د- جابر قميحة
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7017 gkomeha@gmail.com
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لا يختلف اثنان في أهمية وسائل الإعلام، وآثارها في السلم والحرب، وهي آثار بالغة شاملة، لها قدرة توجيهية في مجالات السياسة، الاقتصاد، والحكم والتربية. ووسائل الإعلام منها المقروء كالصحف، ومنها المسموع كالمذياع، ومنها المرئي كالتلفاز، وكان آخر أطواره ـ هو ما يسمى " بالإنترنت ".
وقد استطاعت المؤسسات التنصيرية والصهيونية توظيف هذه الآليات بجهود وإمكانات هائلة متواصلة، وأكدت جميع المؤتمرات ـ التي ناقشت موضوع استخدام وسائل الاتصال الجماهيري ـ ضرورة إنشاء الإذاعات في كل مكان، وفي كل فرصة ممكنة، وإنشاء معاهد لإعداد الإذاعيين، وتدريب الكوادر، وإقامة مؤسسات لإنتاج المواد الإذاعية وتزويدها بكل الإمكانات، وتدعيمها ماليًّا بكل ما يجعلها قادرة على الوفاء بالتزاماتها.
**********
وبعد هذه التوطئة نقترب من الآثار البالغة لوسائل الإعلام في تحقيق الهزيمة. وبالاستقراء وجدنا أن الهزيمة تتحقق بتحقق صورة من الصورتين الآتيتين :
1- التهوين من قدرة العدو.
2- المبالغة في تقدير القوة الذاتية إلى حد الإغراق المؤدي إلى الغرور في مداه الأقصى ، وهو ما أسميه " الإعلام الانتفاشي ".
فحتى يحقق الإعلام رسالته المطلوبة يجب ألا ينفصل عن واقعين : الواقع الذاتي ، وواقع العدو.
**********
وما أقدمه في السطور الآتية يعتمد في أغلبه على الرؤية والمشاهدة أكثر من اعتماده على النظريات والتقنينات :
لا أنسى أبدا سنة 1956 وأنا أنظر إلى مجموعة من الحرس الوطني تعد للقتال، ويوجهها ضابط ثقيل شحيم، يظهر على وجهه أثر النعمة والرفاهية، وسمعت توجيهه لجمهوره من الحرس الوطني في قوة وحماسة : " اسمع يا عسكري أنت وهوه … أنا مش عايز أسرى … ماعندناش وقت للأسرى … واللي هيجيبلي أسير من الأعداء هحولوا مكتب . ( ومفهوم كلام القائد الناعم إنه يريد من رجاله اكتساح العدو اكتساحا يتفجر بالدم ).
ثم كانت الهزيمة المعروفة سنة 1956، وفي 23 سبتمبر احتفلنا بما سميناه عيد النصر. ولم نتعلم مما وقع بنا، وظل نظامنا يعيش في رومانسية وردية، أصواتنا أعلى من واقعنا، وأكبر من قاماتنا. كأننا نعيش في " يوتوبيا " نقوم ونصحو على خيالات لها أريج فواح، ونتقلب في حرير وحرير.
**********
ثم كانت سنة 1967 وفيها أعلن عبد الناصر عن طريق الإعلام المسموع والمرئي أنه سيلقي بدولة العدوان إسرائيل في البحر، فارتفعت أصوات إذاعاتنا تحمل هذا المعنى التهديدي.
وفي الوقت نفسه خاطب الإعلام الإسرائيلي دول العالم بالنص التالي " إلى كل ذي قلب رحيم في أي بلد من بلدان العالم، نأمل أن تعملوا جميعا على إيواء أطفال إسرائيل، هربا من تهديدات عبد الناصر وإصراره على أن يلقي بإسرائيل في البحر ".
وكانت الإذاعة المصرية تكرر ليل نهار هذا التهديد الصاعق في الوقت الذي تكرر فيه الإذاعة الاسرائيلية ليل نهار رسالتها الباكية الموجهة لكل بلاد العالم.
فنجح عبد الناصر في خسارة أصوات العالم، ونجحت اسرائيل في كسب قلوب الدول وتعاطفها. وهي براعة تسجل لها في مجال الإعلام.
ومعروف أن عبد الناصر في الأيام الأخيرة من مايو سنة 1967 عقد مؤتمرا إعلاميا عالميا … وما دار فيه معروف، ولكن يهمني في هذا المقام، أن صحفية، أو صحفي انجليزي وجه إليه سؤلا مؤداه : وهل سيادتك تستطيع في هذه السن أن تتحمل الأعباءالحربية و النفسية ؟ فكان جوابه الفوري : " أنا مش خِرع زي إيدن ". وإيدن كان رئيس الوزراء البريطاني آنذاك. وهللت إذاعاتنا لهذه الحكمة الناصرية، بل صنعوا منها الأغاني التى تذاع مئات المرات على الجماهير، وأذكر منها ما غناه محمد طه بفرقته ومزاميره، وطربوشه المعروف : أنا مش خرع زي إيدن قالها ريسنا … أنا مش خرع زي إيدن قالها ريسنا.
وتحول الإعلام المصري إلى أبواق رنانة … لا تصور واقعا، ولكن كما قلت كانت أصواتها أكبر وأعلى من قاماتنا، وواقعنا. ولا ننسى أحمد سعيد بحنجرته المجلجلة : " اضرب يا أخي... دمر يا أخي ... ارفع رأسك فالعدو إلى اندحار حتمي، ودارت الأغاني : مثل ابنك بيقولك يابطل هات لي انتصار... الخ وكأن الانتصار مصاصة أو حبة بونبوني.
