د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 6467
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
بعض الكُتَّاب علامة فارقة تُميِّزه عنْ غيره؛ فهو صاحب مبدأ لا يتغيَّر، وبعضهم متقلِّبُ الفِكْر يميل مع الريح أنَّى مالت، ولا سيَّما إذا وجد فيها مصلحةً ما، أو أداءً لدور مُعَدٍّ سَلَفًا، وحديثي عن رَجُل من النوع الثاني، اتَّسَم - زيادة على ما ذكَرْتُ - بِعَداء شديد للفِكْر الإسلامي ورُوَّاده المعاصرين، وهو مع كل توجُّه منحرف لأدعياء الفِكْر الإسلامي؛ إذْ هم عنده رموز لا تُمَس، وإن هلكوا فَهُم في تصوُّرِه شهداء، إنه المدعوُّ "غالي شكري".
فمن هو "غالي شكري" هذا؟ وأين هو الآن؟
إنَّه حامل حقيبة "سلامة موسى" كما وصفَه الأستاذ "محمود شاكر"[1]، غالي شكري هو الكاتب القِبْطيُّ الماركسيُّ المعروف، رئيس تحرير مجلَّة "القاهرة" اليساريَّة، صاحب "النَّهضة والسُّقوط"، و"الماركسيَّة والأدب"، و"قضية الجِنْس في الأدب"، و"ثورة المعتزل" و"المنتمي"، و"نجيب محفوظ في خطِّ المواجهة"... إلخ.
هو التلميذ التابع لـ "لويس عوض" كما يقول عن نَفْسِه.
صحب غالي شكري سلامة موسى ستَّ سنوات، كَصُحبة "أوجست كونت" الشابِّ "سان سيمون" العجوز، وكان من أهمِّ قُرَّائه، وأكثرهم نبشًا في فِكْره، وأقدَرِهم على الإشارة إلى مواطن ريادته... احتفى سلامة موسى بتلميذه غالي شكري، ودعاه إلى زيارته في بيته، ومدَّ له يد العَوْن، وقيل عنه: إنَّه ابن أختِه[3]، لقَّن سلامة موسى تلميذَه الجديد معلوماتٍ جديدةً عن "فرويد" و"نيتشه" و "شو"، و"تولستوي"، ثُمَّ علَّمَه كيف يحوِّل هذه المعلومات إلى خبرة حيَّة ومزاج عقلي، في وقت لم يكن في بيت غالي شكري إلاَّ كتابٌ واحد، هو "الإنجيل"[4].
معظم أفكار غالي شكري ترديدٌ لأفكار سلامة موسى، هذا الأخير الذي يزعم أنَّ "الله" فكرة! والدِّين هو الإنسانيَّة، وفرنسا هي القِبْلة[5]، والتعليم لا بدَّ أن يكون أوربيًّا لا سلطان للدِّين عليه، ولا دخول له فيه، هذا الأستاذ هو صاحب مقولة: "نَحن في حاجة إلى ثقافة حُرَّة أبعد ما تكون عن الأديان"، لغةُ القرآن عند سلامة موسى لغة بدويَّة، لا تكاد تَكْفل الأداء إذا تعرَّضَت لحالة مدنيَّة كتلك التي نعيش بين ظهرانَيْها[6].
أصدر غالي شكري مجلَّتَه "القاهرة" متسلِّحة بما يسمُّونه بالفكر الحُرِّ والمتقدِّم في خطِّ المواجهة الأول؛ للدِّفاع عن العقلانيَّة من أَجْل صياغة مشروع ثقافي وفكري مستنير[7]، ضدَّ دُعاة الجمود والتخلُّف، المتمسِّكين بالموروثات دون تَغْيير، الذين يقدِّمون القرابين للسَّلَف الصالح[8]، تمامًا مثلما أصدر سلامة موسى مجلَّتَه "الجديد" اليساريَّة العلمانية الجريئة.
سلامة موسى هو أوَّل مَن أصدر كتابًا بالعربية في مصر عن الفكر الاشتراكيِّ، وهو الذي صدَّر صورة "كارل ماركس" في العدد الرابع من مجلَّة "الهلال"، التي كان يرأَسُ تحريرَها عام 1921م.
تقلَّد غالي شكري خُطَى سلامة موسى نَحْو الاشتراكيَّة مثلما تقلَّدَها لويس عوض، و"نجيب محفوظ" من قَبْلِه[9]، ولَمَّا سُئِل نجيب محفوظ عن تأثُّرِه بعلمانيَّة سلامة موسى، وإلى أيِّ مدى ظهر هذا التأثير على ملامح شخصيَّتِه؟ أجاب ضمن ما قاله بالحَرْف الواحد : "لِهذا أشعر بالإجلال لسلامة موسى ولِخِدمته لهذا الوطن، ودعوته للاشتراكيَّة.. "بلاش" اشتراكيَّة؛ لأنَّها كلمة سيِّئة السُّمعة"[10].
غالي شكري وسلامة موسى من أصحاب المشروع الثقافي الطائفيِّ، وكان الأخيرُ ينظر إلى نفسه كمثقَّفٍ عربي طائفي[11]، لكنَّه أخفى تعصُّبَه الطائفيَّ تحت عباءة الاشتراكيَّة، مثلما أخفاه غالي شكري تحت عباءة الماركسيَّة.
نادى سلامة موسى بالتعقيم الاختياري[12]، ودعا إلى ضبط النَّسْل، في الوقت الذي أنجب فيه ثلاثة صبيان وخَمْس بنات[13]! أمَّا غالي شكري الذي يقول عن نفسه: إنَّه درس القرآن قراءة وتدوينًا، وحفظه عن ظهر قلب[14]: فقد جعل مجلَّتَه منبرًا ينادي بالعلمانيَّة، وقلعة للماركسيَّة، وأفسح مساحات كبيرة فيها لـ"ألبير قصيرى"، و"جورج عبدالمسيح بشاي"، و"سمير صادق حنا"، و"مجدي فرج"، و"ماري إلياس"، و"ميخائيل جرجس"، و"جرجس شكري"، و"إلهام غالي"، و"توفيق حنا"؛ يَرْسُمون ويتحدَّثون عن "دليل الحيارى في أعمال النَّصارى"، و"مع المسيح ذلك أفضل"، وعن "الأقليات والألحان القبطيَّة وامتداداتها الفرعونيَّة".. إلخ[15]، والأخطر من ذلك: الترويج لفكرة الإلْحاد[16].
وإذا كان سلامة موسى قد وضع التجارب فوق العقائد، وأخرج الدِّين من دائرة علاقة الإنسان بالحكومة، وحكَمَ بالموت على كلِّ مَن يؤمن بتدخُّل الدِّين في أصول المعاملات بين الناس؛ من تِجارة، وزواج، وامتلاك[17]، فإنَّ تلميذه غالي شكري قد تعرَّض بِخُبث للإسلام والإسلاميِّين، تارة في ثنايا مَدْحه لتفاعُل الحضارة العرَبيَّة الإسلامية مع غيرها، وتارةً ثانية تحت دعاوى الإرهاب والتطرُّف، وأخيرًا: تحت مظلَّة الديمقراطيَّة وحُرِّية الفكر والتعبير.
غالي شكري هو الذي كتب قائلاً: "إنَّ ميراثنا الحضاريَّ يَقْبَل التَّغيير والتجدُّد، فلا يجوز أن نسمح لِدُعاة الجمود بالإبقاء على موروثاتنا دون تَغْيير، ومِن ثَمَّ: لا يجوز أن نُقَدِّم القرابين للسَّلَف الصالح"؛ ولِهذا استمات حتَّى أعاد مِن على منبره اليساريِّ نَشْرَ كتاب "في الشِّعر الجاهلي"؛ لـ"طه حسين"، ودعوة "شادي عبدالسلام" لإحياء الفرعونيَّة، كما نشر مُحاكمة "نصر حامد أبو زيد"، تحت عنوان: "وثيقة إعدام مثقَّف مصري"[18].
وخصَّص مساحة كبيرة لِنَشْر محاكمة "محمد محمود طه" زعيم الإخوان الجمهوريِّين في السُّودان[19] الذي ارتدَّ عن الإسلام، وأُمهل ثلاثة أيام ليتوب، لكنه لم يتب؛ فأُعْدِم شنقًا في صباح الجمعة 27 ربيع الثاني 1405هـ الموافق 18/1/1985م بتهمة الزندقة ومعارضة تطبيق الشريعة الإسلاميَّة.
محمد محمود طه، رجل يَمْتاز بقدرة فائقة على المُجادلة والملاحاة، أسَّس حزبَه الجمهوريَّ سنة 1945م، قال بآراء دينيَّة منحرفة مصحوبة بكثير من الآراء الشخصيَّة لم يَقُل بها أيُّ عالِمٍ من علماء المسلمين وأئمَّتِهم، قال: إنَّه صاحب الرِّسالة الثانية التي تلقَّاها من الله نفْسِه كفاحًا بدون واسطة؛ ليرفع وصاية الشَّريعة الإسلامية عن الرِّجال والنِّساء؛ ولهذا أسقط التكاليف الشرعيَّة عن الإنسان في مرحلةٍ من المراحل لاكتمال صلاحه، ولعدم وجود داعٍ إلى العبادة بعْدَها.
الجهاد عنده ليس أصلاً في الإسلام، ولا الحجاب، ولا الزَّكاة، وتعدُّد الزوجات كذلك، والدِّين عنده هو الصَّدأ والدَّنَس! أما القرآن: فهو شِعْر مُلْتزم، وموسيقا عُلويَّة، يعلِّم كل شيء ولا يعلِّم شيئًا بعينه، حرَّض الجنوبيِّين المسيحيِّين في السُّودان ضدَّ تطبيق الشريعة، وروَّج لفكرة الإنسان الكامل الذي هو زَوْج الله[20]!!
لهذه الأسباب، ولسببٍ آخر مهمٍّ، هو دعوته إلى ما يسمِّيه بالمساواة الاقتصاديَّة التي تبدأ بالاشتراكيَّة، وتتطوَّر نحو الشُّيوعية، ومناداته بالفرديَّة المطلقة، بِمَعنى أن يكون لكلِّ فَرْد شريعتُه الفرديَّة، خلع عليه اليساريُّون ألقابًا وصفاتٍ عديدة، منها: الأستاذ الشهيد، المفكِّر الإسلامي، صاحب الدِّماء الزَّكية، كاتب صفحات النُّور في تاريخ الفكر والاستنارة، وأعدُّوا له فيلمًا بعنوان "القتَلة يُحاكمون الشهيد"[21].
غالي شكري يريد شابًّا متديِّنًا من طراز خاص جدًّا، أهمُّ ما فيه أنه لا يقدِّم القرابين للسَّلف الصالح!! ولكنه نسخة مطابقة لشخصية "أحمد عبدالجواد" في "ثُلاثيَّة" نجيب محفوظ.
يقول غالي شكري عن "أحمد عبدالجواد": "فهو المؤمن المتديِّن الذي يَقْضي لياليه بين الخلاَّن شاربًا، وبين العوالِم راقصًا، وبين النِّساء متهالكًا، نشوانَ طَرُوبًا، دون أن يفرض على الوَعْي أيَّ تناقُضٍ بين أداء الفرائض وفَرْضِها على أفراد عائلته، والحياة الليليَّة الملوَّنة.
شخصيته مزدوجة حقًّا! ولكن ما أبعدها عن التمزُّق! فلا إحساس بالذَّنب، ولا عذاب للضمير، وإنَّما انسجام تامٌّ بين الوجهَيْن، كأنَّهما وجه واحد"[22].
غالي شكري كأستاذه سلامة موسى مِن دُعاة "المتوسِّطية"؛ نسبةً إلى انتماء مصر إلى أوربا عبر المتوسط لا العرَب، وشكَّل الاستعلاءُ على العرب والسَّلام مع إسرائيل جزءًا من أطروحته الوطنيَّة الثقافية مع "نجيب محفوظ" قبل عام 1952م وبعده[23]، ولكنه لما دُعِي إلى احتفال ولادة معجم البابطين للشُّعراء المعاصرين في الكويت، تلَوَّن وقال: "فمن يَمْلك التاريخ الواحد وسِمات الأُمَّة الواحدة، لا يمكن أن يختلف مع زميله"[24]، رغم أنَّه قال قبل ذلك: "إن اللُّغة والدِّين والتاريخ المشترك أحيانًا بين المصريِّين وغيرهم من العرب لا تقيم شَمْل أمَّة أو قوميَّة"[25].
ولأنَّ العدوَّ واحدٌ عندهم جميعًا، هم الذين يُطْلِق عليهم غالي شكري: "الْجُهلاء، خصوم العقل، الذين تَمكَّنوا من رفع الصوت عاليًا في البَرْلمان ضدَّ الشِّعر والنَّثْر واللَّوْن، وفي ساحات المَحاكم، وفي الغُرَف المغلقة داخل الجامعات"[26]، تناسى ما قاله بالأمس من أنَّ الصحراء تفصل بين مصر والعرب، وأن المتوسِّط هو الذي يربط بينها وبين أوربا! ليقول اليوم: "أصحاب المال العرب"، قدَّموا نُموذجًا رفيعًا على أن العطاء الثقافي هو أعظم أنواع العطاء[27].
حينما تعرَّض نجيب محفوظ لِمُحاولة اغتياله بعث إليه غالي شكري يواسيه، ويقول له: إنَّه تعلَّم منه ومن تجربة اغتياله شجاعةَ العقل والتعقُّل، وشجاعة الإصرار إلى حدِّ الاستبسال، وإنَّه صامد متمسِّك بالعقلانية، ولن يتخلَّى لحظة واحدة لِرَعْد العواصف الهوجاء الطَّائشة العمياء، حاملاً الراية ذاتَ النُّجوم الثلاث "الحرية، والمعرفة، والعدالة"[28].
هذا ما قاله غالي شكري، لكنه "عند اللحظة الفارقة" التي سمع فيها بحادث "أديس أبابا" سقط مُصابًا بجلطة في الدِّماغ، فأصبح عاجزًا عن التفكير والحركة معًا، فحملوه إلى قِبْلته "باريس" على كرسيٍّ متحرِّك.
ومع سقوط غالي شكري "تصاعدت في كلِّ أركان الضمير الثقافي العربِيِّ صيحاتُ الفزع، فليس ذلك العقلُ اللامع مِمَّا يمكن تعويضه، خاصَّة في هذه المرحلة الحَرِجة من عمر المأزق الثقافي العربيِّ"، هكذا اعترف الحواريُّون[29]، أمَّا لحظة انْهيار الحواريِّين فقد كتَبُوها بأيديهم في النصِّ التالي: "ما الذي سيحدث لو "لا قدَّرَ اللهُ!" وأصيب الرئيس، إلى أين سنَتَّجِه؟ وماذا سنكون؟ مَن هو القادم؟ ما هي صفاته؟ كيف سيَسْلك معنا؟ وهل سينتهي الأمر عند هذا الحدِّ، أم إنَّها هوجة كبرى ستأتي على الأخضر واليابس في هذا البلد الذي لم يَعُد يَحْتمل المزيد؟ لا بدَّ أن غالي شكري قد أحسَّ بِهذا كلِّه؛ لأنَّ الأرض دارت به، ولأنَّ الألم تصاعد إلى رأسه"[30].
الوزراء يتقدَّمُهم كبيرهم، والمثقَّفون من كبار المسؤولين وغيرهم التفُّوا حول غالي شكري في أزمته هذه، "كانت الجموع من حولي، من اللَّحظة الأولى خَيْر عنوان على هذا الشَّوق العارم" أثبت الجميعُ ".. على اختلاف اتِّجاهاتهم أنَّهم حريصون ليس على غالي شكري بالتحديد، ولكن على ما يُمثِّله غالي شكري من قِيَم ومبادئ في الحياة المصريَّة"، هكذا توهَّم غالي شكري!
"لقد كنتم جميعًا أهمَّ كثيرًا من العصا في يدي؛ لتعلُّم المشي من جديد، كنتم جميعًا أهمَّ من المقعد المتحرِّك تحتي في قَطْع المسافات قبل أن ينقلني مُجدَّدًا إلى الحركة الطبيعيَّة، إنَّكم كنتم حولي في أقْسَى اللَّحظات، وسوف أذكر ما حَيِيتُ كيف أنَّ بعضكم قد ترك مسرَّات الحياة وعادني في وقت صعب"، هكذا قال "غالي شكري".
وعاد غالي شكري إلى منبره مرَّةً أخرى؛ "خشية على مستقبل الفكر في مصر"، وما يمثِّله للحياة المصريَّة من قيم ومبادئ[31] كما توهَّم.
لكن الحال لم يَدُم طويلاً؛ إذْ سقط غالي شكري مرَّة أخرى مصابًا بِجَلطة ثانية في دماغه، واختلف الأمر هذه المرَّة، فهؤلاء الذين تركوا مسرَّات الحياة وعادوه في وقت صعب.. لم يكونوا يفعلون ذلك من أجله، إنَّما من أجل شيء آخر نتلمَّسُه في النصِّ التالي الذي كتبوه بأيديهم ومن فوق منبرهم:
"إلا أنَّ هناك في الحياة الثقافية سلوكًا أخلاقيًّا تكرَّر إلى حدّ ما يشبه الظاهرة كاملة الأركان، وهذه الظاهرة هي ما يعبِّر عنه المثَلُ الشعبيُّ العميق: "عايزين جنازة ويشبعوا فيها لطم"! في هذا السِّياق هناك مَن كانوا ينتظرون غياب غالي شكري في حالة شبه نشوة حبيسة؛ وذلك للقَفْز بسرعة الزَّمَن إلى مكانه ومكانته".
لم تنته الصُّورة بَعْد، ولم يسقط غالي شكري وحده، إنَّما سقطت القِمَمُ الثقافية الواحدة بعد الأخرى، هذا "سمير سرحان" سقط مصابًا باضطراب في نبضات القلب، وهذا "جمال الغيطاني" تعطَّلَت صماماتُ قلبه، وهذا الرمز الكبير "جابر عصفور" سقط مصابًا بِمَرض السُّكري[32].
ورغم أنَّ هذا هو قدَرُ الله عليهم جميعًا، ﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ﴾ [البقرة: 20]، لكنهم ما لانوا وما استكانوا، وما عادوا إلى الله أو تضرَّعوا إليه، فقد كانت قلوبُهم كالحجارة أو أشدَّ قسوة، فباتوا يُفَلسِفُون ما حدث بأنَّه "هو الثَّمَنُ الذي يدفعه أبطال الفِكْر على مدار التاريخ في سبيل الحُرِّية والعقلانيَّة، هذا هو الثمن الذي يدفعه المثقَّف المستنير منذ "ابن رشد" إلى "محمد عبده"، و"عبدالرحمن الكواكبي"، و"قاسم أمين"، و"مصطفى عبدالرازق"، و"أحمد أمين"، و"أحمد لطفي السيد"، و"طه حسين"، و"توفيق الحكيم"، و"يوسف إدريس"، و"جمال حمدان"، و"نجيب محفوظ"... إلخ، إنَّ المثقَّف المستنير، سيظلُّ يدفع الثمن ما دام يلحُّ على التصدِّي لمختلف تيَّارات التخلُّف، فيعمل ليل نهار من أجل التطوُّر والتنمية، ويُحارب الإرهاب بِمُختلِف صوره"[33].
إن الله - تعالى - يأخذ المكذِّبين بِرُسله بالبأساء والضرَّاء؛ لأنَّ من طبيعة الابتلاء بالشدَّة أن يوقظ الفطرة التي ما يزال فيها خيْرٌ يرجى، وأن يرقِّق القلوب التي طال عليها الأمد متَى كانت فيها بقيَّة؛ هكذا قال علماء الإسلام.
لكنَّ الفطرة حينما تبلغ حدًّا معيَّنًا من الفساد: لا تتدبَّر، ولا تتذكَّر، ولا ينفع معها الإنذار ولا التذكُّر؛ هكذا قالوا أيضًا.
إنَّ مَن رزقه الله بصيرةً نافذة عَلِمَ سخافة عقول هؤلاء، وأنَّهم من أهل الضَّلال المبين، لا يفقهون ولا يتدبَّرون القول؛ ولهذا فإنَّ كشف عوراتهم، وبيان فضائحهم، وفساد قواعدهم، من أفضل الجهاد في سبيل الله، وقد قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - لحسَّان بن ثابت: ((إن روح القُدس معك ما دمت تُنافح عن رسوله))، وقال: ((اهجهم أو هاجهم وجبريلُ معك))، وقال: ((اللهم أيِّدْه بروح القدس ما دام ينافح عن رسولِك))، وقال عن هجائه لهم: ((والذي نفسي بيده لَهُو أشدُّ فيهم من النَّبْل))[34].
-------------
[1] محمود شاكر، "أباطيل وأَسْمار"، ص 334.
[2] مجلة "العربي"، ع/ 452، يوليو 1996م، ص 70.
[3] محمد محمود عبدالرازق، "سلامة موسى.. أبي وأبوه"، مجلة (القاهرة)، ع/ 154، 9/ 1995م.
[4] مجلة "العربي"، مصدر سابق، ص 71.
[5] غالي شكري، "حساب سلامة موسى مع التاريخ"، مجلة "القاهرة"، ع/ 154، ص135، 136.
[6] محمد محمد حسين، "الاتِّجاهات الوطنية في الأدب المعاصر"، ص 221 223.
[7] انظر مجلة "القاهرة"، ع/ 156، 11/ 1995م، ص 3.
[8] غالي شكري، من المحرِّر، "القاهرة"، ع/ 157، 12/ 1995م، ص 3.
[9] محمد محمود عبدالرازق، مصدر سابق، ص 158.
[10] هاني لبيب، "نجيب محفوظ.. سلامة موسى وجهًا لوجْه"، "القاهرة"، ع/ 158، 1/ 1996م.
[11] محمد محمود عبدالرازق، مصدر سابق، ص 158.
[12] المصدر نفسه، ص 175.
[13] غالي شكري، "حساب سلامة موسى مع التاريخ"، مجلة "القاهرة"، مصدر سابق، ص 136.
[14] انظر: "العربي"، مصدر سابق، ص 71.
[15] انظر: "القاهرة"، ع/ 140، 7/ 1994م، ص13 80، 147 175، و ع/ 154، 9/ 1995م، ص 175.
[16] رمسيس عوض، "عصر الإلحاد ونِهاية المسيحيَّة في الغرْب"، "القاهرة"، ع/ 152، 6/ 1995م، ص170 211.
[17] محمد محمود عبدالرازق، مصدر سابق، ص 173.
[18] "القاهرة"، ع/ 159، 2/ 1996م.
[19] عطيات الأبنودي، "النَّصُّ الكامل لِمُحاكمة وإعدام زعيم إسلاميٍّ في السودان"، "القاهرة"، ع/ 134، 1/ 1985م.
[20] "الجمهوريُّون في السودان"، "الموسوعة الميسرة المعاصرة"، الندوة العالمية للشباب الإسلامي، ص 181 190.
[21] عطيات الأبنودي، مصدر سابق، ص 45.
[22] غالي شكري، "نجيب محفوظ في المواجهة"، "القاهرة"، ع/ 157، 12/ 1995م، ص57.
[23] المصدر السابق، ص 46 70.
[24] المصدر السابق، ص 3.
[25] المصدر السابق، ص 70.
[26] المصدر السابق، ص 35.
[27] المصدر السابق، ص 3.
[28] المصدر السابق، ص 33.
[29] مجلة "العربي"، مصدر سابق، ص 68.
[30] انظر "القاهرة"، ع/ 152، 7/ 1995م، ص3.
[31] انظر "القاهرة"، ع/ 154، 9/ 1995م، ص 3.
[32] انظر "القاهرة"، ع/ 163، 6/ 1996م، ص 3.
[33] المصدر السابق، ص 3.
[34] ابن قَيِّم الجوزية، "الصَّواعق المرسَلة على الجهمية والمعطِّلَة"، ص 301 302، ط. العاصمة، وبِها تخريج الأحاديث المذكورة.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: