(45)مواجهة المجتمع فيما يخالف الدين
"الزواج أنموذجا"
د. أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 7711
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
يعود فساد جانب كبير من حياتنا الإجتماعية اليوم إلى فكرة ليست بالجديدة، أعيد بذرها من جديد ـ مع الاحتكاك بالثقافة الغربية - ولكن فى ثوب علمى، فآتت ثمارها على امتداد الزمان والمكان . قوام هذه الفكرة :" أن على المجتمع أن يضع أخلاقا لنفسه، وأن ينطلق من معطيات الحاضر، فالمجتمع هو غاية السلوك الأخلاقى، وهو الكائن الأخلاقى الأعظم، السلطة الأخلاقية تصدر من المجتمع، والخير الأسمى لسائر الناس هو المجتمع، فالمجتمع هو غاية الغايات، وهو المشرع الوحيد للقيم، هو الذى يخلقها، وهو الذى يحافظ عليها، وهو الحارس الأمين لخير وفضائل الناس ". الهدف الأساس لهذه الفكرة هو إحلال " المجتمع" محل " الله". وبمعنى واضح وصريح : التأكيد على" أن الله هو المجتمع"، وأن " الله والمجتمع شيئ واحد ".
ولكن أين مكان الدين والحقائق الدينية مع هذه الفكرة ؟. يقول عالم الإجتماع اليهودى الشهير " إيميل دوركايم" فى ذلك :" المجتمع هو الكائن المطلق، والله نفسه يتجلى فى روح الجماعة لأنه قوة متسامية، وقيمة متعالية تحقق غايات إنسانية ومثل جمعية. أما حقائق الدين فسوف تصدر من المجتمع، على اعتبار أنها مسائل إجتماعية. فالمجتمع هو الذى يفرز الدين وليس هناك من كائن له سمو، أو خلود، أو قداسة، فكل ذلك ورد إلينا من العالم الإجتماعى".
ويحلل " دوركايم " فكرته هذه فيقول :" مادمنا قد حرمنا على أنفسنا الإستعانة بالأفكار الدينية، فلن نجد كائنا معنويا يسمو على الأفراد ويمكن ملاحظته تجريبيا سوى ذلك الذى يكون الأفراد عند اجتماعهم. وأعنى به " المجتمع". إن الكائن الذى توجه الأخلاق إرادتنا نحوه ونجعل منه هدفا أسمى لسلوكياتنا لن يتعدى واحدا من اثنين : إما الكائن الإلهى أو الكائن الإجتماعى. أما الفرض الأول فنستبعده على أساس أنه بعيد عن متناول العلم، ولن يبق لنا إلا الكائن الثانى وهو الكائن الإجتماعى، فهو الذى يفى بكل احتياجاتنا ويحقق لنا كل أمانينا، فما من شيئ يصلح هدفا للنشاط الأخلاقى سوى المجتمع، إنه النموذج وهو المصدر لكل سلطة أخلاقية".
" تأليه المجتمع وإحلاله محل الله " هو الغاية التى يسعى إليها هذا العالم اليهودى، الذى هام مثقفونا به وأعطوه من القداسة والتأليه ما لم يعطونه لغيره، وكتبت فيه العديد من رسائل الماجستير والدكتوراة، ومازالت أفكاره وآراؤه تدرس فى مدارسنا وجامعاتنا ـ بما فيها الإسلامية - حتى يومنا هذا.
أثمرت هذه الفكرة بالفعل، فأصبح الناس يخشون ويهابون ويرجون المجتمع أكثر من رجائهم وخوفهم وخشيتهم من الله تعالى.
لنأخذ مظهرا واحدا من مظاهر حياتنا الإجتماعية، لنرى كيف أن "المجتمع" قد اصبح الحاكم المطلق فى توجيه مسار سلوكياتنا وليس الدين. الزواج مثلا، بغض النظر عن مظاهره الشكلية مثل عقد الأنكحة فى المساجد والقيام ببعض المراسم التى توهم بأنها ذات طابع دينى كافتتاح حفلات العرس بإنشاد آيات الله الحسنى مع استخدام المعازف أو بدونها، هذا الزواج تحكمه عادات المجتمع وتقاليده التى تخالف فى معظمها أحكام الشرع. اختيار العريس لعروسه أو العكس لا تحكمه قواعد الدين، إنما تحكمه قواعد المجتمع. تساهل الناس فى الخطبة على خطبة الغير أمر عادى يقره المجتمع وفق مبدأ المصلحة والمنفعة، ولكن الدين لا يقره. الإعتقاد بضرورة الحب قبل الزواج أمر شائع بين الناس وتؤيده الأسرة. وفى الوقت الذى قيد فيه الدين العلاقة بين الجنسين قبل الزواج، تتساهل الأسرة كثيرا فى مجريات العلاقة بين الخطيب وخطيبته، حتى ولو وصلت إلى حد أبعد من النظر المسموح به كاللمس والتقبيل. الإختلاط بين الأهل والأقارب والأصدقاء رجالا ونساء أصبح أمرا ليس بالمستهجن بين الناس، رغم أن الدين وضع له ضوابط دقيقة وحذر منه وبصفة خاصة بين الأقارب، كما جاء فى قوله صلى الله عليه وسلم " إياكم والحمو فإن الحمو هو الموت". حفلات العرس المختلطة واستخدام المعازف وآلات الموسيقى وخروج العروس على الحاضرين فى قمة زينتها وفستان زفافها الملتصق بجسدها سواء أكان عاريا فى أعلاه أو غير عار، أصبح من لوازم الحياة الإجتماعية اليوم، رغم أن الدين لا يقر ذلك. وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التى لا حصر لها التى تبين أن اليد الطولى فى الحياة الإجتماعية هى للمجتمع وليس للدين.
هذا هو الحال فى مظهر واحد من مظاهر الحياة الإجتماعية، ناهيك عن مختلف المظاهر الأخرى التى تحكم العلاقات الإجتماعية فى مختلف المجالات.
السؤال المطروح هنا: كيف يمكن مواجهة المجتمع فى الأمور التى فيها مخالفة للدين ؟
وضع الإمام ابن القيم ـ رحمه الله فى الفوائد ـ قاعدة جليلة فى هذا الشأن. خلاصة هذه القاعدة :" لا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله، ولو كنت وحدك، فإن الله معك، وأنت بعينه وحفظه لك. وهو تعالى يمتحن يقينك وصبرك". وتفاصيل هذه القاعدة ـ كما تصورناها ـ على النحو التالى :ـ
1- إذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فى جانب، فاحذر أن تكون أنت على الجانب الآخر. فإن ذلك يفضى إلى (المشاق) وهى أن يكون الله ورسوله صلى الهـ عليه وسلم فى شق وتختار أنت الشق الآخر. كما يفضى ذلك أيضا إلى (المحادة) وهى أن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فى حد، وتختار أنت الحد الآخر.
2- عليك ألا تستسهل المشاقة والمحادة، فإن البدء فيها يجر إلى المزيد منها حتى يستفحل الأمر، فالقليل من الأمر يدعو إلى الكثير منه.
3- لتعلم أنك إذا اخترت الجانب الذى فيه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإنك ستكون اخترت ما ينفعك فى الدنيا والآخرة.
4- لا يهمك رؤية الناس لمن اختار ما يخالف جانبهم من أنه ناقص العقل، سيئ الإختيار لنفسه، أو حتى اتهامهم له بالجنون، وليكن عزاؤك فى ذلك أن هذا هو ميراث أعداء الرسل، وأنهم صلوات الله وسلامه عليهم، اتهموا بالسحر والكهانة والجنون.
5- إذا وطّنت نفسك على اختيار جانب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فعليك أن تسلح نفسك بالعلم الراسخ الذى جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن تعتبره يقينا لا ريب فيه.، وعليك أيضا أن تتسلح بالصبر التام على من لامك وعاداك فى ذلك.
6- عليك أن تعلم أن اختيارك لجانب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم صعب فى بدايته، وأن تتوقع الصد والحرب من نفسك، وهواك، وطبعك، وشيطانك، وأهلك، وإخوانك، ومن يعاشرونك. فإذا صبرت عليهم جميعا جاءك العون من الله، وصار الصعب سهلا، وتحول من مشقة إلى لذة.
7- لا يستطيع الإقدام على هذا الأمر إلا من كانت لديه رغبة قوية فى الله والدار الآخرة، بحيث تكون الآخرة أحب إليه من الدنيا، ويكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من سواهما.
8- لتعلم أن الله " رب شكور" وأنه ولابد من أن يزيقك لذة تحيزك إلى جانبه وجانب رسوله صلى الله عليه وسلم. فيريك ـ تعالى ـ كرامة ذلك، فيشتد فرحك وسرورك وغبطتك، ويبتهج قلبك فتفرح بتعويض الله لك ما تحملته من أجله. سيقوى الله تعالى جندك، ويضعف عدوك، وسترى تحولا فى موقف من كان محاربا لك، فتراه يهابك، أو يسالمك، أو يساعدك، وعلى أقل الأحوال سيتركك وشأنك.
9- يلزمك فى الثبات على هذا الأمر أن تتحرر من الطمع والفزع، فإذا اشتد هاجسهما، فلا تحدث نفسك بهما، وليكن سلاحك فى مواجهة هذين العدوين ( الطمع والفزع) : التوحيد، والتوكل، والثقة بالله، والإيمان بأنه لا يأتى بالحسنات إلا هو، ولا يذهب السيئات إلا هو. وأن الأمر كله بيده، وليس لأحد معه شيئ.