**********
أما شعارات الحرب التي كانت ترددها الجماهير فحدث عنها، ولا حرج، ومنها: " في العقبة قطع الرقبة "، " عبد الناصر يا حبيب بكره عيدنا في تل أبيب ".
وكان الواقع المر أقوى منا بكثير، بسبب الأخطاء القاتلة النى وفعت فيها القيادة، ولم تعرضها الدولة في صورتها الحقيقية.
وأشهد أنني كنت في مدينة الإسماعيلية في بداية النكسة ورأيت مئات من الجنود المصريين المساكين منسحبين، وهم في حالة يرثى لها. وليس معهم ضابط واحد، ولا يدرون ماذا يفعلون، ومدهم أهالي الإسماعيلة بالطعام والشراب والدواء، في الوقت الذي يحتل فيه الإسرائيليون الضفة الشرقية للقناة، وكانوا يسمحون للجنود المصريين بالعبور إلى الضفة الأخرى من القناة، لا رحمة بهم، ولكن ليحكوا للجماهير تعارض الخطط العسكرية المصرية، بين تقدم وقاوم، وبين انسحب إلى الضفة الأخرى.
رأيت ذلك وأفتح المذياع وأسمع صاحب الحنجرة المجلجلة : اضرب يا أخي... دمر يا أخي... الخ. ولا أنسى ليلة سلط فيها اليهود مدافعهم على مدينة الإسماعيلية، فقتل العشرات ، وجرح أكثر منهم : ومازالت الحنجرة الفولاذية تجلجل وتدوي : اضرب يا أخي... دمر يا أخي... الخ.
وبإعلامنا احتل اليهود غزة بلا قتال
كتب الصحفي أشرف أبو الهول ".... وهنا سألتهم (شيوخ العشائروالمخاتير والأعيان من سكان جنوب قطاع غزة ) عن طبيعة القتال الذي جرى أثناء الاجتياح الإسرائيلي لقــطاع غزة ". فأجابوا جميعا في نفس واحد " لم يكن هناك قتال " ولم أفهم الإجابة، وتصورت أن الفدائيين الفلسطينيين ربما قاتلوا الإسرائيليين خارج القطاع، ولما انهزموا دخل الإسرائييليون القطاع. وهنا كانت الصدمة : لا لم يخرجوا، ولم يقاتلوا، فالإسرائيليون دخلوا أولا، وسيطروا، وقتلوا من قتلوا، واعتقلوا من اعتقلوا. ولم يقاتل إلا من نجا من تلك المذبحة، وفرإلي خارج القطاع ليحارب، ولكن بعد أن كانت الحرب قد انتهت فعليا، وحملت اسم النكسة.
لكن لماذا سقطت غزة بلا قتال ؟ أجاب من ذكرتهم آنفا : أوهمتنا الإذاعة المصرية أن الجيوش العربية حققت انتصارات ساحقة، وأنها على مشارف تل أبيب، والجنود الإسرائيليون بين قتلى ومستسلمين. واستغل الإسرائيليون هذا الوضع، فأرسلوا دباباتهم إلى القطاع من اتجاه العريش وهي ترفع الأعلام العربية، وبخاصة العراقية، ويظهر من أبراج بعضها جنود يتكلمون اللهجة العراقية، وبالتالي ظننا جميعا أن هذه قوات عراقية صديقة جاءت للمشاركة في حرب النصر والتحرير. ففرحنا جميعا... ولم نعرف الحقيقة إلا بعد أن كانت الدبابات الإسرائيلية قد انتشرت في كل القطاع تقريبا...... " ( من تحقيق : أشرف أبو الهول.الأهرام 18 6 2009 )
**********
وظهرت حقيقة النكبة في اليوم الذي أعلن فيه عبد الناصر تنحيه عن الحكم، وإعلانه بأنه سينزل إلى صفوف الجماهير. وهنا يأخذ الإعلام النفاقي مكانه ليزيد الطين بلة. فرأينا أم كلثوم تنشد مخاطبة عبد الناصر بأغنية كلها رجاء وذلة إذ تطلب منه العودة إلى مكانه لقيادة الجماهير، وتظهر فيها أننا ــ نحن الشعب المصري ــ قد تعلمنا من انكسارنا، وعدلنا صفوفنا، وتبنا عما ارتكبناه من أخطاء وخطايا.
ومما جاء في هذه القصيدة (وهي من نظم الشاعر المصري صالح جودت) :
فارسم أنت طريق العودة
وتقــدمْ يتبعـْـك الشـعــب
دُمْ للشعـبْ
(القصيدة كاملة نشرت في مجلة المصور بتاريخ 16 – 6 – 1967 )
**********
وأذيِّـل هذا المقال بــ " المعبِّر الأساسي الوحيد " للشعب المصري المطحون وهو النكتة، فعبَّـر هذا الشعب بذكائه الفطري عن حقيقة النكبة التى أخفوها عنه. ومن هذه النكات :
ــــ قيل إن قائد الجيش المصري أعلن للشعب أنهم سيحتلون تل أبيب في التاسعة من مساء اليوم، وطلب من الجماهير أن يفتحوا الراديو ليعلن عليهم التهنئة بالانتصار من إذاعة تل أبيب.
وفي تمام التاسعة سمع المصريون سيادة القائد يقول من إذاعة تل أبيب : أنا القائد ( فلان )، أهدي سلامي إلى أهلي وأبنائي، وأنا الآن أعامل معاملة طيبة.
ـــــ وقيل إن قائدنا العام أعد حقيبته للذهاب إلى تل أبيب، ولكنه عاد إلى بيته مسرعا، فسأله أهله : ما الذي حدث ؟ فأجاب : الناس اللي أنا كنت رايح لهم في تل أبيب، ريَّحوني، ولقيتهم هم اللي جُولنا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: