د - أحمد إبراهيم خضر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 13967
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ينطلق الطرح التنويري الليبرالى المعاصر من نقطة محورية : هي رفض الإحتكام إلي النص، وتجنب الاصطدام بما يسمونه بـ "حائط الحاكمية" ويقولون في ذلك على لسان شريف يونس "........... حقيقة الأمر أن الطرح التنويري إنما يريد التخلـص من حاكميه النص عن وعى وإدراك كاملين بمخاطر محتواه ". أما حجتهم في رفض الإحتكام إلي النــص فتقوم على أساس علماني بحت قوامه أن الإحتكام إلى النص يعتبر " إخلالا بقيم الحـرية والفردية والمواطنة والنزعة الإنسانية عموما". ورغم أنهم يرون أن في الإسلام العديد من التوجهات الخيـــرة ذات الطابع الإنساني إلا أنهم لا يحبذون ما يسمونه بمبدأ الانتقائية فيرون أن الإنتقاء لايتم " إلا من القيـــم المطروحة علـــى الأساس الراسخ لمبدأ العلمانية ".
لجأ التنويريون الليبراليون إلى محاولة اختراق هذا الحائط فبذلوا ثلاث محاولات اعترفوا بأن جميعها باءت بالفشل :
الأولى : انتهاج خط ما يسمى " باللف والدوران" حول النص.
الثانية : انتهاج خط ما يسمى بـ " بالمطاطية فى تأويل النصوص".
الثالثة " الإستعانة بنصوص التنويرين القدامى.
وعن الإعتراف بفشل الخط الأول يقول " شريف يونس " في كتابه "سؤال الهوية" ص 20 وما بعدها معلقا على محاولة إيضاح وجود تناقضات كامنة في فكرة الحاكمية :" وسوف تكشف لنا هذه الحالة بالذات كيف أن هذا اللــف والدوران ليـس من شأنه أن يجنبنا الإصطدام بحائط الحاكمية . فردا على طرح الدكتور فؤاد ذكريا في ندوة قديمة بعنـوان " الإسلام والعلمانية "، ومؤداه أنه لا مفر من أولوية العقل على النص، حيث أن حكـــم الإسلام لا يخرج عـن كونه حكما بشريا مبنيا على تأويل النص ؛ أوضح القرضاوى وآخرون أن هــذا لا يمنع من أن الحكم البشرى استرشادا بالنص الإلهي يظل أفضل من الحكم بغير هذا الاسترشاد، وهو أمـر صـادر ممن هو أعلم بالبشر، وأن القدرة على التأويل ليست مطلقة، وإنما لها حدود يعرفها أولوا العلم"
إن القرآن كما يقول ابن تيمية " متميز بنفسه لما خصه الله تعالى به من الإعجاز الذي باين به كلام الناس، وكان منقولا بالتواتر، لهذا لم يطمع أحد في تغيير شبي من ألفاظه وحروفه، لكن الشيطان قد طمع في أن يدخل التحريف والتبديل في معانيه بالتغيير والتأويل، وطمع في أن يدخل في الأحاديث من النقـــص والازدياد بما يضل به العباد ". هذا هو نفس ما حاوله التنويريون الليبراليون، فلما وجــدوا أن نهج اللف والدوران لم يجد نفعا فى اختراق حائط الحاكمية اتجهوا إلى خط "المطاطية" في تأويل النصوص. لكنهم اعترفوا بإخفاقـهم في ذلك أيضا. يقول التنويريون الليبراليون "… إن القول بمطاطية مطلقة في تأويــل النصـوص من شأنه أن يجــرد المطلب العلماني ذاته من أى معنى، فإذا كان التأويل مطلـــق القدرة، فهذا يعنى الهبوط بالنص الأصلي إلى مرحلة العدم، والحال أنه ما من عاقل يطالب بتنحية حكــم العدم ".
قدم التنويريون الليبراليون أنفسهم عبر هذه" المطاطية في تأويل النصوص" على أنهم أصحاب التفسير الصحيح للديـــن الذي ينطوي على التسامح ويسمح بالعقل والوطنية ويتفق مع حاجات التقدم. ولكنهم أكدوا اعترافهم الأول باعتراف آخر مؤداه "أن التنوير الحالي يقدم تنازلات تصل إلي اتهـــام خصومه بأنهم غير توفيقين، إذ يقدم نفسه الآن بوصفه صاحب التفسير الصحيح للدين، الذي ينطوي على التسامح ويسمح بالعقل والوطنية ويتفق مع حاجات التقدم.......ويصل من التبجح في ذلك لا إلى إتهام مخالفيه الحاكميين بأنهم ليسوا بأعداء العقل فحسب، بل الدين أيضا، فيلبس العمامة، ويفتى في الدين، ويصف هـؤلاء الخصوم بالمتأسلمين "
أقر التنويريون الليبراليون بأن الطرح الإسلامي يتميز عن الطرح العلماني في أن الأول يضع نفسه في مواجهــة صريحة مع العلمانية ورموزها بالإضافة إلي أن الإسلاميين المعاصرين يطرحون مبدأ الإحتكام إلى النص من زاوية ارتباطه بالثقافة السائدة للجماهير، وبوصفه طوق النجاة الدنيوي لها. لهذا وإزاء هزال التنوير المعاصركما يقول " يونس"، رأت هيئة الكتاب المصرية أن تستدعى الموتى، ويقصد بهم هنا- كتاب التنوير القدامى - لينوبوا عن الأحياء في مواجهة الطرح الإسلامي.، فأصدرت سلسلـــة أسمتها بـ "المواجهة" . أثبتت تجربة سلسلة " المواجهة " فشل هذا النهج الثالث فى اختراق حاكمية النص. وتظهر ملامح هذا الفشل كما حددها يونس فى الآتى :
1- أن نصوص الموتى التنويرية هي ذاتها غير قادرة على المواجهة بدليل أن هيئة الكتاب لم تستطـع إصدار كامل كتبهم أو تنشر الفقرات الكاملة التى كتبوها في نصوصهم الأصلية وحذفت منها ما رأت أنه يتخطى قدرتها على المواجهة.
2- أن نصوص التنوير القديمة ذات طبيعة مراوغة.
3- أنه بمقارنة عملية إحياء كتب التنوير القديمة وإعادة طبعها بعملية إحياء كتب التراث الإسلامـــي واعادة طبعها يتبين أن مصدر القوة في الأخيرة لا يكمن في عملية إعادة الطبع ذاتها مثل كتب ابـن كثير مثلا وإنما في أعمال المفكرين الأحياء الذين يطرحون إجابات إسلامية على قضايا الواقــــع المعاصر، وفى إطار هذا الطرح تأتى استعادة أفكار ابن كثير وغيره.
4- أن التنويريين القدامى كانوا أقل توفيقية وأكثر شجاعة من التنويرين المعاصرين
لم يفهم التنويريون الليبراليون فشل سلسلة "المواجهة" على أنها فشل ولهذا لجأوا إلى الأساطير بنفس نص كلمات " يونس"الذى يقول "… ولكن التنويــر طبعا لا يفهم فشله على هذا النحو، لذلك يلجأ إلي الأساطير، ويلجأ أيضا إلي اتهام الدولة والمجتمــــع وآخرين بأنهم مسؤولون عن فشله. وأهم هذه الأساطير أسطورة النقد الذاتي، تلك الفكرة التى تقول بأن التنوير قد فشل لأنه كان توفيقيا وليس جذريا..أى إلقاء اللوم على التنوير الماضي الذي كان في الواقـع أقل توفيقية وأكــثر شجاعة بكثير بحكم لعبه لدور إيجابي ما. إن التنوير المعاصر الذي يتهم ماضيــــه بالتوفيقية لم يستطع أن يطبع تراث ماضيه هذا كاملا …فاختار وانتقى واستبعد كتبا بأكملها، ثم نشــرما نشره في سلسلة المواجهــة محذوفا منه فقرات ومقاطع وجمل لم يعد هو ذاته يجرؤ على ترديدها ولو على لسان الموتى ".
ليس الخلاف مع التنويرين الليبرالين هو ما زعموه من أن أتباع الإيمان يتمسكون بالإحتكام إلى النص لمجرد أنه نص مقدس ولا يُعْمِلون العقل فيه، فى حين أن منهجهم يقوم على الإستدلال العقلى. هذا الرأى كما يرى " رشاد خليل " بالغ الفساد والتجنى. وذلك لأن قيمة النص سواء أكان كتابا أو سنة لا ترجع إلى مجرد كونه نصا مقدسا، وإنما ترجع إلى كونه علما صحيحا لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ورغم أنه يمكن أن يصادم ظنونا فاسدة ظنها أصحابها معقولات ويقينيات فإنه نص لا يصادم العقل الصحيح أو المنطق السليم لأنه نص موافق لفطرة العقل الصريح ويقوم على استدلال منطقى برهانى صحيح وإن جرى على غير طريقة التنويرين العقلانيين.
إن تفسير حملات التنويرين الليبراليين على أصحاب الإيمان لا يخرج عن كونه كما قال ابن تيمية " فساد النية لما فى النفوس من البغى والحسد، وإرادة العلو فى الأرض بالفساد، ونحو ذلك، فيُِحِبّ لذلك ذم قول غيره أو فعله، أو غلبته ليتميز عليه، أو يحب قول من يوافقه فى نسب أو مذهب، أو بلد أو صداقة، ونحوذلك، لما فى قيام قوله من حصول الشرف والرئاسة له، وما أكثر هذا فى بنى آدم ".
التنويريون الليبراليون بلغة ابن تيمية " أعظم الناس شكا واضطرابا وأضعف الناس علما ويقينا وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ويشهده الناس منهم، وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة وأحسن أحوال صاحبه أن يكون بمنزلة العامي وإنما العلم في جواب السؤال ".
--------------------
د - أحمد إبراهيم خضر
دكتوراة فى علم الإجتماع العسكرى
الأستاذ المساعد السابق بجامعات القاهرة، والأزهر، وأم درمان الإسلامية، والملك عبد العزيز.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: