(57) الدين الضائع بين الإنتفاع بثقافة الآخر والتأثر بها
"من باروخ اسبينوزا إلى حسن حنفى" [3]
د - أحمد إبراهيم خضر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11660
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
طلب يحيى البرمكى وزير هارون الرشيد من ملك الروم كتب اليونان التى كانت محجوبة عن النصارى خشية افتنانهم بها، فاستشار الملك البطارقة في ذلك، فرفضوا جميعا إلا واحدا منهم قال له يحثه على إرسالها :" أيها الملك إرسلها إليهم، والله ما دخلت هذه الكتب على قوم عندهم شريعة سماوية إلا أفسدت شريعتهم وأوقعت الخصومة بينهم". فجمع عليها البرمكى كل زنديق وفيلسوف. ( عثمان على حسن، منهج الإستدلال على مسائل الإعتقاد عند أهل السنة والجماعة، 605/606)".
ويقول ابن خلدون :" ولما فتحت أرض فارس ووجدوا فيها كتبا كثيرة، كتب سعد ابن أبى وقاص إلى عمر ليستأذنه فى شأنها ونقلها للمسلمين، فكتب إليه عمر: " أن اطرحوها فى الماء، فإن يكن فيها هدى فقد هدانا الله بأهدى منه، وإن يكن ضلالا، فقد كفانا الله إياها، فطرحوها فى الماء أو فى النار".( تاريخ ابن خلدون 1/629).
اهتم " الباحثون الإسلاميون المعاصرون " بقضية موقف المسلم من ثقافة الآخر. وكانت خلاصة ما توصلوا إليه الآتى:
1- أن النظرة إلى الثقافة تختلف بين الباحثين الغربيين والباحثين الإسلاميين. يرى الغربيون أن الثقافة هى كل ما صنعه الإنسان من عناصر مادية وروحية، وهى تشتمل في نظرهم على المعايير، والغايات، وأشكال السلوك، والنظم، والأفكار، والمثل العليا، والإتجاهات، والإيديولوجيات التى يسترشد بها الإنسان في سلوكه ويبرر بها هذا السلوك. ويمتزج داخل هذه الثقافة كافة القوى والمنجزات الفكرية والروحية والإجتماعية والمادية وصور التعبير كالدين، والعادات ، والفنون ، ومنظمات المجتمع من الأسرة حتى الأمة، ومستوى التكنولوجيا المستخدمة، وكذلك القدرة على التنظيم الإقتصادى والعمل العسكري. انظر: ( محمد عاطف غيث وآخرون، قاموس علم الإجتماع)
2- تعنى الثقافة بالمعنى الإصطلاحى عند الباحثين الإسلاميين : المعرفة التى تؤخذ عن طريق الإخبار والتلقي والإستنباط وتشمل التاريخ، واللغة، والفقه، والفلسفة، وسائر المعارف غير التجريبية. وهناك فرق بين العلم والثقافة. فالعلم عالمي لجميع الناس لا تختص به أمة دون أمة. والثقافة إما خاصة : تنسب لأمة معينة وتعتبر خاصة من خصوصياتها كما في الأدب، وسير الأبطال، والتصوير، والنحت، والموسيقى. وإما عامة : كالتجارة، والملاحة، والحرف، وما شابه ذلك من الصناعات.
3- هناك فارق بين التأثر بالثقافة والإنتفاع بها. فالتأثر بالثقافة يعنى دراستها وأخذ محتويات أفكارها وإضافتها إلى الثقافة الأصلية، إما لوجود أوجه تشابه بينهما وإما لاستحسانها. ويؤدى التأثر بالثقافة إلى الإعتقاد في أفكارها وإلى اختلاط الأفكار مع بعضها وضياع الأفكار الأصلية منها. أما الإنتفاع بالثقافة فيبدأ بدراسة الثقافة دراسة عميقة ومعرفة الفروق بينها وبين الثقافة الأصلية، واستعارة المعاني والتشبيهات دون أن يتطرق التناقض للثقافة الأم، ودون أخذ أو تبنى أفكار الثقافة الأخرى عن الحياة والتشريع بحيث لا تؤثر مطلقا على وجهة النظر في الحياة.
4- تختلف دراسة المسلمين الأوائل للثقافات غير الإسلامية عن دراسة المثقفين العصريين لهذه الثقافات.. كان المسلمون الأوائل يجعلون عقيدتهم أساس ثقافتهم، وكانوا يدرسون الثقافات غيرالإسلامية للانتفاع بها وليس لاعتناق أفكارها، بمعنى الإنتفاع دون التأثر. فبالنسبة للمعارف الشرعية كالتفسير والحديث والفقه، لم تتأثر مطلقا بالثقافات غير الإسلامية، إذ انطلق الدارسون من قاعدة أن الشريعة الإسلامية تجب جميع الشرائع السابقة لها وأنه من الضروري التقيد بأحكام الإسلام. كما لم تتأثر اللغة العربية بلغات البلاد المفتوحة وثقافتها، بل هى التى أثرت فيها، وكادت اللغات الأخرى تتلاشى، وبقيت اللغة العربية وحدها هى لغة الدولة، والثقافة والعلم، والسياسة. وبالرغم من انتفاع الأدب العربي بما صادفه في البلاد المفتوحة فإنه لم يتأثر بالأفكار التى تناقض الإسلام، وذلك باستثناء القليل من الشعراء الذين ذكروا في أشعارهم معان لا يقرها الإسلام. واصطدم المسلمون بديانات وثقافات مسلحة بالفلسفة اليونانية والمنطق، فركزوا جهودهم في إبطال هذه العقائد وإثبات زيفها، لكن البعض منهم لم يتقيد بالعقيدة الإسلامية، فتأثر بهذه الفلسفات فوقع في العديد من الأخطاء، وكانوا على نوعين : الأول : أخطأ في الفهم، لكنه كان يحمل عقيدة وعقلية إسلامية وهم المتأثرون بالثقافة الهندية التقشفية. والثاني: أخطأ في الإدراك وانحرف عن العقيدة تماما وهم المتأثرون بالفلسفة اليونانية.
5- موطن الإختلاف بين المسلمين الأوائل والمثقففين العصريين فى دراسة الثقافات غير الإسلامية هو أن العصريين يدرسون هذه الثقافات ويستحسنونها ويضيفونها إلى الثقافة الإسلامية بالرغم من تناقضها معها. وقد أدت هذه الطريقة من الدراسة إلى الأخذ بالعديد من الأفكار التى تحملها هذه الثقافات. انظر بتصرف : ( الثقافات غير الإسلامية: الإنتفاع لا التأثر، موقع حيران إنفو).
ونستشهد هنا بمثال صارخ نبين به كيف أن تجاوزالحد من الإنتفاع بالثقافة الغربية إلى التأثر بها قد أدى إلى نتائج وخيمة أبرزها ضياع عقيدة المثقفين العرب أولا ثم استخدام المثقفين العرب لمناهج الثقافة الغربية التى استخدمت فى ضرب دين الغرب فى ضرب الإسلام ذاته.
في مارس 1969 نشر الدكتور" حسن حنفي" مقالة بعنوان " رسالة في اللاهوت والسياسة ". وفي عام 1971 طور الدكتور هذه المقالة وجعلها مقدمة للترجمة التي قام بها للرسالة الأصلية بعنوان (سبينوزا – رسالة في اللاهوت والسياسة)، راجع الترجمة الدكتور "فؤاد زكريا".
هذه الرسالة هي أصلا للفيلسوف اليهودى "باروخ سبينوزا " أو "بندكت سبينوزا" بعد أن غير إسمه اليهودى من باروخ إلي بندكت. ولا يرى الكتاب الغربيون في "سبينوزا" مجرد فيلسوف فقط بل ينظرون اليه كـ (نبي) أيضا. ومنهم على سبيل المثال (ج. جروين في كتابه Spinoza on Knowing ص 61). وكذلك أيضا (جيمس حاتمان الذي قال في مقدمة كتابه (Ethics… By Spinoza) ما ترجمته :" لكي نفهم أي نبي تماما فعلينا كما قال "ماتيوز أرنولد في مقالته – سبينوزا والكتاب المقدس " أن نتعرف على حياته وشخصيته وأهدافه التي يسعى إليها والظروف التي ألف فيها كتابه ومن أي بلد وعبر أي أياد وصل إلينا هذا الكتاب. إن مقولة ماتيوز هذه يمكن تعميمها على المؤلفين الآخرين ومنهم – سبينوزا – حتما ".
في 27 يوليو عام 1656 أصدر يهود أمستردام قرارا بطرد سبينوزا من المجتمع الإسرائيلى. وجاء في قرار الطرد الآتى:
(... حاول رؤساء المجلس الإكليريكى بطرق متعددة وبوعود مختلفة بعد أن أحيطوا علما وبدرجة كافية بالآراء والتصرفات الشيطانية لباروخ سبينوزا صرفه عن طريقه الشيطاني. ولما لم تكن هناك جدوى من محاولات تصحيح
أفكاره وإبعاده عن الهرطقة التي يضمرها ويعترف بها، وبل وبالغطرسة التي يعبر بها عن هذه الهرطقة التي ذاعت وانتشرت على مسمع وشهادة من هو موثوق فيهم، فإن رؤساء المجالس بعد أن ناقشوا القضية كلها أصدروا قرارهم بحرمان المدعو سبينوزا من شركة المؤمنين وطرده من شعب إسرائيل ووضعه اعتبارا من هذه الساعة في قائمة المحرومين والملعونين... فلتلعنه ملائكة الأسبوع السبعة وبأفواه تابعيهم ومن يحاربون تحت ألويتهم.. ولتلعنه ملائكة فصول السنة الأربعة وتابعيهم ومن يحاربون تحت ألويتهم، وليكن ملعونا من الله القوى الشديد... ونسأل الله ألا يغفر له ذنوبه وأن يحرمه من كل أسباط بني إسرائيل.. ونحن نحذر كل واحد من التحدث إليه ولو بالكلمة أو الكتابة إليه أو أداء خدمة إليه، وألا يساكنه تحت سقف واحد، أو يقرأ أى كلمة يكتبها ".
الذي فعله سبينوزا هو أنه اتبع منهجا نقديا علميا في دراسته للتوراة والإنجيل وتوصل باستخدام هذا المنهج إلى نتائج مؤداها أن رسالة موسى (عليه السلام) قد حرفت ( ص 265 )، وأن موسى (عليه السلام) لم يؤلف الأسفار الخمسة (ص 266 )، وأن هناك شخصا آخر قد كتبها عاش بعد موسي بقرون عديدة. (ص 271 )، وأن (عزرا) هو الذي أجرى هذه التعديلات في التوراة والإنجيل لأنه هو الذي شرحهما لمعاصريه (ص 281 ). وتوصل "سبينوزا" أيضا إلى أنه ليس لليهود الآن ما يعزونه لأنفسهم مما هو خليق بأن يضعهم فوق سائر الأمم. وأنه أي "سبينوزا" لا يعتقد بأن اليهود هم شعب الله المختار(ص 188 – 189 ).
كان الدكتور " حسن حنفى " قد أعد مقالة بعنوان (الإغتراب الديني عند فيورباخ – مجلة عالم الفكر مجلد 10 ص 63) أثبت فيها التناقضات القائمة في المسيحية سواء في نظرتها لوجود الله وماهيته والتصورات الفلسفية عنه وكذلك التناقضات القائمة في التثليث والوحي الطقوس وفي الإيمان والحب والإنسان بوجه عام ".
إلى هنا كان يمكن للدكتور " حسن حنفى" أن ينتفع بما تعلمه من الثقافة الغربية بوجه عام ومن دراسة " سبينوزا" بوجه خاص، ويبرز الأدلة التى أقر بها فلاسفة الغرب أنفسهم على تحريف التوراة والإنجيل. لكن الدكتور " حنفى " تجاوز حد الإنتفاع بالثقافة إلى حد التأثر بها، فوقع فى المحظور.
الذي فعله الدكتور" حنفى " هو أنه حاول أن يطبق نفس المنهج الذي طبقه "سبينوزا" وأثبت به تحريف التوراة والإنجيل، على التراث الإسلامي عامة وعلى القرآن خاصة غير عابئ بقوله تعالى " : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون). وجد " حنفى" أن تطبيق هذا المنهج هو السبيل لتوضيح أصالة "سبينوزا" في تفسير الكتب المقدسة. لم يخجل الدكتور "حنفى" من كتابة ذلك بصراحة مطلقة حينما يتحدث عن الهدف الثالث من أهداف كتابته لمقدمة الترجمة فيقول في ص7 : (... والثالثة هي إسقاط المادة التي عمل عليها سبينوزا وإحلال مادة اخرى محلها مع الإبقاء على نفس المنهج، أعنى إسقاط التراث اليهودى وإحلال تراث ديني آخر وليكن التراث الاسلامي حتى تتضح جدة سبينوزا وأصالته فيما يتعلق بتفسير الكتب المقدسة ).
رفض الدكتور "حنفى" قوله تعالى :" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ورأى أن التمسك بهذا القول تمسك بنظرية لاهوتية صرفة تهرب من النقد وتلجأ إلى السلطة الإلهية.
يقول الدكتور " حنفى" في ص 21 – 22 :" يغالى البعض وأكثرهم من اللاهوتيين المحافظين الذين يدعون أن الله قد حفظ كتابه من التغيير والتبديل وأن العناية الإلهية هي الحافظة للنصوص، ومن ثم فلا داعي هناك لتطبيق قواعد المنهج التاريخي على النصوص الدينية وإقامة نقد تاريخي للكتب المقدسة......" إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" هي نظرية لاهوتية صرفة تهرب من النقد وتلجأ للسلطة الإلهية وهي شبيهة بالصدق الإلهى عند ديكارت فيما يتعلق بالمعرفة الإنسانية وقد يكون معنى الآية هو حفظ المعنى وحفظ تطبيق المعنى في الواقع لا حفظ النص الحرفي المدون فذلك ما يعتبر به التغيير والتحريف والتبديل. وهذا ما يتهم به القرآن أهل الكتاب ويؤيده النقد التاريخي للكتب المقدسة ".
نصّب الدكتور ( حنفى) من نفسه إذن مفسرا جديداً إلى جانب أئمة التفسير مثل الطبرى والقرطبي والسيوطي وغيرهم فراح يفسر آيات الله بالطريقة التي تمكنه من إخضاع كتاب الله لمنهج الفيلسوف اليهودى "سبينوزا". ويقر الدكتور" حنفى" بنفسه بأن ذلك يعتبر تعديا صارخا منه على هؤلاء الأئمة المفسرين كما أشار في الفقرة الأولى من مقدمته في ص 5.
ولنرجع إلى كتب التفسير التي تعدى عليها – الدكتور " حنفى" الذى أطلق على نفسه - الفقيه القديم - ولننظر بماذا يفسر العلماء قوله تعالى (انا نحن نزلنا الذكر انا له لحافظون).
جاء في الفتوحات الإلهية ج 2 ص 539 (... بخلاف سائر الكتب المنزلة فقد دخل فيها التحريف والتبديل بخلاف القرآن فإنه محفوظ من ذلك لا يقدر أحد من جميع الخلق الإنس والجن أن يزيد فيه أو ينقص منه حرفا واحدا أو كلمة واحدة ).
جاء في تفسير البيضاوى ص 538 :(... الحفظ من التحريف والزيادة والنقص ).
جاء في هامش النيسابورى من تفسير الطبرى ج 14 ص 8 : (.... حتى لو أن الشيخ المهيب لو اتفق له لحن في حرف من كتاب الله لقال له بعض الصبيان أخطأت)...
ويورد القرطبي في تفسيره ج 10 ص 6 واقعة اليهودى الذي عاد إلى المأمون بالإسلام. أخبر اليهودى المأمون بأنه أجرى زيادة ونقصا في التوراة والإنجيل وباعهما في البيع والكنائس ولم يعترض عليه أحد وأجرى مثل ذلك في القرآن لكن الوراقين ردوها عليه فعلم أن ذلك كتاب محفوظ وكان هذا سبب اسلامه.
الواقع أنه حينما اختار الدكتور "حنفي" رسالة ( سبينوزا ) لترجمتها إلى العربية لم يكن إختياره لها عشوائيا وإنما لحاجة ما في نفسه. ويعترف بأنه لم يكن قادرا على إخراج ما في نفسه على الملأ لأن القضية تمس العقيدة ويعتبر الخوض فيها جرأة على عقلية مجتمع وتعد صارخ على أهل التخصص من العلماء والفقهاء وجميعهم لم يبلغوا في نظره هذه الدرجة من التطور والتنوير يحيث يمكنهم تقبل ما يحدثه فى شؤون الدين بصدر رحب. ولهذا وجد الدكتور " حنفى " في رسالة (سبينوزا ) الملاذ والمخرج والستار الذي يختبيء ورائه ليحدث في أمر الدين ما يريد أن يحدثه. واعتبر (الدكتور ) أن اختياره المتعمد لترجمة هذه الرسالة هو تأليف غير مباشر ومن ثم فإنه أي ( الدكتور) يعتبر المؤلف غير المباشر لهذه الرسالة، فالرسالة في الواقع تقول ما يريد أن يقوله الدكتور. والفقرات الآتية التي وردت في (ص5) من هذه الرسالة تعكس ذلك بوضوح. يقول الدكتور " حنفى": " إن اختيار نصوص بعينها للترجمة في حد ذاته تأليف غير مباشر ويكون المؤلف في هذه الحالة مؤلفا بطريق غير مباشر وقد يكون الدافع لاتباع هذا النهج وهو التأليف من خلال الترجمة هو حساسية الوضع بالنسبة لبعض الطوائف التي ترى فيه تعديا صارخا على حقوقها أو جرأة على عقلية مجتمع ما لم يبلغ من التطور والتنوير ما يستطيع به تقبل الموضوع الجديد بسهولة ويسر، أو تعبيرا للمترجم عن نفسه من خلال الآخرين حتى تتحول القضية من الذاتية إلى الموضوعية ".
ويرى (الدكتور) في الفيلسوف اليهودي داعية يعتمد في إبلاغ رسالته على التأليف الواعي لما يناسب العصر وإحتياجاته ومن ثم فإن المترجم يرى من نفسه ( داعية ) أيضا لأنه يسعى أي المترجم إلى نفس الغرض الذي يسعى إليه المؤلف. يقول الدكتور" حنفى " في ( ص 5 ) :".... مهما يكن من شيء فالترجمة المختارة اختيارا دقيقا لما يناسب التأليف الحضاري والترجمة الهادفة تخدم نفس الغرض الذي يسعى اليه التأليف الواعي للداعية ".
أما هؤلاء الذين يقدم إليهم الدكتور " حنفى" أفكاره فهم - كما يقول - هذه الجماهير الجاهلة لأمر دينها والني تنتظر التنوير الذى يقدمه لها.
يقول الدكتور" حنفى" في (ص 8) : " ولكننا شئنا في هذه المقدمة اتباع الأسلوب السهل اليسير فهي مكتوبة للجمهور العريض لا للصفوة المثقفة حتى يعم الانتفاع بها مادامت مهمة المفكر الحالية هي إعطاء أكبر قدر من التنوير لأكبر عدد ممكن من الناس ".
ولأن (الدكتور) يعبر عن نفسه من خلال ( سبينوزا) كما في قوله في ص 5 (.... أو تعبيرا للمترجم عن نفسه من خلال الآخرين) فإنه من المنطقي ألا نجد في مقدمته إلا كل تأييد وتصديق وتسليم بآراء ( سبينوزا) دون زيادة أو نقصان فهو يتبعه شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى إذا دخل حجر ضب دخله معه كما يقول رسولنا ( صلى الله عليه وسلم). وليس الأمر عند (الدكتور) مجرد التأييد والتطبيق والتطوير لهذه الآراء، بل إعطائها إلى جانب ذلك تحليلات جديدة تدفع أفكار ( سبينوزا) إلى أقصى حد يمكن أن يستخلص منها.
هذا كله في نظر (الدكتور) هو ميزة الفكر الخصب أو المنهج الأصيل الذي يولد بالتعامل معه أفكارا أخرى. يقول (الدكتور) في حاشية الرسالة فى ( ص 5 ) :" إقتصرنا في هذه المقدمة على العرض الموضوعي المحايد لأفكار سبينوزا ومفاهيمه في تحليل النص الديني ولم نشأ التدخل من جانبنا بالزيادة أو النقصان فهي مقدمة تؤكد ثانية على تحليلات سبينوزا أكثر مما تضيف جديدا إليها ".
يقول (الدكتور) في (ص 6 ) عن الغرض من مقدمة ترجمته : " الغرض هو تطوير محاولة سبينوزا بإعطاء تحليلات جديدة ودفع أفكاره إلى أقصى حدودها واستخلاص نتائجها وعلى هذا النحو لايعني التقديم مجرد العرض بل التطوير والتطبيق والتأييد وهذه ميزة الفكر الخصب أو المنهج الأصيل الذي يولد بالتعامل معه أفكارا أخرى".
واقع الأمر هو أن الفيلسوف اليهودي ( سبينوزا) هو الذي شجع ( الدكتور) على التجرؤ على التراث الإسلامي وعلى القرآن بالرغم من اعترافه أي ( سبينوزا) بنقص إمكانياته اللغوية والثقافية وذلك بتعميمه تحليلات على مختلف الديانات ومنها الإسلام بالطبع يقول الدكتور في (ص 7) :" لقد كان سبينوزا نفسه يود تعميم تحليلاته على الديانات الأخرى لولا إمكانياته اللغوية والثقافية، ومع ذلك فقد عمم ( سبينوزا) تحليلاته على قدر ما استطاع على التراث المسيحي واليهودي واليوناني والروماني والإسلامي".
ولأن ( الدكتور ) يُسَلّم تماما بكل آراء (سبينوزا) أو لأنه يجد فيها ترجمة عما يدور في نفسه، فإنه لم يعلق بكلمة على قول هذا الفيلسوف اليهودي " أن القرآن مجرد أشعار لمن يقرأها ولايستفاد منها في الحياة العملية ". ولم يشر " الدكتور" أن مقولة " سبينوزا" هذه لا تتسق مع اعترافه بضعف إمكانياته اللغوية والثقافية، فكيف يمكن لمن لديه مثل هذا القصور أن يتهم القرآن بأنه شعر ليست له فائدة عملية ؟.
لم يكن " سبينوزا " هو أول من وصف القرآن الذى جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه شعر. كبراء قريش قالوا ذلك. ولهذا نفى الله عز وجل أنه علم الرسول الشعر. وإذا كان الله لم يعلمه فلن يعلم. فما يعلم أحد شيئاً إلا ما يعلمه الله. كما نفى الله عز وجل لياقة الشعر بالرسول صلى الله عليه وسلم. يقول ابن كثير فى تفسيره لآيات الشعر والشعراء :" قال تعالى: { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ } يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم ما علمه الله شعرًا، { وَمَا يَنْبَغِي لَهُ } أي: وما يصلح له، { إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي: ما هذا الذي علمناه، { إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } أي: بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره.. وعن الإمام أحمد فى الحديث " عن أبي نوفل قال: سألتُ عائشة : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتسامع عنده الشعر؟ فقالت: كان أبغض الحديث إليه. وقال عن عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه الجوامع من الدعاء، ويدع ما بين ذلك. وقال الإمام أحمد أيضا فى الحديث عن شَدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرض بيت شعر بعد العشاء الآخرة، لم تقبل له صلاة تلك الليلة".
يقول المفكرون الإسلاميون :" منهج الشعر غير منهج النبوة. الشعر انفعال. وتعبير عن هذا الانفعال. والانفعال يتقلب من حال إلى حال. والنبوة وحي على منهج ثابت، على صراط مستقيم يتبع ناموس الله الثابت الذي يحكم الوجود كله. ولا يتبدل ولا يتقلب مع الأهواء الطارئة , تقلب الشعر مع الانفعالات المتجددة التي لا تثبت على حال.
النبوة اتصال دائم بالله , وتلق مباشر عن وحي الله , ومحاولة دائمة لرد الحياة إلى الله. بينما الشعر - في أعلى صوره - أشواق إنسانية إلى الجمال والكمال مشوبة بقصور الإنسان وتصوراته المحدودة بحدود مداركه واستعداداته. فأما حين يهبط عن صوره العالية فهو انفعالات ونزوات قد تهبط حتى تكون صراخ جسد , وفورة لحم ودم ! فطبيعة النبوة وطبيعة الشعر مختلفتان من الأساس. هذه - في أعلى صورها - أشواق تصعد من الأرض. وتلك في صميمها هداية تتنزل من السماء ".
بقيت نقطة هامة أخرى : يقول الدكتور في (ص 7 ) : " مع أن صورة التراث الإسلامي عند سبينوزا مأخوذة من العصر التركي حتى أنه ليتحدث عن الأتراك ويقصد بهم المسلمين وهي صورة الطغيان الفكري والتعصب الجاهل وإضطهاد المؤمنين وسيادة الأحكام السابقة والوقوع في الخرافة......)
توضح هذه الفقرة التى أشار فيها " حنفى" إلى موقف " سبينوزا" من الأتراك التى وافقه عليها ، مدى حقد الفيلسوفين على الأتراك. الواقع أنه لا بد من وقفة مع هذه القضية ندحض فيها اتهامات " سبينوزا وحنفى" للترك نجملها على النحو التالى:
1- يقول الدكتور على زينى العميد الأسبق لجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليا) فى كتابه ( أصول القانون التجارى ) :" ظل لفظ الترك يستعمل أجيالا طويلة على لسان الغربيين كمرادف للمسلمين. وأكد ذلك "على حسين يعقوب الألبانى اليوغسلافى" فى قوله :" ولا يزال لفظ الترك يستعمل فى ألسنة الشعوب البلقانية كمرادف للمسلمين ". وهذا أبلغ دليل على ارتباط الترك بالإسلام.
2- يقول الزعيم الوطنى المصرى المعروف " محمد فريد" :" انبسطت عزة الإسلام وسلطانه على القارات الثلاث ودامت مدة دوام العز والغلبة للعثمانيين، حتى أنهم قد وضعوا الحصار على فيينا فى قلب أوربا مرتين، وهم ما كانوا يفعلون ما فعلوا من الفتوحات بإسم الترك بل بإسم الإسلام، ولم يكن الحاكم فى البلاد التى يحكمونها قانون الترك بل قانون الإسلام ". ويقول محمد فريد أيضا :" أنه لو لم تكن حماية الدولة العثمانية للإسلام ووقوفها طول حياتها فى وجه أعدائه لعاد الإسلام غريبا قبل ستة قرون من غربته الحاضرة الظاهرة للعيون".
3- يقول " أحمد بن زينى دحلان" فى كتابه " الفتوحات الإسلامية" :"لولا ظهور العثمانيين فى الأناضول آخذين التوسع إلى أوربا الصلييية لدام زحف جيوش الصليبيين إلى مصر وسوريا وفلسطين، وما كان من المستبعد أن يتقلص ظل الإسلام من تلك البلاد باستقرار الصليبيين فيها".
4- شهد السفير الفرنسى " أد انكلهارد" فى كتابه " تركيا والتنظيمات فى تاريخ إصلاحات الدولة العثمانية" ارتباط الدولة العثمانية بالإسلام لحد كون الإسلام فى تلك الدولة مؤسس الحكومة وبقائه بعد ذلك حاكما مطلقا فوق الحكومة أكثر من خمسمائة سنة إلى زمان التنظيمات الجديدة. وقد أتى السفير الفرنسى بهذه الشهادة عائبا على الدولة العثمانية صلتها القوية بالإسلام وعادا لها فى رأس الأسباب الموجبة لضغائن الدول الأوربية المسيحية عليها، تلك الضغائن المتمادية التى انتهت إلى انقراض الدولة".
5- ردا على ما قاله " سبينوزا" و " حنفى" فى الفقرة التى وصف فيها فترة الحكم العثمانى بأنها صورة للطغيان الفكري والتعصب الجاهل واضطهاد المؤمنين وسيادة الأحكام السابقة والوقوع في الخرافة يقول الدكتور " عبد الله عزام " أمين الجامعة العربية الأسبق :" لما وصل العثمانيون إلى شرق أوربا وكلها سجون أبدية يتوالد فيها الفلاحون للعبودية، فكسروا أغلال السجون وأقاموا مكانها صرح الحرية الفردية. فهم الذين قضوا على نظام الإقطاع والأرستقراطية ليحل محله نظام المواطن الحر والرعية المتساوية الحقوق، فوصل فى دولتهم الرقيق الشركسى والصقلبى وغيره إلى أكبر مقام فى الدولة، كما وصل النابه من عامة الناس حتى المجهول الأصل إلى مقام الصدارة العظمى والقيادة العليا، وتعلمت أوربا الشرفية على يد محرريها سيادة القانون على الأحساب والأنساب والطوائف والملل والنحل، فترتب على ذلك تطور هائل فى اتجاه الحرية والديموقراطية الغربية الحديثة، وكانت القرون الأولى لسيطرة آل عثمان عصورا ذهبية شمل فيها الناس الأمن والرخاء والسلام الروحى"، فأين الطغيان الفكري والتعصب الجاهل وإضطهاد المؤمنين وسيادة الأحكام السابقة والوقوع في الخرافة الذى تحدث عنه اسبينوزا وحنفى ؟.
انظر: (مصطفى صبرى، موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين، ج 1 ص 79- 86 )
ونعود إلى قضيتنا الأساسية مع الدكتور ( حسن حنفي). ( الدكتور) يريد في حقيقة الأمر إحداث مايسميه بثورة حقيقية في فكرنا الديني ويريد تأصيل هذا الدين عن طريق إخضاع القرآن للنقد التاريخي وفقا لنهج فيلسوفه اليهودي ( سبينوزا) يقول الدكتور في ص 11 من ترجمة الرسالة " إن الثورة الحقيقية فى الفكر الدينى والواقع السياسى قد قام بها سبينوزا..رسالة اسبينوزا إذن ثورة على الأوضاع الثقافية والسياسية فى عصره بل وفى كل عصر وتطبيق للنور الطبيعى فى مجال الدين والسياسة.....كانت مهمة سبينوزا تأصيل الدين وإخضاع الكتاب المقدس للنقد التاريخى. يقول " الدكتور" أيضا فى (ص 12): " فالأجدر بنا فى النصف الثانى من هذا القرن البحث عن الحلول الجذرية كما فعل سبينوزا منذ أكثر من ثلاثة قرون".
هذه هى محصلة تأثر المثقفين العرب بالثقافة الغربية بدلا من الوقوف عند حد الإنتفاع منها. ضياع للدين، وضياع لعقيدة المثقفين أنفسهم قبله.
-----------------
د. أحمد إبراهيم خضر
الأستاذ المشارك السابق بجامعات القاهرة، وأم درمان الإسلامية، والأزهر، والملك عبد العزيز.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: