يعتبر الترويح عن النفس من الأمــور الـمـهـمـة الـتـي قــد يحتاجهـا المربون والدعاة أثناء مخالطتهم للناس ودعوتهم إياهم، إلا أن استخدام كثير من المشتغلين بالـدعوة والتربية له لا يتم بالصورة المطلوبة، إذ يقعون أثناء ممارسته بين إفراط أو تفريط؛ فمنهـم من غلا فيه، وصار جل همه مجرد الترويح عن من يدعوهم بدعوى كسبهم وتحبيبهم في الـخـيـر الـذي يدلهم عليه، ومنهم من يرى أنه لا فائدة فيه بل هو مضيعة للوقت مفسدة للعمر.
ولذا: فسأحاول هنا تبيان مفهوم الترويح في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية مع بيان أهميته وتـقـديـم شيء من أدلته وخصائصه، وإبراز ما يوفق الله له من ضوابط وقواعد شرعية علّ ذلك أن يـدفــع إلى استخدام صحيح للترويح، وممارسة له منضبطة بالشرع الحنيف.
تعريف الترويح :
تدور مادة (روح) فـي الـلـغـة حــول معاني: السعة، والفسحة، والانبساط، وإزالة التعب والمشقة، وإدخال السرور على الـنـفــس، والانتقال من حال إلى آخر أكثر تشويقاً منه(1)، وتختلف تعريفات الترويح في اصطلاحــــات الباحثين نظراً لاختلافهم في الاتجاهات التي ينطلقون منها لتحديد ماهيته، فمنهم:
1- مــن يربط الترويح بالغرض الذي يؤديه، وعليه: فالترويح هو: التسرية والتنفيس عن النفس(2) ويسمي بعضهم هذا الاتجاه بنظرية التعبير الذاتي(3).
2- من يربــط الترويح بالوقت، وعليه: فالترويح هو: التعبير المضاد للعمل على أساس أن الإنسان قليلاً ما يجد في عمله نوعاً من الترويح(4).
3- من يربط الـتـرويـح بالـغـــرض الـذي يؤديه والوقت معاً، وعليه: فالترويح هو: أوجه النشاط التي يمارسها الفرد في أوقات فــراغـه والتي يكون من نتائجها الاسترخاء والرضى النفسي(5).
4- وذهـب بـعـض الـمختصين في الأعمال الترويحية إلى اشتراط النفع في العمل الترويحي سواء أكان نفعاً فرديّاً أم جماعيّاً، نفسيّاً أم بدنيّاً أم عقليّاً(6).
ولن أطيل في هذا المقام باسـتعـراض نصوص الباحثين في تعريف الترويح، بل سأقتصر على تعريف واحد آراه الأنسب، وهــو: أن الــتـرويـح عن النفس في الإسلام عبارة عن: أوجه النشاط غير الضارة التي يمكن أن يقوم بها الفرد أو الجماعة طوعاً في أوقات الفراغ بغرض تحقيق التوازن أو الاسترخاء للنفس الإنسانية في ضوء القيم والمبادئ الإسلامية.
وفي ظل هذا التعريف؛ فإنه من الممكن أن تـكـــون تـلـك الأنشطة وجدانية، أو عقلية، أو بدنية، أو مركبة من كل ذلك أو بعضه.
أهمية الترويح:
تبرز أهمية الترويح عن النفس في جوانب كثيرة، منها:
* تحقيق التوازن بين متطلبات الكائن البشري (روحية، عقلية، بدنية) ففي الوقت الذي تـكـــون فـيــه الغلـبـة لجانب من جوانب الإنسان يأتي الترويح ليحقق التوازن بين ذلك الجانب الغالب وبقية الجوانب الأخرى المتغلب عليها.
* يساهم النشاط الترويحي في إكساب الفرد لخبرات ومهارات وأنماط معرفية، كما يساهم في تنمية التذوق والموهبة، ويهيء للإبداع والابتكار(7).
* يساعد الاشتغال بالأنشـطـة الترويحـية في إبعاد أفراد المجتمع عن التفكير أو الوقوع في الجريمة، وبخاصة في عصرنا (عصر التـقـنـيــة) الــذي ظهرت فيه البطالة حتى أصبحت مشكلة وقلت فيه ساعات العمل والدراسة بشكل مـلـحــوظ جدّاً، وأصبح وقت الفراغ أحد سمات هذا العصر(8).
* مــن أبرز الـمـسـمـيات التي أطلقت على عصرنا: عصر التقنية، و عصر القلق، و عصر الترويح.. وترتبط هذه المسميات بعلاقة وثيقة فيما بينها؛ فالتقنية تولد عنها القلق، وأصبح الترويح أحد أهم مـتـطـلـبـات عـصـــر التقنية والقلق؛ لما له من تأثير في الحد من المشاكل المترتبة عن ذلك(9).
أدلة جواز الترويح:
لا يقـــدر بعض الدعاة أهمية الترويح، وينظرون إليه على أنه مضيعة للوقت مفسدة للعمر، وفي هذا الأمر نظر، إذ قد دلت النصوص الشرعية إجمالاً وتفصيلاً على جواز الترويح، بل إن منها ما دعت إليه وحثت عليه، وسأكتفي هنا ـ لعدم مناسبة التوسع في الطرح ـ ببعض الأدلة الإجمالية والتفصيلية، فمن الأدلة الإجمالية:
* حـديـث حنظلة (رضي الله عنه) وفيه:.. قلت: نافق حنظلة يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ومــا ذاك، قـلــت: يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عـنـــدك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: والذي نفسي بـيــده إن لو تدومون على ما تكونون عندي، وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي الطرقات، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة(10).
* حـديــــث أبي جحيفة في الصحيح، وفيه:.. فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فـقــال: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فـصـنع له طعاماً، فقال له: كل، قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل، قال: فأكـل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم قال: نم فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم، فلما كــان مـن آخر الليل قال سلمان: قم الآن، فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عـلـيــك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً، فأعط كل ذي حق حقه، فأتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فـذكــر ذلـك لــــه، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: صدق سلمان(11).
* حديث عبد الله بن عمرو بن الـعــاص (رضي الله عنهما) وفيه: أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: صُم وأفطر وقم ونم، فـــإن لجسدك عليك حقّاً، وإن لعينك عليك حقّاً، وإن لزوجك عليك حقّاً، وإن لزورك عليك حقّاً(12) وفي رواية: قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: يا عبد الله بن عـمــرو: إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل، وإنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين ونهكت، لا صام من صام الأبد(13).
ومن الأدلة التفصيلية:
1- عـن أنـس بن مـالـك أن النبي -صلى الله عليه وسلم-قال له: يا ذا الأذنين قال أبو أسامة - أحد رواة الحديث -: يعني يمازحه(14).
2- عن عائشة (رضي الله عنها) قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله إذا دخل يتقمعن* منه فيسر بهن إليّ(15).
3- قـال مـحـمود بن الربيع: إني لأعقل مجة مجها رسول الله في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو(16).
4- عن عائشة رضـي الله عـنـهـــــا أنها كانت مع النبي-صلى الله عليه وسلم- في سفر، قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فـلـمــــا حمـلـت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك(17).
5- وعن عائشة رضي الله عنها قالت: والله لقد رأيت رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، يقوم عـلــى باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله، سترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصةً على اللهو(18).
خصائص الترويح عن النفس في الإسلام:
يمثل الإســـلام نظام حياة متكامل ـ عقيدة وشريعة ـ يجب أن تنبثق عنه جميع تصورات ومبادئ وقيم وسـلـوكـيــات الإنسان المسلم، وعلى ذلك: ينبغي أن ننظر إلى الموضوع الذي نحن بصدده (الترويح) من خلال الخصائص التي أعطاها له الإسلام، ومنها أنه:
1- عبودية لله (تعالى):
قال الله (تعالى): ((قُلْ إنَّ صَــــلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ)) [الأنعام: 162] والترويح هو جانب من المحـيـــا في حياة المسلم، وبالتالي: فهو (لله رب العالمين لا شريك له) في حال إصلاح العبد لنيته فـي ممارسته بشروط حلّه، واتخاذه وسيلة لتحقيق عمل صالح أو لتجديد نشاط المسلم في الأعمال الجادة؛ روي عن أبي الدرداء أنه قال: إني لأستجم قلبي بالشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق(19).
2- ثابت المعالم متجدد الوسائل:
ليس للمسلم أثناء قيامه بنشاط ترويحي أن يـتـجـــاوز جــوانـب يوجب الإسلام تركها ـ لحرمتها أو ضررها ـ بل عليه أن ينضبط بضوابط الإسلام ويـحـتـكـــم بأحكامه، وهذا هو الجانب الثابت في الترويح، وما سوى ذلك فللإنسان أن يبدع ويـجــــدد فـيـه ما شاء من كيفيات ووسائل، وذلك الثبات في الترويح من جهة والإفساح وفتح المجال للـتـجديد من جهة أخرى: هو أحد الخصائص المهمة للترويح في الإسلام.
3- يراعي طبيعة الفطرة الإنسانية:
عند التأمل في أنواع الترويح المشروع والمباح: نجده شاملاً لجميع حاجات ودوافع الإنسان التي تتـطـلـبـهـا جوانبه المختلفة (الروح، العقل، الجسد) مما يدل على أن من خصائصه العموم والشمول لجميع مكونات وخصائص الكائن البشري ومراعاة الفطرة التي خلقه الله (تعالى) عليها.
4- يحقق التوازن بين جوانب الإنسان المختلفة:
للإنسان جوانب مـخـتـلـفـة (روح، عقل، جسد)، وله ميول متنوعة، قد تدفعه إلى تغليب جانب أو أكثر على بقية الجــوانـــب الأخرى، ولكن نتيجة للترابط بين جوانب الإنسان المختلفة نجده يكلّ ويملّ، ويصعب عليه مواصلة المسير، بل قد يمتنع من ذلك، وهنا يأتي دور الترويح لتحقيق التوازن بين تـلـك الـجـوانب، لكي يبتعد الإنسان عن الكلل والملل، ويعاود المسير براحة وطمأنينة.
5- انطلاقة من دافِعِيّة وممارسة بانتقائية:
يـتــم الإقبال على ممارسة النشاط الترويحي وفقاً لرغبة الممارس ودافعيّته الذاتية حسب حاله من الكلل والملل أو النشاط والهمة، كما أن الإقبال يتم أيضاً وفقاً لاختياره لأي نوع من أنواع الأنشطة الترويحية التي تناسبه وتحقق ميوله ورغبته واحتياجاته.
6- لا يزحف على عمل جاد:
يتم الـنـشـــاط الترويحي في وقت الفراغ، والمراد به: الوقت الخالي عن الأعمال الجادة كأوقات الشعائر التعبدية الواجبة، وأوقات العمل، وأوقات القيام بواجبات ومستلزمات الحياة الأخرى، كالأكل والنوم، وما توجبه طبيعة الحياة الاجتماعية من آداب مرعية كزيارة الأقارب، وإكرام الضيف، وعيادة المريض.. ونحو ذلك.
ضوابط للترويح عن النفس في الإسلام:
1- الأصل في الترويح الإباحة:
ويدل لذلك حديث أبي الدرداء (رضي الله عنه) أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله العافية، فإن الله لم يكن نَسيّاً، ثم قرأ هذه الآية ((وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِياً)) (20).
ومن القواعد الـمـتـقــــررة فـي الشرع أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم(21).
2- الترويح وسيلة لا غاية:
الـتـرويـح وسـيـلـــة مـــن الوسائل التي يستطيع بها الإنسان تحقيق التوازن بين جوانبه المختلفة، في حالة وجود اختلال بالإفراط في جانب على حساب بقية الجوانب الأخرى، وإذا تجاوز النشاط الترويحي هذا الحد وأصبح هدفاً وغاية في ذاته، فإنه يخرج من دائرة المستحب أو المباح إلى دائرة الكراهية أو الحرمة.
وبهذا الضابط يخرج الاحتراف لبعض الأنشطة الترويحية عن دائرة المباح أو المشروع لأن فيه إخلالاً ببنية وهيكل النظــام الاجتماعي القائم على تعاليم الإسلام، وفيه قيادة أفراد الأمة إلى الميوعة والترف والانحلال، أضف إلى ذلك: تحقيق ذلك لرغبات أعداء الأمة في إلهاء أفرادها وإشغالهم عن جوهر الصراع الحضاري الذي يمارسونه ضدها.
وأدلة هذا الضابط ظاهرة في الشريعة، ومنها:
أن الإسلام رفض الإفراط في كمية العبادات الشرعية التي جاء آمراً بنوعها أمر وجوب أو استحباب، إذا أُخرجت عن حـــد الـمـألوف المستطاع، ومن النصوص الدالة على ذلك - بالإضافة إلى ما سبق -:
* عن أنس بن مالك (رضي الله عنه) قال: دخل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الـحـبـــل؟ قالوا: هذا حبل لزينب فإذا فترت تعلقت، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:لا،حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد(22).
* عن أبي هريرة (رضي الله عنه) قــال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إذا قام أحدكم من الليل فاستعجم القرآن على لسانه فلم يدر ما يقول فليضطجع(23).
وإذا كان هذا النهي عن أمر مشروع، فما الحال بأمر مباح ـ لم يأمر الشارع بنوعه ـ، يُزاد في كميته زيادة مفرطة، تسبب ضياع الـمأمور به، وتجحف بالتوازن بين جوانب الإنسان المختلفة، وتغير هيكل النظام الاجتماعي الإسلامي، وتحقق مكائد ومخططات أعداء الأمة الساعين إلى إلهائها وتقويض بنيانها؟!.
3- الجد هو الأصل، والترويح فرع:
سـبــق ذِكْــرُ أن النشاط الترويحي في التصور الإسلامي ما هو إلا حالة علاجية، لحصول الاختلال فـي إعطاء كل جانب من جوانب الكائن البشري ما يستحقه من النشاط والقوة، ليعود الإنـســـان بكـافــة جوانبه لمواصلة السير في طريقه إلى الله (عز وجل) بجد ونشاط ومثابرة، وسأحاول تأصـيــل ذلــك والتأكيد على أن الجد صاحب التقدمة والسبق، وأن الترويح تابع له، وفرع عنه، من خلال الأمرين التاليين:
أ- الأولوية للجد في حال التعارض:
يقدم الإسلام الجد على الترويح، ويَـظْـهَــر هذا جليّاً في سلوكياته -صلى الله عليه وسلم- وأقواله، ومن ذلك: ما رواه أبو برزة الأسلمي (رضي الله عنه) أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها (24).
قال الحافظ ابن حجر ـ أثناء شرحه لـهـــذا الحـــديث ـ: قوله: وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها لأن النوم قبلها قد يؤدي إلى إخراجـهــا عن وقتها مطلقاً، أو عن الوقت المختار، والسمر بعدها قد يؤدي إلى النوم عن الصبح أو عن وقتها المختار(25).
والقارئ الكريم يلاحظ أن الشارع لم يكره الترويح المتمثل فـي النوم لراحة البدن أو السمر لكونه سيؤدي إلى تضييع الواجب يقيناً، بل لاحتمال أن يكون ذريعة إلى الوقوع في ذلك.
* ما رواه أبو هريرة (رضي الله عنه) أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب(26).
* عن سماك قال: قلت لجابر بن سمرة: أكنت تجالس رسول الله -صلى الله عليه وسلم، قال: نعم، فكان طويل الصمت، قليل الضحك، وكان أصـحــابــه يذكرون عنده الشـعـــر وشيئاً من أمورهم فيضحكون، وربما تبسم(27).
4- ألا يكون في النشاط الترويحي مخالفة شرعية:
يعتبر هذا الضابط الأهم من ضوابط النشاط الترويحي، ولتطبيقه صور مختلفة، منها:
* ألا يكون في النشاط الترويحي أذية للآخرين من سخرية، أو لمز، ونبز، أو تـرويــع، أو غيبة، أو اعتداء على ممتلكاتهم بإتلاف أو استخدام... ونحو ذلك؛ قال الله (تعالى): ((يَا أَيُّـهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَـكُــــنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَـعـْــدَ الإيمـَــانِ وَمـَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلـَـئـِـكَ هُـمُ الظَّالِمُونَ (11) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَـغْـتَـب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَاًكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتــاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيـــمٌ)) [الحجرات: 11، 12]، وقال -صلى الله عليه وسلم-: لا يأخذن أحدكم متاع أخيه لاعباً ولا جاداً..(28).
* ألا يكون فـي النشاط الترويحي كذب وافتراء؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ويل للذي يحدث بالحديث ليضحك منه القوم فيكذب، ويل له، ويل له(29).
* ألا يكون في النشاط الترويحي تبذير للمال واستهلاك باذخ؛ قال الله (تعالى): ((وَآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ وَالْـمِـسْــكِــيـنَ وَابْنَ الـسَّـبِـيـلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً)) [ الإســراء: 26، 27]، وسياق الآية في الإنفاق على ذي القربى والمسكين وابن السبيل، فكيف الحال في الترويح(30)؟!.
* ألا يكون في النشاط الترويحي اختلاط بين الرجال والنساء لما يفضي إليه ذلك من النظر المحرم، والخلوة المحرمة، بالإضافة إلى أنه قد يكون ذريعة لمخالفات شرعية أكبر؛ قال الله (تعالى): ((وَإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسـْـأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ)) [الأحزاب: 53]، وقال رسول الله: إياكم والدخول على النساء، فـقـال رجل من الأنصار: يا رسول الله: أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو الموت(31).
وعــن جـريــر (رضي الله عنه) قال: سألت رسول الله عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري(32).
* ألا يكون في النشاط الترويحي نص على الحرمة.
ولقد جاءت بعض النصوص بتحريم بعض أنواع ووسائل الترويح، ومن ذلك:
أ -الـمـعـازف؛ ورد في تحريمها نصوص، منها قوله -صلى الله عليه وسلم-: ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف(33).
ب -النرد؛ قال ضص: من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم الخنزير(34).
ج -الميسر؛ قال الله (تعالى): ((يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الخَمْرُ وَالمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [المائدة: 90].
د -التحريش بين البهائم؛ قال ابن عباس (رضي الله عنهما): نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن التحريش بين البهائم(35)(*).
هـ -اتخاذ ما له روح غرضاً؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا تتخذوا شيئاً فيه الروح غرضاً(36).
و -تصويـر ما له روح؛ قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: من صور صورة في الدنيا كلف يوم القيامة أن ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ(37).
ز -كثرة الضحك، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ولا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب(38).
ح -النـظــر إلى ما حرم الله (تعالى)؛ ورد في ذلك نصوص كثيرة، منها قوله (تعالى): ((قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُـضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ)) [النور: 30، 31].
5- ألا يشغل النشاط الترويحي عن واجب شرعي أو اجتماعي:
الطابع الـعــام لحـيــاة الـمـسـلم: الجـدية، وما الترويح إلا عامل مساعد للحياة الجادة، والاستمرار فيها، فإذا تجاوز الـتـرويـح هذا الحد فشغل عن الجد: فإنه يخرج إلى دائرة المكروه أو المحرم بحسب نوع الجد الذي يشغل عنه، فإذا كان شاغلاً عن أداء واجب أو ترك محرم فإنه محرم، وإن كان شاغلاً عن أداء مستحب أو ترك مكروه فإنه مكروه، لأنه أصبح ذريعة إلى الحرام أو المكروه، وما كان ذريعة إليهما أعطى حكمهما، يقول أبو زهرة في بيان قاعدة سد الذرائع:
... وذلـك لأن الـشـارع إذا كلف العباد أمراً فكل ما يتعين وسيلة إليه مطلوب، وإذا نهى الناس عن أمر فكل مــا يـؤدي إلـى الـوقــوع فـيـه حرام أيضاً، وقد ثبت هذا بالاستقراء للتكليفات الشرعية طلباً ومنعاً.(39)
6- ألا يكون النشاط الترويحي ضارّاً على ممارسه:
إذا كــان في النشاط الترويحي ضرر على ممارسه ـ أيّاً كان نوع الضرر ـ ولم يوجد فيه نفع يفوق ذلك الضرر فإنه يحرم على ذلك الممارس مزاولته؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم-: لا ضرر ولا ضــرار(40)، ولـمــا قد تقرر في الشرع من قواعد مثل قاعدة: إذا اجتمع الحلال والحرام غُلّب الحرام(41)، وقـاعــــدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح(42)، وبهذا تظهر حرمة أنواع من الرياضة في عصرنا كالملاكمة والمصارعة ـ بوضعها الحالي والله أعلم ـ لما تؤدي إليه من أضرار في الجسم، بل وربمـا أدى بعضـهـا إلى الوفاة أو الإعاقة ـ كما هو مشاهد ـ.
------------------------
الإحالات:
1- انظر: معجم مقاييس اللغة جـ2، ص454، الترويح للعودة ص23.
2،4- انظر: البدائل الإسلامية لمجالات الترويح المعاصرة لبسيوني، ص21.
3- انظر: الترويح ونظرياته في المجتمعات الحضرية المعاصرة د. إسحاق القطب، والمنشور في مجلة الدار عدد شوال 1402هـ.
5- انظر: الترويح وأوقات الفراغ لدرويش والحمامي، ص21.
6- انظر: البدائل الإسلامية لبسيوني، ص24.
7- انظر: الترويح وأوقات الفراغ لدرويش والحمامي، ص25.
8- انظر: السابق ص63، 77.
9- انظر: السابق ص23.
10- مسلم م4، ص2106، ح2750.
11- البخاري مع الفتح جـ4، ص209، ح 1968.
12- البخاري مع الفتح جـ4، ص217، ح 1975.
13- مسلم م2، ص815، ح1159.
14 -الترمذي جـ4، ص358، ح 1992م، وقال: صحيح غريب، وصححه الألباني في صحيح الجامع ح7909.
*في القاموس المحيط: تقمع فلان تحير أو جلس وحده، والمقصود: أنهن يجلسن بعيداً عن النبي دون عائشة.
15- البخاري مع الفتح جـ10، ص526، ح 6103.
16- البخاري مع الفتح جـ1، ص172، ح 77.
17- أخرجه أبو داود، جـ3، ص66، ح2578، وابن ماجة م1، ص636. وقال في الزوائد: إسناده صحيح على شرط البخاري.
18- مسلم م2، ص609، ح 892.
19- بهجة المجالس لابن عبد البر، جـ1، ص115.
20- أخرجه الحاكم: ج2، ص375، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
21- انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي، ص60.
22- البخاري مع الفتح جـ3، ص36، ح 1150.
23- مسلم م1، ص543، ح 787.
24- انظر: البخاري مع الفتح جـ2، ص7273، ح 599.
25- فتح الباري جـ2، ص73.
26- ابن ماجة م2، ص1403، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7321: صحيح.
27- أحمد: جـ5، ص86.
28- أبو داود: جـ5، ص273، ح 5003، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7454: حسن.
29- أحمد جـ5، ص5 وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7013: حسن.
30- انظر: تفسير ابن كثير، جـ3، ص36.
31- مسلم م4، ص1711، ح2172.
32- مسلم م3، ص1699، ح2159.
33- البخاري مع الفتح جـ10، ص51، ح5590.
34- مسلم م4، ص1770، ح 2260.
35- الترمذي جـ4، ص210، ح 1708 وقد رواه مرسلاً عن مجاهد (ح1709) وحكى أن المرسل أصح، وكذا قال المنذري في مختصر السنن جـ3، ص391، وضعف الألباني المرفوع في ضعيف الجامع، ح6049.
*في القاموس المحيط: التحريش: الإغراء بين القوم أو الكلاب وذلك بتدريبها على ما يشبه المصارعة بهدف التسلي بذلك.
36- مسلم م3، ص1549، ح1957.
37- البخاري مع الفتح جـ10، ص393، ح 5963.
38- أحمد: جـ2، ص310، وقال الألباني في صحيح الجامع، ح7312: صحيح.
39- ابن حنبل حياته، وعصره، وآراؤه الفقهية لأبي زهرة، ص314.
40- أحمد: جـ1، ص313، وقال الألباني في صحيح الجامع: ح7517: صحيح.
41- الأشباه والنظائر للسيوطي، ص105، والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص121.
42- الوجيز في القواعد الفقهية للبرنو، ص85.