"ماسينيون": مستشرق في خدمة الاستعمار وداعية للتنصير
أنس حسن المشاهدات: 10064
يعد لويس ماسينيون 1883 – 1962 من أكبر مستشرقي فرنسا وأشهرهم، وقد شغل عدة مناصب مهمة كمستشار وزارة المستعمرات الفرنسية في شؤون شمال أفريقيا، وكذلك الراعي الروحي للجمعيات التنصيرية الفرنسية في مصر ويعده الدكتور محمد البهي في كتابه الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي من المستشرقين المتطرفين المغالين في عداوتهم للإسلام .
تعلّم لويس ماسينيون العربية والتركية والفارسية والألمانية والإنكليزية وعني بالآثار القديمة، وشارك في التنقيب عنها في العراق (1907 – 1908) . درس في الجامعة المصرية القديمة (1913) وخدم في الجيش الفرنسي خمس سنوات خلال الحرب العالمية الأولى.
وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية عاد فوضع نفسه تحت تصرف الجيش الفرنسي، وخَدَم في الأركان العامة برتبة رئيس كتيبة العاملين في قسم ما وراء البحار، ثم معاوناً لجيرودو وزير الإعلام. وانتخب عضواً في الأكاديمية الإيرانيّة. وفي فرنسا اعتقله الألمان مدةً ثم أطلق سراحه. وعاد إلى بلاد الشرق ليلقي محاضراته. وزار أفغانستان، وعيّن عضواً في الأكاديمية الأفغانية. ثم سافر إلى الهند وزار جامعاتها ومعاهدها الإسلامية، كما زار قبر المسيح المزيّف هنالك. والتقى نهرو ومُنع من زيارة غاندي في السجن، ورفض زيارة محمد علي جناح مؤسس باكستان الإسلامية بدعوى أنه انفصالي !!.
الاهتمام بالشخصيات القلقة
استهواه التصوف الإسلامي فدرس الحلاج دراسة مستفيضة ونشر ديوان الحلاج مع ترجمته إلى الفرنسية وكذلك مصطلحات الصوفية وأخبار الحلاج والطواسين، كما كتب عن ابن سبعين الصوفي الأندلسي، وعن سلمان الفارسي. وتظاهر بالدعوة إلى فكرة توحيد الديانات الكتابية الثلاث ونشر منتخبات من نصوص عربية خاصة بتاريخ الصوفية في الإسلام .
في عام 1938 زار المنصورة بمصر ودار ابن لقمان وعواصم عربية عديدة وتركيا. وشارك في مؤتمر المستشرقين الألمان، حيث ألقى بحثاً عن الشّيعة المتطرّفين في نهاية القرن الثالث الهجري، كما شارك في المؤتمر العشرين للمستشرقين في بلجيكا.
وتولّى ماسينون تحرير مجلة العالم الإسلامي الفرنسية التي سميت فيما بعد بمجلة الدراسات الإسلامية وأصدر بالفرنسية أيضاً حوليات العالم الإسلامي من سنة 1923م إلى سنة 1954م، وكتب كثيراً في دائرة المعارف الإسلامية عن القرامطة والنصيرية والكندي وفلسفة ابن سينا وأمثال ذلك. وكتب كذلك تاريخ العلم عند العرب في دائرة المعارف الممتازة التي صدرت بباريس. وممن تأثّر به ماسينيون تأثراً كبيراً هو المستشرق اليهودي النمساوي جولدتسيهر الذي حاول أن يثبت أنّ الحديث النبوي كلّه موضوع في عهود لاحقة لعهد الرسولصلى الله عليه وسلم، وذلك في كتابه دراسات إسلامية كما اعتبر الدين الإسلامي نسخة مشوهة للديانة اليهودية والمسيحية، حيث عبّر عن ذلك بوضوح في قوله: لا يهمّنا من وجهة نظر التاريخ الثقافي أن لا تكون تعاليم محمد ناتجة عن إبداع عبقريته التي جعلته نبياً لدى شعبه، وإنّما المهم أنه أخذ جميع تعاليمه من اليهودية والمسيحيّة . وبالتالي فإنّ ماسينيون أخذ كثيراً من تعاليم هذا المستشرق اليهودي، وبدت واضحة على كتاباته وشروحه التي نشرها في أكثر من كتاب، فمثلاً كان ماسينيون يركز على المعارف الفلسفية والصوفية الشاذّة والسيّئة كالتي كتبها في دائرة المعارف الإسلامية تحت مادة (الشطح) كقول البسطامي: (سبحاني، سبحاني، إنّ لوائي أعظم من لواء محمد، طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك.
إنّ ماسينيون قد وضع ووظّف جُلّ معارفه الاستشراقية في خدمة الأهداف الاستعمارية وفي مقدّمتها التبشير للنصرانية، ويتّضح هذا في أكثر من دليل، منها زعمه أنّ المسلمين يعتقدون في شأن عيسى بن مريم على ما جاء في القرآن، ومن أجل ذلك يرجو أن توجّه الجهود إلى جعلهم يعتقدون بعيسى بن مريم نفسه، ولكن باسمه المسيحي . ولا شكّ في أنّ ماسينيون يدرك جيداً أن نظر المسلمين ونظر النصارى إلى عيسى بن مريم مختلفان، إلاّ أنّه كان يريد أن يغري المنصرين لاستثمار أي تشابه يمكن أن يكون مدخلاً للتأثير على المسلمين وتحويلهم الى النصرانية، أو على الأقل القبول ببرامجها التثقيفيّة ومناهجها التعليميّة التي تكون طريقاً لربط المسلمين بالإيديولوجية الاستعمارية لأوربا النصرانية.
ومما تميّز به ماسينيون هو عدم اكتفائه بطبقة المتعلّمين في التنصير، بل راح يُنظّر لطريقة التنصير في وسط الاُمّيين، ومارس ذلك بنفسه رغم أنه أستاذ جامعة في باريس ومستشار وزارة المستعمرات الفرنسية، وخلاصة طريقته كانت الاتصال المباشر بالاُمّيين وطرح الأفكار والمفاهيم المسيحية من خلال الإشارات الكليّة الواردة في القرآن الكريم، أو من خلال مفاهيم الإسلام المرتكزة في الوسط العام للاميين. فمثلاً كان يدعو في إحدى مقالاته أن يعود الاعتقاد الإسلامي في رجوع عيسى بن مريم فيتّفق مع الحادث الثاني للمسيح النصراني الذي يعمل المهدي العربي على انتصاره. ويقصد بذلك أنّه مادام لدى المسلمين أخبار برجوع المسيح عيسى بن مريم، فلماذا لا يكون هذا المسيح الراجع هو المسيح الذي يعتقد به النصارى اليوم؟ وبعبارة أخرى أن يعود المسلمون عن قولهم عيسى بن مريم، إلى القول عيسى ابن الله، إذن فليؤمن به المسلمون ويتحوّلوا إلى عقيدة النصارى. وكانت هذه الطريقة أحد أساليبه التي اعتقد بأنها ستكون فعّالة لتحويل المسلمين عن دينهم، وبالتالي يسهل استعمارهم على دول أوربا.
أذنابه في الشرق
ومن أساليب ماسينيون التي دبّج لها المقالات الطوال هي ضرورة تشجيع الشرقيّين للدراسة في أوربا وأميركا، وذلك للتأثير عليهم عن طريق ضخّهم في أجواء وأساليب الحياة الأوربية في التفكير والعلم والسلوك ليكون ذلك أرضية مناسبة لتطويعهم للفكر الاستعماري الأوربي، وبالتالي توظيفهم في خدمة أهدافهم في تطويع بلدانهم الشرقية لأوربا المستعمرة، وفي هذا يقول ماسينيون لنظرائه الأوربيين: إنّ الطلاب الشرقيّين الذين يأتون إلى فرنسا يجب أن يلوّنوا بالمدنيّة المسيحيّة. ولعلّ من أبرز آثار هذا التوجّه لدى ماسينيون هو عنايته الفائقة ببعض هؤلاء الطلبة مثل ميشيل عفلق مؤسس حزب البعث العربي الاشتراكي ومنظّره الفكري الذي قال عنه ماسينيون: إنّه أنبغ وأعزّ تلميذ في حياته. وقد أظهرت عناية ماسينيون بميشيل عفلق بوضوح آراء التلميذ الفلسفية ومواقفه الخاصة ومدى انتمائه للفكر الأوربي الصليبي، وترجمته الحرفية لتعاليم الدين الكنسي ومضامينه الفلسفية، ولعلّ أبرز وأخطر ماطرحه عفلق وأسّس عليه فكر حزب البعث العربي الاشتراكي هو مقولته المعروفة: الإيمان قبل المعرفة. وهي مقولة نصرانية محضة أفرزتها المدرسة الكنسية، وتوصّل إليها عقلها اللاهوتي بناءً على قواعد وأسس القدّيس أوغسطين، التي جاءت لسدّ الثغرة الفكرية القائمة بين فكرهم اللاهوتي والعقل المتمثلة بمسألة التعقيد والنقص في إدراك الثالوث المقدس. وينظّر عفلق مقولة: الإيمان قبل المعرفة التي استقاها من استاذه ماسينيون مكوّنا منها الفكر القومي الذي بنا عليه إيديولوجية حزب البعث العربي الاشتراكي فيقول: «... إننا نريد أن نعرف مَن قَبِل بنا ويؤثر على غيرنا من مجرد سماع نبرات صوتنا ومشاهدة حركتنا العادية وسلوكنا اليومي، نريد أن نعرف الذين يدركوننا بالغريزة، أيّ هواء صاف نستنشق، أي جوّ نزيه نحيا، دون أن نحتاج للبراهين والعلم والإثبات والأرقام...».
ومما عُرف عن ماسينيون أنّه كان زعيم الحركة الرامية إلى الكتابة بالعاميّة وبالحرف اللاتيني التي تبنّاها الفرنسيون في الشرق الإسلامي، وركّز بدعوته هذه على المغرب ومصر وسوريا ولبنان، وممن استجاب لدعوته في هذا المجال رافائيل نخلة حيث ألّف كتاباً تحت عنوان قواعد اللهجة اللبنانيّة السورية وهو موضوع باللغة الفرنسية، والنصوص العربية منسوخة بالحرف اللاتيني، واستجاب أيضاً لهذه الدعوة شكري الخوري الذي ألّف كتاب التحفة العاميّة في قصة فنيانوس التي نشرها الأب لاي اليسوعي، واستجاب كذلك الخوري مارون غصن أحد المدرسين في مدرسة عين طور في لبنان، وقد ألّف كتاباً ذا عنوانين ومضمون عامي تحت اسم في متلو هلكتاب. أي (هل يوجد مثل هذا الكتاب) وأمثال هؤلاء كثيرون. والهدف من هذه الدعوة واضح، حيث أنّ ضياع اللغة الفصحى وحصر دائرة تداولها سوف يساهم في الحجر على مفاهيم القرآن اللغوية وبياناته البلاغية. وكذا الحديث الشريف وكتب المعارف الإسلامية.
ويعد ماسينيون قبل كل شيء رجل دين كاثوليكي يحاول، بشكل ما، وعن طريق دراساته الموجهة إلى الدين الإسلاميّ، أن يقدّم خدمةً للكنيسة الكاثوليكية، فقد كان مؤازراً لمؤسسة شارل فوكو في مونمارتر، وهي مؤسسة تنصيرية، وألقى محاضرة عن فوكو بعد وفاته، وعن موقع مؤسّسته من القضية الإسلامية، وذلك في مركز الدراسات بسان لويس وبحضور عدد من الكرادلة.
وكان مؤازراً لجماعة القلبَيْن الأقدسين الكاثوليكية التبشيرية، كما كان دائم المشاركة في المؤتمر العالمي للمؤمنين، ومحرراً في مجلة الإله الحيّ، وعضواً دائماً في مؤتمرات تاريخ الأديان. وله محاضرات في الإيمان بالمسيح وعالم اليوم في جمهور المثقفين الكاثوليك. وشارك في تأليف هيئة التعاون المسيحي الإسلامي، وترأَّس هيئة حجّ الصداقة المسيحية الإسلامية في لندن. ورُسِمَ أسقفاً في القاهرة ، فكان يحرص على حضور القداسات، وإحياء ليالي العبادة، وممارسة الصَّوم مع غيره مؤازرةً لبعض القضايا.
ولعل العمل الذي شغله ماسينيون قد تناسب مع دور فرنسا في تشويه الفكر الإسلامي مقدمةً وطريقاً لإزالة العقبات عن حركتها الاستعمارية للشرق الإسلامي، ولهذا اشتهرت بأنّها من أبرز دول أوربا الغربية في مجال إعداد جيش من المنصرين والمستشرقين، مدرّبين على أحدث وسائل التنصير ، انتشروا في إفريقيا ودول الشرق الأوسط وهذا هو الذي دفع رئيس المجمع العلمي العربي بدمشق محمد كرد علي للقول: إننا نرى من واجبنا أن يشكّ كل عربي وكلّ مسلم في أكثر ما يصدر من الأحكام من الفرنسيين على الإسلام والمسلمين، وذلك لأنّه ثبت أن من الفرنسيين من لا ينظرون إلى كل أمر إلاّ بمنظار الاستعمار.
ويؤكّد المفكر الإسلامي مالك بن نبي هذه الحقيقة في دور ماسينيون قائلاً: إنّ ماسينيون قد تفرّغ آخر حياته للتنصير ، وقد مدّ وزارة الخارجية الفرنسية بالمعلومات والتوصيات حول البلاد الإسلامية، وتهيئة العملاء والكتّاب.
وساعد ماسينيون على فعل ذلك ، زيارته لبلاد العالم الإسلامي أكثر من مرة، وخدمته بالجيش الفرنسي خمس سنوات في الحرب العالمية الأولى، وكان عضواً بالمجمع اللغوي المصري، وكذلك عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق، وتعاون مع النظام الاستعماري الفرنسي في المغرب، وعبّر عن مواقفه الاستعمارية علانية.
انتقادات العلماء
وقد أخذ عليه العلماء مآخذ عديدة منها : تسخيره العلم والبحث لغايات غير علميّة، و سطحيَّة نظرته، وبعده عن التحليل، ووقوعه في أخطاء عديدة بسبب التسرّع.
وانتقده زميله هاملتون جبّ بأن من الصعب وضعَ خطّ فاصل بين دقته العلمية وبين اتجاهاته الشخصيّة وحماسته الذاتية، فقد رفع الحلاّج إلى حدّ نصرنته. كما انتقده إدوار سعيد في تنظيراته وتعميماته الرعناء، ومجافاته التفسير والتحليل حتى غدت بحوثه ركاماً بلا روح، وبأن الزمن تجاوزه لأن العالم الإسلامي يتقدم ويتطور باتجاه العلمانية والتكنولوجيا. وكان عليه أن يساعده على تجاوز جمود الماضي إلى الحداثة المادية الغربية بدلاً من الحفاظ على القيم التقليدية.
وانتقده عمر فروخ والشيخ الإبراهيمي في خلطه بين التصوف والسياسة، وعدَّه بعض العرب والمسلمين طابوراً خامساً للاستعمار.
وانتقده دنيز ماسون وجاك بيرك في استنتاجاته المتعلقة بفاطمة الزهراء وسلمان الفارسي وأهل الكهف.
كما وصفه علماء الأزهر بعدم فهم الإٍسلام، واعترضوا على كثير من آرائه، لأن هنالك فرقاً بين الشريعة والتصوف، وأن كثيراً من أشكال التصوف ليس إسلامياً، ورأوا في "البدلية" و"دار السلام" وجهين استعماريين.
ورفض المسيحيون الكرمليون والدومينيكان أطروحاته حول القرآن والنبوّة والوحي. وانتقد في أنه كان خادماً للسياسة الاستعمارية والسلطات الحاكمة ولا سيما في مراحله الأولى. وأنه أراد من خلال الحلاج أن يجذّر في الإسلام ما ليس منه.
وأخيراً لم يكترث الفاتيكان بمنهاجه ولا بنتائج بحوثه، ولكنه ترك له المجال لمتابعة مسيرته واكتفى بالاحتجاج على (البدلية) رسمياً، وطالبه بتقديم إيضاحات عنها.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: