الشيعى.
5- انتقاد التصور التشخيصى للوكالة عن "ليونيد بريجنيف"
صور تقرير الوكالة الذى خصصته لتحليل شخصية "ليونيد بريجنيف" سكرتير الحزب الشيوعى السوفياتى والذى ركز على سنوات حياته الوسطى على أنه " مهرج". لكن مستشار الأمن القومى فى عهد إدارة "فورد" قال : " أنه قابل " بريجينيف " فوجده رجلا ماهرا وذو إراده على عكس ما جاء فى تقرير الوكالة.
6- حالة " هوشى منه"
غالى التقرير الذى كتبته الوكالة فى حقبة الخمسينات فى تبنى "هوشىى منه " قائد فيتنام الشمالية للفلسفة الماركسية وأساء فهم غيرته القومية. يقول " بيل كورسون " - الذى عين فى وحدة العمليات الخاصة للوكالة – فى مذكراته : "أن أحاديث "هوشى منه " تبين أنه كان كان مشدودا الى اعادة توحيد فيتنام وتحريرها من السيطرة الأجنبية. ولكن التصور التشخيصى للوكالة كان يرفض ذلك وينظر إليه على انه شيوعى من الدرجة الأولى".
7- انتقاد "جورج شولتز "لتقرير الوكالة عن الوزير السوفياتى "تيكنوهوف"
انتقد " جورج هولتز" وزير الخارجية الأمريكى الأسبق أخطاء التصورات التشخيصية للوكالة. قال "شولتز" فى مذكراته :" صورت الوكالة الوزير السوفياتى " نيكولاى تيكنوهوف" على أنه رجل عجوز ترتعش أطرافه بحكم المرض ويشغل منصبا مرموقا بلا قدرة على الفعل، لكننى عندما قابلته بالسفارة السوفياتية بنيودلهى وجدته شخصا حيويا متحمسا، يعد نفسه لحوار معى بكل ما لديه من حيوية... لقد كنت مرتاعا تماما بسبب ما جاء فى تقرير مخابراتنا".
الواقع هو أن موقع علم النفس فى السياسة الخارحية الأمريكية أصبح موضع جدل ونقاش. لا يثق العديد من صانعى القرار الأمريكيين فى الآراء الذاتية للعلماء والأطباء النفسيين. كما أنهم يخشون فى نفس الوقت حدوث قضايا محيرة تحتاج وجود تصورات تشخيصية هم فى حاجة إليها. حتى أن أكبر المتشككين فيها مثل "سكوكروفت" يعتقد أن "التصور التشخيصى" أو "البروفيل " هو شيئ مريح يصلح للتعرف على شخصية رئيس ما، وهو دليل للفعل سواء على المستوى الشعورى أو اللاشعورى.
ولهذا يرى الباحثون أنه طالما لا يمكن التخلى عن هذه التصورات التشخيصية النفسية– رغم عيوبها- فيجب العمل على تحسينها، وأنه يجب على وكالة المخابرات أن تعترف بالمشاكل الناتجة عنها.
دافع "جيمس ويسلى" مدير الوكالة السابق عن التصورات التشخيصية، وطالب بتجديد الجهود الخاصة بمراجعة الحقائق عنها بصورة منسقة ومكثقة وبواسطة متخصصين من خارج الوكالة أيضا، ومن أناس يعرفون الشخصية موضع الدراسة عن قرب. وطالب الوكالة بألا تتمسك بتصوراتها الخاصة عن مثل هذه الشخصيات دون مناقشة بحيث يمكن تجنب الأخطاء التى قد تنتج عن سوء التحليل، كما طالب أيضا بأن تضع التحليلات فى اعتبارها السياق السياسى والثقافى الذى تعمل الشخصية من خلاله، حتى لا يشكو المسئولون من أية أمور قد يفاجئون بها عند مقابلة رئيس ما.
ويرى الباحثون أيضا أنه يجب أن يميز التصور التشخيصى لشخصية ما بين الحدس والحقيقة. ويجب إدراك أن التصور التشخيصى هو واحد من عدة وسائل أخرى لفهم شخصية ما، كما يجب الحذر عند وضع هذا التصور من أن يصاغ فى صورة عقلانية بحته تغفل التأثيرات اللاعقلانية على سلوكيات هذه الشخصية. أما بالنسبة إلى صانع القرار فيجب ألا يحاول دفع الوكالة إلى أن تضع تنبؤات دقيقة عن الشخصية موضع التحليل إذا كانت المعلومات الضرورية اللازمة عنها غير متوافرة بدقة، ذلك لأن مثل هذه الضغوط قد تدفع مصممى هذه التصورات التشخيصية إلى عدم تحمل المسئولية عنها، كالحال إذا طلب منهم تحديد كيفية استجابة " كيم وابنه" للضغوط الغربية.
وينتهى الباحثون إلى القول بأن التصورات التشخيصية النفسية إذا كانت مصاغة بصورة جيدة، فإنها يمكن أن تساعد صانعى القرار فى حالات الأزمات وإجراء المفاوضات، إما إذا لم تكن مصاغة بصورة جيدة فإنها قد تتسبب فى تشويه المعلومات وتؤثر على قرار السياسى أو المسئول. لكن الأمر الواضح هنا، هو أنه طالما أن صانعى القرار مازالوا يطلبون هذه التصورات التشخيصية النفسية، فيجب أن يعترفوا بأن الوكالة تعمل فى الاتجاه الصحيح.
هذه هى خلاصة تجربة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية مع مشروع تحليل شخصيات الزعماء والقادة وهو أحد وسائل التجسس التى تستخدمها المخابرات المركزية الأمريكية إلى جانب العديد من وسائل التجسس الأخرى.
يقول اللواء الركن "مهند العزاوي" بمركز صقر للدراسات العسكرية والامنيه :" أن هذا النوع من التجسس استخدم مع الزعماء العرب بهدف الوقوف على حالتهم النفسية وجمع معلومات كاملة عن شخصياتهم من جميع جوانبها كالتعصب الديني،والإحساس الحاد بالكرامة، والكراهية، وتماسك قواهم العقلية في اتخاذ القرار، هذا إلى جانب ما يعرف بالتجسس الفرويدى وهوتقمص احد عناصر المخابرات دور هذا الزعيم أو القائد أو الرئيس، وفقا لتقارير الحالتين النفسية والصحية ويبدأ التفكير بدلا منه، ثم يتخذ عدة قرارات تتبوئيه يجري اختيار أي منهما أكثر احتمالا.
أما وجهة نظرنا فيما سبق كله فنختصرها فيما يلى :
أولا : ان هذا التضخيم الهائل فى دور التحليلات النفسية وما تؤديه من خدمات لجهاز المخابرات المركزية الأمريكية، يحتاج إلى إعادة نظر، فقد ثبت لدينا أن حجم الانتقادات التى وجهت إليها أكثر من حجم الثناء عليها. وما نضيفه هنا قد يصدم القارئ. وهو أن علم النفس بكامله ليس إلا أسطورة قد انطلت علينا. ونستدل على ذلك بما جاء فى كتاب " أزمة علم النفس المعاصر" للبروفيسور "جيمس ديز James Deese" أستاذ علم النفس بجامعة "جونز هوبكنز" بالولايات المتحدة. يقول " ديز " : " أن السحر والخداع شائعان جدا في علم النفس وفى نظرياته. فالنظريات النفسية القديمة ليست علمية ولا يوجد أحد حتى من طلاب علم النفس من يؤمن بصحتها، وهذا فى حد ذاته دليل على عجزها وعدم جدواها. أما النظريات الحديثة فإن الكثيرين يجدون فيها من الأمور الخاطئة مما يدعم الادعاء القائل بأن : "علينا أن نتخلى كلية عن الجهد العلمي في علم النفس والاعتراف بأن علم النفس يجب أن ينضم إلى عالم الأسطورة والوهم ". ويرى " ديز " أيضا " أن علم النفس لا يخرج عن كونه حشدا متنافرا من اجتهادات فكرية شديدة التباين والإختلاف وأن الطلاب الذين يدرسون مقررات علم النفس التمهيدية يشكون بشدة من أن مقرر علم النفس ما هو إلا كومة من الأمشاج والأخلاط المتنافرة وغير المتماسكة... إن النظريات النفسية نظريات يغلب عليها البدائية وليست ذات نفع، كما لا توجد في النظريات النفسية طريقة متفق عليها لتحديد وتقنين كافة الوصلات الرهيفة والدقيقة التي يزعم أصحابها أنها قائمة بين المتغيرات المختلفة للنظرية. وصحيح أن للنظريات النفسية فوائد متعددة ومتنوعة. لكن حقيقة هذه الفوائد هى إنها تسد حاجات مرتبطة بالأسطورة أو بالتغيرات الأسطورية، ولما كانت الأساطير غير موضوعة لتعطينا معرفة، فإن قيمتها المعرفية متدنية، ولكنها وضعت وصممت لإدخال الراحة والطمأنينة إلى القلب ولتحقيق نوع من الإشباع الجمإلى. وتبقى الحقيقة " أن الحد الفاصل بين النظرية والأسطورة ليس حدا بينا وقاطعا".
ثانيا : أن العقلية الأمريكية عقلية تهويلية تميل دائما إلى تضخيم كل شيئ، ولهذا فإننا نفهم ماجاء فى تضخيم دور التحليلات النفسية لشخصيات رؤساء الدول فى ضوء طبيعة الثقافة والشخصية والعقلية الأمريكية : جاء فى أحد المواقع الأمريكية التى تشرح بفخر شديد العقلية الأمريكية وطراز الحياة الأمريكى الآتى :
" فى الولايات المتحدة الحجم هو كل شيئ، وماهو أكبر هو أفضل دائما. السيارات الكبيرة، المبانى الضخمة، الصدور الكبيرة، المنازل الضخمة، البراميل الكبيرة، الوظائف الكبرى، شيكات الدفع بالأموال الكبيرة، المدن الكبرى، لاعبو الكرة الكبار، المدافع الثقيلة، المحلات الكبرى. كل شيئ فى الولايات المتحدة كبير. ثلاثة مصطلحات للأحجام تستخدم دائما : كبير، وضخم، وعملاق. إن الولايات المتحدة هى أرض العمالقة. لا تستطيع أن تتخلص فى الولايات المتحدة من عنصرين هما الحجم والنوعية.عنوان نجاحك فى الحياة يعتمد على حجم مكتبك، وعدد الأصفار فى قيمة راتبك.........الخ ".
ونقتبس هنا هذه الكلمات المعبرة عن هذا الغرور الأمريكى والإحساس بالعظمة التى افتخر أحد كبار العسكريين الأمريكيين وهو " جون فاليلى " فى مقالة له بعنوان : " الأمن القومي الجديد والإستراتيجية العسكرية" فى مارس 2010. يقول " فاليلى ": نحن الذين صنعْنا أعظمَ الاختراعات التكنولوجية لأنظمة الأسلحة بَرًّا وبحرًا وجوًّا، وأعظم الاختراعات في أنظِمة الاتصال، والقيادة، وأنظمة المخابرات، لدَيْنا أعظم المخطِّطين للعمليات القتالية على كافَّة المستويات، ولدَيْنا أعظم القادة السياسيِّين في البيت الأبيض، وأعظم القادة العسكريِّين في البنتاجون، وأعظم المتخصِّصين في الأمن القومي، لدَيْنا العديد مِن القيادات العسكريَّة حولَ العالَم لحماية أمنِنا القومي. إنَّ لدينا مِن هذه القدرات والإمكانات ما لَدَى العالَم كله مجتمعًا، ليستْ هناك نقطة في العالَم لا نستطيع الوصولَ إليها في الوقت الذي نُريده، وليستْ هناك من دولة في العالَم قادرة على إعاقة تفوُّقِنا أو أهدافنا، إذا ما أردْنا تغيير نِظام حُكمٍ ما في العالَم، باستثناء تلك الدُّول التي تمتلك قوةً نوويَّة".
يقول المفكرون الإسلاميون فيما نعتبره ردا على "فاليلى" : "لم يكن أعداءُ الإسلام متفوقِّين عسكريًّا واقتصاديًّا فقط، لقد كانوا دائمًا أكثرَ عددًا، وأقوى عُدَّة، وأوفر مقدراتٍ مادية على العموم، ليس اليوم فقط، ولكن منذ أن بدأتِ الدعوة للإسلام في الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمنِ الفتوحات الكبرى بعدَ ذلك، وليس هذا في حقيقته تفوقًا. إنَّ التفوُّق الحقيقي والساحِق للإسلام يكمُن في بنائه الرُّوحي والخُلُقي والاجتماعي، ومِن ثَمَّ السياسي والقيادي، وبهذا التفوق اجتاح الإسلامُ الجزيرةَ العربية أولاً، ثم اجتاح الإمبراطوريتَين العظيمتين الممتدتين حولَه: إمبراطوريتي كِسرى وقيصر ثانيًا، واجتاح بعدَ ذلك جوانبَ الأرض الأخرى، سواء كان معه جيش وسيف، أو كان معه مصحفٌ وأذان.
ولولا هذا التفوُّقُ الساحِق ما وقعتِ الخارقة، التي لم يعرفْ لها التاريخ نظيرًا، حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخيَّة الشهيرة، كزَحْف التتار في التاريخ القديم، وزحْف الجيوش الهِتلرية في التاريخ الحديث؛ ذلك أنَّه لم يكن اكتساحًا عسكريًّا فحسب، ولكنَّه كان اكتساحًا عقديًّا، ثقافيًّا حضاريًّا، تجلَّى فيه التفوق الساحِق الذي طوى - من غير إكراه - عقائدَ الشعوب ولُغاتِها، وعاداتِها وتقاليدها، الأمر الذي لا نظيرَ له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخَرَ، قديمًا وحديثًا.
إنَّه وإنْ كانَ مِيْزانُ القُوَى بيننا وبينَ الغرب غيرَ مُتَكَافِئ، فإنَّ القوَّةَ التي يستندُ إليها الغربُ هي قوةٌ مُؤَقَّتَةٌ، تستندُ إلى عواملَ ماديةٍ بَحْتَةٍ، وهذه العواملُ مِنْ شَأْنِها ألاَّ تَدُومَ؛ لأنَّ فسادَ الحياةِ الاجتماعيةِ والشُّعوريةِ عندَ شعوبِها سيقضي عليها، ولو بَعْدَ حينٍ.
إنَّنا مطمئنون إلى وعْد الله القاطِع، وحُكمه الجامع في قوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴾ [النساء: 141]، وهي تعني: أنَّ الله لن يسلِّطَ الكافرين على المسلمين تسليطَ استئصال، وإن تغلَّبوا على المسلمين في بعض المعارك، وفي بعض الأحايين".
يقول أحد المفكرين الإسلاميِّين: "إني أُقرِّر في ثِقة بوعْد الله لا يُخالجها شكٌّ: أنَّ الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحقْ بهم في تاريخهم كلِّه، إلا وهناك ثغرةٌ في حقيقة الإيمان: إمَّا في الشعور، وإما في العمل، ومِن الإيمان أخْذ العُدة، وإعداد القوَّة في كلِّ حين بنيةِ الجِهاد في سبيل الله، وتحت هذه الرَّاية وحْدَها مجرَّدة من كلِّ إضافة ومِن كل شائبة يكون النصر، وبقدر هذه الثَّغْرة تكون الهزيمة الوقتية، ثم يعود النصرُ للمؤمنين حين يوجدون".
نقلا عن مجلة المجتمع الكويتية
المصادر :
1-Thomas Omestal, Psychology and the CIA "Leaders on the couches, www.jstor.org/stable/1149426
2-The American style: Culture, politic, mentality and lifestyle , www.justlanded.com/.../The-American-style
3- أحمد إبراهيم خضر، أسطورة اسمها علم النفس، عقم فى النظرية، قصور فى المنهج، سطحية فى النتائج، وازدراء للدين.
www.alukah.net/Web/khedr/10862/27168/
4- أحمد إبراهيم خضر، قراءة في إستراتيجية الحرب العالمية ضد الجهاد والشريعة والخلافة الكامنة www.alukah.net/Culture/0/20584/ .
5- مهند العزاوي، أساليب ووسائل تجسس وكالة المخابرات المركزية الامريكيه. www.liilas.com
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: