د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7790
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
شغلت قضية العلاقة بين الدين والحكومة حيزًا مُهِمًّا في فكر آخر شيخ للإسلام في آخر دولة للخلافة، وهو الشيخ "مصطفى صبري"، كان أبرز ما قاله في هذه القضية: "إنَّه من المضحك المبكي أنَّ حكومات المسلمين أيام كانت في أوج عِزَّتِها وقوتها، وخضعت لها الدول، كانت تخضع لحكم الإسلام، وترضى أنْ تكون تحت رقابته وإشرافه، أمَّا الآن وهي عاجزة ومهزولة، فقد خرجت عن الإسلام، ثم تحكمت فيه".
كان إلغاء "كمال أتاتورك" لدولة الخلافة في عام 1924 بمثابة إعلان رسمي بتجريد الحكومة في بلاد الإسلام من الدِّين، وبمعنى آخر: تَجريد الدولة من الدين، وكان القضاء على الخلافة (بمعنى الخلافة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم)، هو القضاء على التزام مَن يتولى الحكم على المسلمين بأحكام الشرع الإسلامي؛ لأنه إذا التزم بذلك كان خليفة لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهذا أمر مرفوضٌ كليَّةً من الغرب، ومن رجال الثقافة والفكر التنويري في بلاد الإسلام.
آثر المخططون لإلغاء الخلافة استخدامَ مصطلح "فصل الدين عن السياسة"؛ تخفيفًا لخطر إعلان تجريد الدولة من الدين، وسوء تأثيره على الشعب المتدين، وكان الهدف الأساس لهؤلاء المخططين الذين يكيدون للدين، ويعملون على القضاء عليه - هو القضاء على دين الحكومة أولاً بالتعبير عن هذا القضاء بـ "الفصل بين الدين والسياسة"، ثم الانتقال من القضاء على دين الحكومة إلى القضاء على دين الشعب، الذي يتم إخفاؤه عن الشعب في معنى هذا الفصل هو ادِّعاء عدم لزوم الدين للحكومة، بزعم أنَّ في دين الأمة كفاية واستغناء عن دين الحكومة، ومعنى عدم لزومه للحكومة: ألاَّ يكون للدين أي سُلطة على الحكومة ورقابة على أعمالها.
كان لا بُدَّ من إيجاد تفسير للشَّعب عن معنى "فصل الدين عن السياسة"؛ حتى تتحقق مُهِمَّة تجريد الدولة من الدين، فقيل للناس: إنَّ الفصل يعني مُراعاة كل من الدين والسياسة باستقلال أحدهما عن الآخر؛ بحيث لا يتدخل أحدهما في شؤون الآخر، ولا يُخل هذا الاستقلال بأيٍّ منهما، ولا يصاب أي منهما بالضرر، هذا أمرٌ غير صحيح؛ لأنَّه من المعروف تمامًا أنَّ الجانب الذي يتولى السياسة والسلطة لا بُدَّ أن يحكم على الجانب الذي تنازل عنهما، فالحكومة تستطيع التأثير في الأمة، ولا تستطيع الأُمَّة التأثير في الحكومة ما دامت خاضعة لحكمها، إلاَّ في إمكانية تغيير هذه الحكومة، فإنْ لم تغيرها وعجزت عن ذلك، فلا شَكَّ في تأثير الحكومة عليها، والمثال البارز على ذلك، الأول: هو عزل "كمال أتاتورك" للخليفة "عبدالمجيد"، الذي تنازل عن السلطة لأتاتورك، فخلعه عن عرش خلافته وعن البلاد كلها في منتصف أحد الليالي، حينما أصدر أوامره إلى رئيس الشرطة في الآستانة بأن يتولى إبلاغه بهذا العزل.
يقول الشيخ "مصطفى صبري": إنَّ القائل بفصل الدين عن السياسة وتجريد الحكومة من الدين هو واحد من اثنين: إمَّا شخص مستبطن للإلحاد، أو جاهل بمعنى فصل الدين عن الدولة ومغزاه، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: فصل الدين عن الدولة يخرج الدولة من أنْ تكون بلدًا إسلاميًّا:
يطلق لفظ "بلاد الإسلام" في عرف الشرع على البلاد التي تحكم فيها قوانين الإسلام، وعزل الدين عن التدخُّل في أمور الدولة يخرج هذه البلاد من عداد بلاد الإسلام، ويَجعلها مثل بلاد الغرب النصراني، تكتفي من الدين بمظاهر الأعياد والمناسبات؛ احترامًا للعامة المتدينين، واعترافًا بأنَّ مصلحة البلاد تكمُن في احتفاظ هؤلاء العامة بالدين، ويرى الشيخ "مصطفى صبري" أنَّ هذا الأمر ليس من الدين في شيء، وإنَّما هو نفاق؛ أي: دين في الظاهر، وكُفر بالدِّين في الباطن، وأنَّه إذا كانت النَّصرانية تقتنع وتنخدع بذلك، فإنَّ المنتمين إلى الإسلام - أفرادًا وجماعاتٍ - لا يقتنعون ولا ينخدعون بذلك.
ثانيًا: فصل الدين عن الدولة أضر بالإسلام من غيره من الأديان الأخرى:
الإسلام لا ينحصر في العبادات، بل يعم المعاملات والعُقوبات، وكل ما يدخل في اختصاص المحاكم والوزارات ومجالس الأُمَّة والشيوخ، فهو عبادة وشريعة وتنفيذ ودفاع، والتحليل والتحريم بمعنى الحظر والإباحة في الإسلام يشمل كل شيء في الحياة الإنسانية، ولا يخرج عن نطاقها شيء في هذه الحياة، لا في زواج، أو طلاق، أو طعام، أو شراب، أو لباس، أو حركة، أو عمل، أو عقد، أو تعامل، أو ارتباط، أو عُرف، أو غير ذلك من أمور الحياة، كُلُّ هذا من شأن الله وحده؛ لأنَّه من أخص خصائص الألوهية، بمعنى أنَّه: ليس لأحد غير الله أنْ يشرع فيه بغير سُلطان من الله، وليس لأحد أن يدعيَ أنَّه له الحق في ذلك، سواء أكان فردًا أم طبقة أم أمة أم الناس أجمعين، ومن هنا يضر فصل الدين عن الحكومة إضرارًا بالغًا بالإسلام وبكل تفاصيل حياة المسلمين.
ثالثًا: ترويج فصل الدِّين عن الدولة:
سواء أكان هذا الترويج من رجال الحكومة أم من الكتاب المفكرين - لا يتَّفِقُ مع الإيمان بأنَّ الدين منزل من عند الله، وأنَّ أحكامَه المذكورة في الكتاب والسنة أحكام الله المبلغة بواسطة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
الاحتكام إلى الكتاب والسنة ليس نافلة ولا تطوعًا ولا موضع اختيار، إنَّما هو الإيمان؛ يقول تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 36]، ويقول تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية:18 - 19] ليست هناك شرائعُ مُتعددة للمؤمن أن يختار منها، أو يخلط واحدًا منها بالآخر، وليس هناك مِن حلٍّ وَسَط ولا منهج بَيْنَ بَيْنَ، ولا خطة نصفها من هنا ونصفها من هناك، إنَّما هناك حق وباطل، فإمَّا شريعة الله أو الضلال، وهذه الشريعة معصومة وصاحبها - صلَّى الله عليه وسلَّم - معصوم لا يُخالطها غيرها، ولا يداخلها التغيير والتبديل، فابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه، ولهذا فإنَّ فصلَ الدِّين عن الحكومة يتنافى مع الإيمان الحقيقي، وحتمية الالتزام بهذا الإيمان.
رابعًا: فصل الدين عن الدولة:
يعني أنْ يكونَ من حق الله - تعالى - أنْ يتدخلَ في شؤون عباده مُنفردين، ولا يكون من حقه التدخُّل في شؤونهم على شكل دولة.
هذا الأخير هو مُهِم أيضًا؛ لأنَّ التساؤل هنا: هل يعلم الله صالحَ الفرد وخيره وشره، ولا يعلم صالح الجماعة والدولة وخيرها وشرَّهَا، ويبالي بأمر الفرد ولا يبالي بأمر الجماعة والدولة؟! ومن المعروف أنَّ الجماعةَ أكثر استعدادًا للخير والشر من الأفراد، ورأس الخير هو العمل لإعلاء كلمة الله، وهو أشرف واجبات المسلمين.
خامسًا: فصلُ الدين عن الحكومة لا بُدَّ أنْ يضعَ الدينَ تحت إمرة الحكومة، وهذا ينافي عزة الإسلام:
إنَّ مُجرد وضع الدين تحت إمرة الحكومة ينافي عِزَّة الإسلام الذي يعلو ولا يُعلى عليه، ولو فرض أنَّ الحكومة تحترم دين الشعب دائمًا وتخدمه، من غير أن يكون هذا الاحترام وهذه الخدمة فرضًا عليها، ولا تَمس هذا الدين أو تضطهده مع قدرتِها على ذلك، فإنَّ الواقعَ هو أنَّ سياسةَ البلاد هي بيد الحكومة، وليست بِيَدِ الدين، وكون الدِّين تَحت حماية الحكومة أمرًا يَمس كرامة الدين، وكثيرًا ما يبغي السائس على المسوس، والسيد على المسود، والدليل على جَوْر الحكومة على الدين في حالة تسلُّطها عليه هو أنَّ الدينَ لا يدرس في العديد من البلاد الإسلامية إلاَّ في المدارس الابتدائية، ولا تعتبر مادةُ الدين من المواد الأصلية المؤثِّرة في نَجاح الطالب أو رسوبه في الامتحانات، وهذا أمرٌ تعود المسؤولية فيه على الحكومة أولاً، ثم على الأُمَّة التي اختارت نوابًا لها في برلمان هذه الحكومة.
سادسًا: عزل الإسلام عن الحكومة ومنعه من التدخُّل في شؤونِها يترتَّب عليه الحظر على علماء الدين الحقيقيِّين الاشتغال بالسياسة، واستجلاب آخرين مداهنين لها.
الفصل بين الدين والحكومة يعني حظر الحكومة على علماء الدِّين الحقيقيِّين الاشتغال بالسياسة، ومن ثم اعتمادها على علماء دين موالين لها ممن يُحبون الرِّئاسة والسلطة، الدين عند هؤلاء الأخيرين حرفة وصناعة، وليس عقيدة حارة دافعة، ويقولون على الله غيرَ الحق، فيفتون في أمور يقولون: إنَّها حكم الله، وشرعه ودينه، وهم يعلمون أنَّ دينه وشرعه وحكمه غير ذلك، وهذا من شأنه أن يفقد الناس الثقة في الدين بعد ما فقدوا الثقة بعلمائه.
سابعًا: فصل الدين عن الحكومة هو ثورة حكومية على دين الشعب، وارتداد منها عن الإسلام أولاً، ومن الأمة ثانيًا.
جرت العادة أن تكون الثورات من قبل الشعب على الحكومة، أمَّا أن تثور الحكومة على دين الشعب، بمعنى أن تشق عصا الطاعة من الحكومة لأحكام الإسلام، فهو ارتدادٌ من الحكومة عن الإسلام أولاً، ومن الأمة ثانيًا أفرادًا وجماعة.
يقول الشيخ "مصطفى صبري": طالما أنَّ الحكومة ليست إلاَّ ممثلة للشعب أو وكيلة عنه، ولا تعمل غير ما يرضاه الشَّعب، فإنَّ خروجَ هذه الحكومة عن الدِّين لا يَمنع من خروج موكلها، وهو الشعب عن الدين، ولو بالتدريج، ويعود ارتداد الأفراد هنا إلى قبولهم الطاعة لتلك الحكومة المرتدة، التي أعلنت الاستقلال لنفسها بعد أنْ كانت خاضعة لحُكم الإسلام عليها، ويعني هذا الفصل باختصار: خروج حكومة المسلمين من ربقة الإسلام، ورقابته عليها، وخروج الأمة أيضًا من ربقته باختيارها، والحكومة الخارجة على الإسلام حكومة لها، لا سيما الحكومة المستندة إلى البرلمان، المستند بدوره إلى الأمة.
ويسجل التاريخ هنا شهادة أحد نُواب البرلمان في دولة إسلامية، بَذَلَ هذا العالِمُ النائب جهودًا مضنية لإقرار حكم الله في البرلمان، ولما عجز عن ذلك خاطب البرلمان قائلاً:
"يا حضرات النواب المحترمين، لست عابدَ منصب، ولست حريصًا على كرسي لذاته، ولقد كان شعاري مع أهل دائرتي: "أعطني صوتك لنصلح الدُّنيا بالدين"، وكنت أظن أنَّه يكفي لإدراك هذه الغاية أن تُقدَّم مشروعات القوانين الإسلامية، لكنَّه تراءى لي أنَّ مجلسنا هذا لا يرى لله حكمًا إلاَّ من خلال الأهواء الحزبية، وهيهات أن تسمح بأن تكون كلمة الله هي العليا... لقد وجدت طريقي بينكم إلى هذه الغاية مَسدودًا؛ لذلك أعلن استقالتي من البرلمان غير آسف على عضويته".
ولهذا يرى الشيخ "مصطفى صبري" أنَّه لا يَجوز لدولة تُعَدُّ دولةً للمسلمين أن تفعل ما تشاء غير مُقيدة بأمر الدين ونهيه، فإذا خرجت حكومة أمة مسلمة عن حدود دين الأمة من غير ادِّعاء لنفسها حق الانفصال عن الدين، كانت حكومة فاسقة، شأنها في ذلك شأن أحد المذنبين من أفراد المسلمين، لكنها لا تكون في هذه الحالة حكومة مُرتدة عن الإسلام؛ لأنَّها فصلت الدين عن الدولة عمليًّا لا علميًّا واعتقاديًّا، وهنا ينطبق عليها قوله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47].
أمَّا إذا خرجت عن حدود الدين، واعتبرت أنَّ هذا الخضوع لأوامر الدين ونواهيه - واجب على الشعب فقط دون الحكومة، فهذا فصلٌ للدين عن الدولة مبدئيٌّ؛ أي: علمي واعتقادي، ويعدُّ ارتدادًا للدولة عن الإسلام، وارتدادًا للأمة معها، فإذا رضيت الأُمَّة هذا الوضع لحكومتها، أو كانت في حكم الراضية؛ لكون الحكومة حكومة برلمانية تحكم بالنيابة عن الأمة، فينطبق عليها هنا قوله - تعالى -: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
ثامنًا: ضرر تولي حكومة مُرتدة عن الإسلام أشدُّ على دين الإسلام وأبعد من تولي حكومة محتلة أجنبية عن الإسلام:
يقول الشيخ "مصطفى صبري": "إنَّ الحكومةَ الأجنبية لا تتدخَّل في شؤون الشعب الدينية، وتترك له اختيار جماعة تفصل في شؤونه، وطالما أنَّ الشعبَ يعتبر حكومته التي اختارها هي حكومته، فإنه سيرتد عن الدين تدريجيًّا بارتداد هذه الحكومة، وقد يرتد عن الدين دفعة واحدة على أساس أنَّه مضطر لطاعة الحكومة، التي تأخذ سلطتها منه؛ أي: الشعب، في حين أنه ليس مضطرًّا لطاعة الحكومة الأجنبية، بل يظل يقاومها حتى تخرج من بلاده".
تاسعًا: تجريد الحكومة من الدين يعني تطبيق قوانين غير إسلامية على المسلمين:
المعروف عن الإسلام أنَّه يضم تحته كل ما تحتاج إليه الدولة والأمة من قوانين، فهو مستغنٍ بنفسه عن غيره، ولا يُدانيه في هذه الخصلة أيُّ دين آخر، فجميع قوانينه مُستنبطة من الكتاب والسنة فعلاً، ومدونة في آلاف مؤلَّفة من كتب الفقه وأصول الفقه، ولهذا فإن فصل الدين عن الحكومة يعني تطبيق قوانين غير إسلامية على المسلمين، وعلى الرغم من أن القوانين غير الإسلامية لا تؤثر أصلاً في موضوع أحكام الشريعة الإسلامية وبقائها كما هي لا تُمَسُّ بتغيير أو تعديل، فإنَّ تأثير القوانين غير الإسلامية يقع فعلاً عند تطبيقها، ويُسجل التاريخُ هنا أنَّ اتِّخاذ خطوة في سبيل تطبيق القوانين غير الإسلامية كتوحيد القضاء مثلاً بإدماج المحاكم الشرعية في المحاكم الأهلية - تَرَتَّبَ عليه إلغاء المحاكم الشرعية بعد ذلك، وهذا ينافي تمامًا كون الإسلام دين حكم؛ ليكون الحكم على الناس من الناس أنفسهم.
عاشرًا: فصل الدين عن الحكومة عامل محوري في انهيار أخلاق الأمة:
يعترف فلاسفة الغرب أنفسهم بأنَّ الأخلاق من غير دين عبث، والأُمَّة من غير أخلاق أمة مريضة بداخلها وإن كانت قوية في مظهرها، والدين لا بد أن يجيء من قِبَل الله الذي يجب أنْ يَخافه الناس قَبْل كل شيء، والتمسك بالدين شرط لازم وحيوي لكيان الأمة، ولهذا يلزم أن تكون الحكومة خاضعة للدين، تعمل على مصلحة الأمة، وتحميها من تطرق الفساد إليها؛ ذلك لأنَّه إذا لم تتقيد الحكومة في البلاد الإسلامية بقواعد الإسلام، وتركت الشعب لنفسه في مُراعاة الأحكام الشرعية، أو أهملت ذلك، سينتهز المستعدُّون من الناس لهتك الآداب والحرمات للجري في طريق الشهوات، من المترفين المتصلين بالحكومة وغير الملتزمين بالدين، فتنتقل العدوى من هذه الطبقة العُليا إلى الطبقات الوُسطى والدنيا التي تعتبرها قدوة لها في الحرية، وهنا يعمُّ الفجور والسفور في النساء، ويتعذَّر على المحافظين على الآداب الإسلامية تنفيذُ مبادئهم في عقر أسرهم، وخاصة على أولادهم وبناتهم، ويترتب على ذلك ميلاد جيل لا ديني؛ لأنَّ الشعبَ المسلم المتدين أصلاً سوف يفنى يومًا بعد يوم، ويعقبه من ذريته جيلٌ يعتقد بأن هذا الفصل طبيعي، فيتبنَّاه ويدافع عنه، وهذا هو ما حدث بالفعل بعد إلغاء الخلافة في تركيا.
يطرح الشيخ "مصطفى صبري" سؤالاً مُهِمًّا مؤداه: "إذا لم تكن الحكومة صالحة من نفسها ولم تقبل الصلاح والتديُّن بطُرُق سلمية، هل يتعين عندئذٍ قلبُ الحكومة وتقويمها بالسيف؟
يُجيب "الشيخ" على هذا السؤال، فيقول: لا... لأن شنَّ الحرب الأهلية ضد الحكومات التي تكون السلطة في يدها، والتي تدخر جميع قوى السُّلطة لحفظ البلاد - أمرٌ لا يجترئ عليه عاقل، فالسلطة في يد الحكومة، ويصعب التغلُّب عليها؛ لأنه يكفيها أن يكون الجيش وقائده الأعلى في جانبها، والدليل على ذلك أنَّ الذين ثاروا على السلطان "عبدالحميد" في تركيا، ثم السلطان "وحيد الدين" حصلوا على مُؤازرة من الجيش، ثم صارت الكلمة بعد ذلك للجيش، الذي تحول من جيش للدولة إلى جيش للحزب.
الحل في نظر الشيخ "مصطفى صبري" هو إصلاحُ خاصَّة المثقَّفين، واكتسابهم بالبحث والمناظرة، ثم مُواجهة الحكومة إذا تطلَّب الأمر ذلك بأيدي هؤلاء الصالحين، وفتحها بوسائلهم السلمية.
لكن هناك من يَختلف مع الشيخ "مصطفى صبري" في التعويل على المثقفين واكتسابهم إلى صف العقيدة، ويقول أصحاب هذا الرأي: "إنَّ الدلائلَ والبراهين لا تنقص الذين يلجون في الضلال، إنَّما الذي ينقصهم آفة في القلب، وعطل في الفطرة، وانطماسٌ في الضمير، وأنه لا يَجوز لصاحب الدعوة أن يعلق قلبه وأمله بالمعرضين عن الدعوة، المعاندين لها، الذين لا تنفتح قلوبهم لدلائل الهدى وموجبات الإيمان، إنَّما يَجب أن يفرغ قلبه، ويُوجه أمله وعمله للذين سمعوا واستجابوا، فهؤلاء في حاجة إلى بناء كيانِهم كله على القاعدة التي دخلوا الدين عليها، قاعدة العقيدة، وفى حاجة لإنشاء تصور لهم كامل وعميق عن الوجود والحياة على أساسِ هذه العقيدة، وفي حاجة إلى بناء أخلاقهم وسلوكهم على هذا الأساس نفسه، ويَحتاج هذا كله إلى جهد، ويستحق هذا الجهد، أمَّا الواقفون على الشق الآخر، فجزاؤهم الإهمال والإعراض بعد الدعوة والبلاغ".
يخلص الشيخ "مصطفى صبري" إلى القول بأن: "المسلمين إذا لم يكن قد قدَّر الله - تعالى - أن يقطع دابرَهم بالاستمرار في وُلوجهم في طريق الدَّمار، فهم في حاجة إلى تدارُك أمرهم بالرُّجوع إلى حضانة الإسلام، فيتربَّوا فيها، ويُبعثوا من جديد في ظل الإسلام؛ لأنَّه لن ينفعهم البحثُ عن أسباب البعث في حضانات أجنبيَّة، فيَنْشَؤون أُمَّةً ممسوخة، لا شرقية ولا غربية، ولا مسلمة ولا كتابية".
الإحالة:
1- أحمد إبراهيم خضر، "رُؤية إسلامية في التحليل السوسيولوجي للعلاقة بين الدين والحكومة"، مجلة أصول الدين، جامعة أم درمان الإسلامية، العدد الأول 1405 - 1984ص 69 - 88.
2- أحمد إبراهيم خضر، "مناصرة شريعة الله في البرلمان"، مواقع بوابتي تونس، رسالة الإسلام، التوحيد، ومجلة البيان بعنوان: وقائع برلمانية.
3- مصطفى صبري، "موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين"، دار إحياء التراث العربي، بيروت ج1، ص 162 - 165، ج 4، ص 281 - 376 بتصرف.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
24-04-2011 / 21:13:04 محمد الصالح الضاوي
تعقيب على مقال الدين والحكومة في دولة الخلافة
السلام عليكم
الحمد لله والصلاة على أفضل خلق الله:
أود طرح بعض النقاط، تعقيبا على المقال:
أولا: الذي تغير اليوم في الثنائية التي عالجها المقال هو الدولة وليس الدين. فمفهوم الدولة تغير وأصبح له عدة آليات للتنظيم والسياسة، منها الديمقراطية باعتبارها آلية تنظيم للمجتمع ومكوناته.
ثانيا: الإسلام زمن الرسول عليه السلام، لم يضع هدفا: الدولة، والدليل أن معالم الدولة لم تتضح زمن الرسول ولم يبين لنا أسسها وطرق الحكم الاسلامي.
ثالثا: أكثر من نصف عمر الدعوة زمن الرسول كانت بلا أي أساس انتظامي سياسي، وكان التركيز على التوحيد والأخلاق.
رابعا: الفتح الذي تحدث عنه القرآن في سورة الفتح كان فتحا قلبيا باطنيا، وسماه فتحا مبينا، وليس فتحا عسكريا.
خامسا: كل القبائل والدول التي أسلمت زمن الرسول وبايعنه، لم يتغير نظام حكمها السياسي، ولم يطلب منهم الرسول بإقامة دولة إسلامية كما يردده الآن الكثير من الناس.
سادسا: لو كان هناك نظام إسلامي للحكم والسياسة موروثا من النبي عليه الصلاة والسلام، لما تردد أهل السقيفة في موضوع الخلافة، ولما اختلفت طريقة انتقال الحكم من خليفة إلى آخر.
سابعا: القرآن، والإسلام بصفة عامة، يحث وبؤكد على العدل أكثر من تأكيده على الخلافة والسياسة، لما للعدل من فضائل، حتى أنه روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: سلطان كافر عادل خير من سلطان ظالم مسلم.
ثامنا: بعد الفتنة الكبرى التي عرفها المجتمع الاسلامي، انزلقت الدولة الاسلامية في سياسة بعيدة عن الاسلام إلا استثناءات، ولا يغررك تسميها بالخلافة، فإن اسم الخلافة لا يعطيها الشرعية.
تاسعا: الدليل على أن العدل أساس السياسة، هو واقع المسلمين الذين يعيشون في أروبا، فهم يجدون حريتهم في ممارسة دينهم رغم إلحاد هذه الدول، ولا يجدونها في أي بلد يتسمى بالاسلام.
والسلام عليكم
24-04-2011 / 21:13:04 محمد الصالح الضاوي