د- جابر قميحة
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9888 Komeha@memanet.net
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
لما أسلم الملك الغساني جبلة بن الأيهم، وكان من ملوك أل جفنة كتب إلي عمر- رضي الله عنه – يستأذنه فى القدوم عليه فأذن له عمر.
فدخل المدينة في موكب لم تشهد هذه المنطقة مثله، فقد وضع التاج على رأسه، ولبس حلة من ذهب، وكان حرسه ومعيته يرتدون ملابس زينت بالفضة، ويمتطون خيولا مطهمة حليت بقطع من الذهب والجوهر. وقد عقدوا ذيول الخيول تعاظما ومباهاة.
مشهد عجيب غريب لم ير أهل المدينة ما يشبهه في حياتهم، فخرج الرجال والأطفال ينظرون في دهشة وإعجاب واستغراب.
وأحسن عمر استقباله فى المدينة، ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة، فبينما هو يطوف بالبيت – وكان مشهورا بالموسم – إذ وطيء إزاره رجل من بني فزارة، فانحل الإزار.. فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فاستعدى عليه عمر- رضي الله عنه – ودار بين عمر والملك الحوار الآتي :
- ماهذا ؟
- نعم يأ أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف.
- قد أقررت، فإما أن ترضي الرجل، وإما أن أقيدَهُ (أقتص له ) منك.
- وماذا تصنع بى؟
- آمر بهشم أنفك كما فعلت.
- وكيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سُوقة وأنا ملك ؟
- إن الإسلام جمعك وأياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتقوى والعافية.
- قد ظننت يا أمير المؤمنين أني أكون فى الإسلام أعز مني فى الجاهلية.
- دع عنك هذا، فإنك إن لم تُرض الرجل أقدتُه منك.
- إذن اتنصر.
- إن تنصرت ضربت عنقك، لأنك أسلمت، فإن ارتددت قتلتك.
- أنا ناظر في هذا ليلتي هذه.
وفى سكون الليل، وغفلة الناس هرب جبلة ومن معه إلى الشام، وعاد إلى النصرانية فكان سرور هرقل بذلك عظيما.
**********
وتعكس هذه الواقعة بكل تفصيلاتها كثيرا من المعطيات القيمية، من أهمها :
1- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استقبل الملك استقبالا عاديا بلا إسراف أو مغالاة. ولم يقم عليه حرسا، ولم ينزله في قصر أو دار كبيرة ، ولكن تركه يقوم بما يشاء سكنا وإعاشة شأن كل الناس.
2- أن عمر لم يأمر بإخلاء شارع أو شوارع له، ولم يستقبله بزينة من الجنود المسلمين، وتركه حرا ينطلق شأن الناس العاديين في مجتمع المدينة.
3- أن عمر ساوى في التعامل معه بينه وبين كل المواطنين من سكان المدينة، دون تفريق، في الحقوق والواجبات. فصفته " الملوكية " لا تمنحه في نظر الإسلام وخليفته ما يسمى بـ " معاملة الأفضلية ". ولم يجد عمر في حضوره إلى المدينة شرفا يفخر به أمام حكام البلاد الأخرى، فكل الناس في شرعة السماء سواء.
4- أن عمر حاسبه كما يحاسب عامة الناس إذ ارتكب خطأ في حق أحد المسلمين الذين لم يشغلوا حيزا في التاريخ.
5- أن عمر أصر على إحقاق الحق، لأنه اعتدى على أحد المسلمين، ولم يتدخل في الواقعة، وكان من الممكن أن يلتمس عمر تنازل ( الفزاري ) المعتدى عليه فينزل عن حقه بمقولة " فلتعف عنه فهو ضيفنا، وإكرام الضيف واجب ".
6- هرب الملك وانطلق هو ورجاله إلى القسطنطينية، ليعلن أمام هرقل الروم أنه عاد إلى النصرانية من جديد، واعتبر هرقل الروم أن ذلك انتصار على الخليفة المسلم والمسلمين.
7- هناك من الكتاب " وخصوصا المستشرقين" من اتهم عمر بسوء التصرف، مما ترتب عليه خسارة الإسلام والمسلمين لملك ومملكته، ولو عفا عنه لدخل الناس في الإسلام أفواجا... فالناس على دين ملوكهم.
وهو رأي سطحي ساذج، لأن رعايا الملك الغساني حينما علموا بما حدث ورأوا إصرار عمر على إقامة العدل أقبلوا على الإسلام باقتناع وقبول.
بل إن الملك نفسه ندم، وأظهر الحزن والندم على سوء تصرفه وقال شعرا منه البيتان الآتيان :
تنصرت الأشراف من عار لطمة =
وما كان فيها لو صبرت لها ضررْ
فيا ليت أمي لــــم تلــدني وليتني =
رجعت إلى القول الذي قال لي عمر
فعمر رضي الله عنه بتصرفه العادل كان أوعى وأبعد نظرا من هؤلاء الذين لا يرون أبعد من أنوفهم.
**********
ألحَّت عليَّ هذه الواقعة، بما تحمله من دلالات، في أيامنا هذه التى زار مصر فيها الرئيس الأمريكي باراك أوباما. وفي السطور الآتية أعرض بعض الملاحظات أو الحقائق مستصحبا واقعة جبلة بن الأيهم والخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولا تعجب يا أخي القاريء ؛ فبضدها تتميز الأشياء :
1- قبل زيارة الرئيس الأمريكي لمصر أخذت صحافتنا المسماة بالقومية تطبل وتزمر بصوت أعلى من صوت المعركة، معلنة عن الشرف العظيم الذي تناله مصر بهذه الزيارة، وأخذ رؤساء التكايا الصحفية يسألون ويجيبون : لماذا اختار الرئيس الأمريكي القاهرة ليلقي منها خطابه ؟ طبعا لأن القاهرة تمثل قلب العروبة، ومشاعر المسلمين في جميع أنحاء الأرض. ولو رحت أستعرض عبارات التعظيم الذي ستناله مصر بهذه الزيارة الفريدة لاحتجت إلى مقالات متعددة.
2- وبدأت قوى الأمن نشاطا غريبا جدا، لا مثيل له في أي بلد في العالم :من ذلك : سحب البطاقات الشخصية والعائلية من الذين يسكنون في شارع الجامعة وما يجاوره، وتصويرها.
3- إغلاق المحلات والمتاجر في طريق الجامعة ومنع حضور الطلاب يوم الزيارة.
4- العمل ليل نهار في التنظيف والترميم، فقبة الجامعة وحيطان المبنى غسلت بالماء والصابون والمواد الكيميائية، مع أنها لم يلامسها الماء من عشرات السنين. حتى عادت هذه المباني والطلاءات كأنها بنت الأمس.
5- الحاضرون في جامعة القاهرة مروا على "الفرازة الأمنية" قبل اختيارهم للحضور، وليس لغيرهم الحق في أن يحضر لسماع الرئيس الأمريكي.
6- وضعت الورود والزينات في مدخل الجامعة، ومدخل مسجد السلطان حسن، وبعد مغادرة أوباما هذه الأماكن بلحظات جاءت سيارة ضخمة وحملت هذه الورود إلى حيث يعلمون، بعد أن انتهت التمثيلية.
7- أخذت الصحافة المسماة بالقومية تتحدث عن الخطاب كأنه كتاب منزل، وتكرر الحديث عن فضل الرئيس الأمريكي لاختياره القاهرة لتوجيه هذه الدرر للعرب والأمم الإسلامية.
**********
وأطرح سؤالا قد يبدو غريبا وهو : لو فرضنا أن أوباما أراد أن يرى شوارع القاهرة بنفسه دون أن يظهر للناس شخصيته، فانطلق بسيارته في الشوارع ثم انحرفت سيارته ذات اليمين دون أن يدري، وقتلت مواطنا مصريا كان يقف على حافة الرصيف... هل كانت الدولة ستطبق القانون المصري على سيادة الرئيس الأمريكي ؟ أو على الأقل أن تعترف بخطئه للجمهور ؟ أنا أقول لا وألف لا، بل ستكيف الجريمة على أساس أن المواطن ألقى بنفسه أمام سيارة الرئيس المظلوم أوباما. وقد يتعرض أهل القتيل للأذى والاضطهاد في العهد المباركي.
ولعل القاريء يذكر موقف عمر من جبلة بن الأيهم بعد أن لطم أعرابيا فقيرا.
**********
يا سادة إن المسلم لا يهون، فقد أعزه الله بالإسلام وصدق تعالى إذ قال (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) أل عمران (139).
وقال أيضا (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( المجادلة 21 و 22).
وقال تعالى : (.... ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون ) المنافقون (8).
هذا هو طريق العزة والشموخ واستعلاء الإيمان كما أمرنا به وأشار إليه كتاب الله الحكيم، فهو كما قال تعالى (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيد ) فصلت ٍ(42) .
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة:
أي رد لا يمثل إلا رأي قائله, ولا يلزم موقع بوابتي في شيئ
14-06-2009 / 13:24:59 ابو سمية
مقال جيد ولكن لعله يفتقر لشيئ من واقعية.
فالافكار االواردة بالمقال الداعية لتطييق مبادئ العدل والمساواة سليمة في ذاتها، ولكن يلزمها مزيدا من عمق لتنزيلها ومقاربتها بواقعنا
المسائل اكثر من ان تبسط وتسطح هكذا في مقارنة عابرة، من مصلحتنا ومصلحة مطالبي تطبيق الحل الاسلامي ان يعملوا جهدهم في ايجاد الحلول المعمقة الفاعلة لا ان يختزلوا الامور في حكم مجردة مرسلة هكذا
ابسط الاشياء ان الفرق بين حالة الملك الغساني وبين اوباما تختلفان من حيث تعقيد الظرف المكاني و الزماني، وهو مايستدعي بطبيعته اختلافا في الترتيبات
دعك من باقي الاعتبارات
14-06-2009 / 13:24:59 ابو سمية