د-أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 11998
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
في زمن التتار القدامى كان المسلمون يخافون من جنود التتار خوفا عظيما جدا- كما يقول الحافظ بن كثير- حتى أنه دخل رجل منهم إلى درب من دروب المسلمين وبه مائة رجل لم يستطع واحد منهم أن يتقدم إلى هذا التتري ، الذي ظل يقتلهم واحدا بعد واحد حتى قتل الجميع ولم يرفع منهم أحد يده إليه ، ونهب التتري ذلك الدرب وحده . ودخلت امرأة تترية في زى رجل بيتا فقتلت كل من كان فيه وحدها ، حتى استشعر أسير معها أنها امرأة فقتلها. وأرسل " جنكيزخان " سراياه إلى "كلانة وفرغانة وخراسان والطالقان" ثم قدم بنفسه إلى مرو وانكسر المسلمون هناك وكان بها مائتي ألف مقاتل من العرب . قتل التتار في يوم واحد سبعمائة ألف إنسان. ودخلوا بغداد وأحاطوا بها من ناحيتها الغربية والشرقية وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة وقتل التتار أكثر أهلها حتى الخليفة. (البداية والنهاية 13/105-226)
هكذا كان الحال في زمن التتار القدامى ، لكن الحال اختلف في زمن التتار الجدد . رغم أنه زمن التيه والغربة الثانية كما يسميه - المفكرون الإسلاميون- فهناك جيل جديد من نوع هذا الجيل الذي استجمع شجاعته وقتل المرأة التترية.
جيل جاء – كما يقول المفكرون الإسلاميون - في موعد مقدور من عند الله . جيل يمثل منعطفا حادا في الطريق. جيل يتعرض للعداوة في كل خطوة من خطواته وكل تحرك من تحركاته إما بالتقتيل والتعذيب والتشريد وإما بالتسخيف والترذيل والتشويه وإما بالصد والتنفير تارة . وتارة أخرى يرميه المخلصون بمحدودية العلم الشرعي ، وافتقاد الوعي السياسي والوعي الفكري ، وافتقاد زعاماته الصغيرة إلى الخبرة واختلاط الإخلاص للدعوة بالإخلاص للذات. وقد يكون بعض ذلك صحيحا ، لكنه رغم كل هذه النقائص ، فهو جيل شأنه شأن من سبقه يملك حماسة ورغبة . استشهاد رجل منهم أو امرأة موصول أو موصولة القلب بالله ، يصنع الله به أوبها للإسلام مالا يصنعه ملايين القاعدين ممن قلوبهم موصولة بالتتار الجدد من اليهود والنصارى ، فكانوا هم وابن العلقمي الرافضي سواء .
الأمر مختلف إذن . فبعدما يقرب من سبع سنوات مما يسميه التتار الجدد بأحداث 11سبتمبر التي أُلصقت بهذا الجيل ، يجيء الأمريكيون ويصفون " مايكل فيكرس" -- الذي يحتل قمة صانعي القرار في العمليات الخاصة بالبنتاجون، ومبدع استراتيجية ما يسمونه بمكافحة الإرهاب ومواجهة انتشار الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية – بأنه من أتباع المدرسة القديمة ، حيث كان يأمر صفوة قواته العسكرية الخاصة باعتقال أو قتل الجهاديين. أما اليوم فإنه يقضى معظم وقته وسائر أيامه في دراسة ما يسمى بنظرية الردع الجديدة وهى النظرية التي تقوم على البحث عن الوسائل التي تمنع هجمات الجهاديين وعلى رأسها إقناع مؤيديهم بعدم تقديم أية مساعدة لهم من أي نوع.
إن هذا الجيل من الجهاديين ليس كالمسلمين القدامى الذين كان التترى يرى الواحد منهم فيقول له : لقد نسيت سيفى فانتظر هنا حتى أحضره فأقتلك به ، وكان ينتظره حتى يأتى بسيفه فيقتله . إنه جيل أجبر التتار الجدد على الإعتراف بأن قتل واعتقال الجهاديين لم يعد صالحا بمفرده فى منع هجماتهم . يقول الرسميون الأمريكيون : " لقد نجح كبارقادة الجهاديين فى تجنب القتل والاعتقال ويجب الاعتراف بأن التهديد باعتقالهم لن يجعل الولايات المتحدة أكثر أمنا".
يخشى الأمريكيون – حقيقة أو ادعاء- بأنه بإمكان الجهاديين أن يقوموا بهجمات يستخدمون فيها أسلحة بيولوجية أوكيميائية أو نووية، ولهذا فكروا في تطوير استراتيجية ردع تشبه هذه الاستراتيجية التي ساعدت الولايات المتحدة على تجنب أي هجوم نووي سوفياتي محتمل عليها في حقبة الحرب الباردة. لقد أجبر هذا الجيل الجديد من الجهاديين الأمريكيون على الاعتراف الصارخ بأن ردع الجهاديين أصعب بكثير من ردع السوفيات. هناك أهداف واضحة يستطيع الأمريكيون تدميرها مثل المواقع العسكرية والمصانع والمدن السوفياتية . ومثل هذا ليس قائما عند الجهاديين. كما أن مواقع القيادة السوفياتية السابقة كالكرملين ومكاتب اللجنة المركزية للحزب الشيوعي معروفة لدى القيادة الأمريكية ، لكن هذه القيادة لا تعرف أين يختبئ قادة الجهاديين.
في عام 2002 " وقع الرئيس بوش " على استراتيجية الأمن القوى الأمريكي، وجاء في حيثيات هذه الاستراتيجية " أن المفاهيم التقليدية لن تأتى بثمارها في مواجهة عدو له تكتيكات ذات آثار تدميرية كبيرة " . وبعد أربع سنوات من هذا التاريخ أدرك الأمريكيون أن الجهاديين لا يعملون من فراغ وأن هناك حاجة إلى تطوير استراتيجية جديدة أكثر تعقيدا تقوم على ردع هذا العدو ومنعه من القيام بهجمات قاتلة أو صرفه على الأقل عن التفكير في القيام بمثل هذه الهجمات. وأنه لا بد من البحث عن طرق جديدة من شأنها أن تحرم الجهاديين من الدعم المالي والمادي والبشري وذلك باستغلال عنف الهجمات التي يقومون بها والأخطاء التي يقعون فيها لترتد عليهم بآثار عكسية.
وجد الأمريكيون - وفقا لاستراتيجية الردع - أن شبكة الإنترنت تمثل للجهاديين " السماء العالمية الآمنة" ، وهى سبيلهم إلى القيام بهجمات ، والحصول على المال ، وتجنيد جهاديين جددا. من هنا قام الخبراء بحملة سرية لزرع رسائل إلكترونية زائفة على شبكة الإنترنت بقصد التشويش على الجهاديين وبذر بذور الانشقاق وعدم الثقة بينهم ، كما استطاع الخبراء الأمريكيون من الاستفادة من الأقراص الصلبة لأجهزة الكمبيوتر التي استولوا عليها أثناء مطاردتهم للجهاديين في الحصول على المعلومات الضرورية التي تمكنهم من استغلالها ضدهم .
كما وجد الأمريكيون أيضا أنه من الأهمية بمكان ضرب سمعة ومصداقية الجهاديين بين المسلمين . وذلك بزرع الشكوك في عقول قياداتهم الكبرى بأن عملياتهم ما هي إلا قتل مشين للأبرياء ، أو الإيهام بأن فشلها أمر مؤكد ، ومن شأن هذه الأساليب عند الخبراء أن تمنع صدور الأوامر من قبل هذه القيادات بتنفيذ هذه الهجمات. كما وجد الخبراء كذلك أنه من بين الأساليب التي تعمل على تشويه سمعة الجهاديين أو إضعافها إطلاق شرائط فيديو تبين لقاءات زعماء الجهاديين مع القادة الأجانب أو تحتوى على تصوير لتدريب الأطفال على الاختطاف والقتل. ومن ذلك أيضا استغلال الخطابات التي يرسلها القادة لشركائهم تصف ضعف الجماعات الجهادية أو انهيار روحها المعنوية.
هذه الأساليب الجديدة في محاربة الجهاديين تقوم على استخدام برامج وتقنيات عالية المستوى لا يفصح الخبراء عنها غالبا. يقول البريجادير جنرال " مارك شيسلر"مدير شبكة الإنترنت في القوات الجوية الأمريكية والنائب السابق لمدير مكتب مكافحة الإرهاب في هيئة الأركان المشتركة : " إذا استطعت أن تتعلم شيئا من مادة الأقراص الصلبة وتستخرج منها المعلومات عن أهداف هذه الجماعات وما تخطط له وما تريد تنفيذه فإنك تستطيع زرع الشكوك بين أفرادها بتوجيه رسائل مضادة . إنهم يشعرون بأنهم آمنون عبر شبكة الإنترنت ويستطيعون عن طريقها نشر أفكارهم وتجنيد المزيد من الأعضاء الجدد ، هنا علينا أن تتدخل وأن نقطع عليهم الطريق".
ومن الأساليب الأخرى التي يرى الخبراء أنه يجب التركيز عليها لإفشال العمليات الجهادية هو دراسة الطرق التي يمكن بها إقناعهم بالتخلي عن استخدام أسلحة غير تقليدية في هجماتهم . ومن هذه الطرق دراسة مظاهر ثقافة هؤلاء الجهاديين وأحوال عائلاتهم ، ومعتقداتهم وقدراتهم البلاغية في التأثير على الآخرين.
تحرك الأمريكيون على الصعيد الدبلوماسى بجدية كبيرة ولكن من وراء الستار وتعاونوا مع شركائهم في المنطقة لاستغلال تصريحات كبار علماء الدين المسلمين الذين يستنكرون العنف المصاحب لعمليات الجهاديين ، أو يعتبرون أن العمليات الانتحارية ليست استشهادية ولن تدخلهم الجنة ، فيعملون على تضخيمها واستغلالها ضد الجهاديين. كما يركزون على أن مثل هذه العمليات قد تشين عائلاتهم بعدهم. الهدف هنا هو كسر إرادة الجهاديين. يقول الليفتنانت جنرال" جون ساتلر" مدير مركز الخطط الإستراتيجية فى ذلك :" ماهو مركز جاذبيتهم عند المسلمين؟ هذا هو الذي يجب أن نلعب عليه ، فنضيع عليهم الهدف الذي يسعون وراءه ، وضياع الهدف يعنى إحراجهم وإراقة ماء وجوههم أمام المسلمين أوالمتطرفين الآخرين الذين يعملون لصالحهم".
يقول شميت وشانكر:" إن جهودا كبيرة لابد أن تبذل لإقناع المسلمين بالتوقف عن دعم هؤلاء ... وذلك عن طريق حملة ناعمة تحركها الأصابع الأمريكية لكنها لا تترك أثرا أو دلالة عليها ، لأنها لو اكتشفت أضاعت كل هذه الجهود. لقد أشار كبار المسؤولين فى إدارة الرئيس بوش أن تطورات واعدة ظهرت على السطح . من هذه التطورات التصريح الذي أدلى به مفتى السعودية الشيخ عبد العزيز آل الشيخ الذي حذر فيه السعوديين من الاشتراك فى أنشطة جهادية غير مشروعة .إن مثل هذا التصريح يصلح توجيهه رأسا لهؤلاء الجهاديين الذين يذهبون إلى العراق لمحاربة القوات الأمريكية وحلفائها .
هناك أيضا عبد العزيز الشريف قائد أكبر حركة مصرية مسلحة وهى الجهاد الإسلامي . أكمل الشريف كتابا يرفض فيه العنف المسلح القائم على أرضية دينية أو مشروعة . إن مثل هذه التصريحات من شأنها أن توسع دائرة الإنشقاق بين كبار الجهاديين وبين حماتهم السابقين الموالين لهم . هكذا يقول الديبلوماسيون فى الغرب وفى بلاد الشرق الأوسط.
إن العديد من الجهاديين حريصون على الشرعية الدينية والشعبية لأفعالهم ، هكذا يقول " ستيفن هادلى " مستشار الرئيس بوش للأمن القومى. إننا بتشجيعنا ودفعنا للجدل الدائر بينهم حول الشرعية الأخلاقية لاستخدام أسلحة الدمار الشامل نستطيع أن نؤثر على الحسابات الاستراتيجية للجهاديين ".
خلاصة الأمر أن التتارالجدد اعترفوا على لسان " فيكرس" بأنهم يواجهون جيلا لم يتمكنوا من ردعه من أن يتوقف عن إيذائهم ، ففكروا في ردع الشبكة المؤيدة له والتي تمده بالمال والمدد ومحاولة حرمانه من أدواته المتنوعة التي تساعده على الاستمرارية ، وأهمها الملاذ الآمن الذي ينطلقون منه . يعتقد التتار الجدد أنهم يقتربون من الوصول إلى أهدافهم بمحاولتهم بذل أقصى مالديهم من اختراع أنظمة فنية عالية المستوى التي يمكن أن تحدد مصادر وأمكنة الأسلحة غير التقليدية وبإعلام العالم كله بأن أمريكا لديها هذه المقدرة. لكن الرسميين الكبار أقروا من قبل بأنه من الصعب البرهنة على أن هذه الاستراتيجيات والتكتيكات يمكن أن تلعب دورا في مقاومة أو منع الجهاديين من القتال.
انظر:-
Erick Schmitt & Tom Shanker, The New York Times, U.S. Adapts Cold-War to Fight Terrorists. March 18, 2008.
-----------------
دكتور أحمد إبراهيم خضر
دكتوراة فى علم الإجتماع العسكرى
الأستاذ المشارك السابق فى جامعات القاهرة،والأزهر، وأم درمان الإسلامية، وجامعة الملك عبد العزيز