د- أحمد إبراهيم خضر - مصر
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 9563
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
انطفأ مصباح النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فقال: " إنا لله وإنا إليه راجعون" فقيل: أمصيبة هي يا رسول الله ؟ قال:"نعم، كل ما أذى فهو مصيبة ".
والمصيبة هي النكبة التي تقع للإنسان وإن كانت صغيرة، وهى المكروه أيضا، وهى كل ما يؤذى المؤمن. يقول تعالى: "وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون". (البقرة 155-157)، كلمات الإسترجاع في هذه الآية هى: " إنا لله وإنا إليه راجعون"، هذه الكلمات هى ملجأ وملاذ ذوى المصائب " فلا يتسلط الشيطان عليهم ولا يوسوس لهم بما يزيد من شدة مصائبهم. وهى من أبلغ علاج المصائب وأنفعها للإنسان، وهى جامعات لمعاني الخير والبركة، فقول المصاب " إنا لله " توحيد وإقرار بالعبودية والملك، وقوله: وإنا إليه راجعون" إيمان بالبعث بعد الموت وإيمان أيضا بأن الله له الحكم في الأولى وله المرجع في الآخرة، فهى كلمات تعنى اليقين بأن الأمر كله لله وأنه لا ملجأ منه إلا إليه.
وتتضمن هذه الكلمات كما يقول العلماء أصلين عظيمين إذا عرفهما المصاب خففت عنه شدة ما أصيب به.
الأول: أن يعرف المصاب ويوقن بأن نفسه وأهله وماله وولده ملك لله تعالى حقيقة، وأن الله تعالى قد أعارها إياه وجعلها عنده، فإذا أخذها الله منه فإنه يكون قد استرد ما أعاره إياه، وأن تملك الإنسان لما أعير إنما كان لفترة يسيرة من الزمن ليستمتع بها. وإذا كان الإنسان قبل أن يولد عدما، وبعد أن يموت سيكون عدما، وإذا كان الله تعالى هو الذي أوجده من عدم، فكل ما يملكه ليس ملكه حقيقة وليس له فيه تأثير، وإنما ملك من أوجده من هذا العدم.
والإنسان يتصرف فيه ليس تصرف المالك وإنما تصرف العبد المأمور بالفعل والمنهى عن آخر، ولهذا لا يباح له التصرف إلا وفق أوامر ونواهى المالك الحقيقي وهو الله عز وجل، فكيف يأسى على فقد شيئ لا يملكه أصلا.
الثاني : أن مصير الإنسان ومرجعه هو إلى الله تعالى ، وأنه ولا بد أن يترك الدنيا وراء ظهره ، ويأتي ربه يوم القيامة فردا ، كما خلقه أول مرة ، بلا أهل ولا مال ولا ولد ، ولكن يأتيه بالحسنات والسيئات فقط ، فإذا كانت هذه بداية العبد ونهايته، فكيف يفرح بولد أو مال أو غير ذلك من متاع الدنيا، وكيف يأسى على عزيز فقده ، أو مال خسره .
إن في كل قرية و في كل مدينة بل وفي كل بيت من أصابته مصيبة، فمنهم من أصيب مرة و منهم من أصيب مرارا و لا ينقطع هذا حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب فيصاب أسوة بأمثاله ممن تقدمه فإنه إن نظر يمنة فلا يرى إلا محنة وإن نظر يسرة فلا يرى إلا حسرة.
وذكر العلماء: أن ذا القرنين لما رجع من مشارق الأرض و مغاربها و بلغ أرض بابل مرض مرضا شديدا فلما شعر بدنو أجله كتب إلى أمه: يا أماه اصنعي طعاما واجمعي من قدرت عليه و لا يأكل طعامك من أصيب بمصيبة و اعلمي هل وجدت لشيء قرارا باقيا و خيالا دائما ؟ ! إني قد علمت يقينا أن الذي أذهب إليه خير من مكاني، فلما وصل كتابه إلى أمه صنعت طعاما و جمعت الناس و قالت: لا يأكل هذا من أصيب بمصيبة فلم يأكل أحد من هذا الطعام، فأدركت ماذا كان يقصد ولدها، فقالت: من يبلغك عني أنك و عظتني فاتعظت و عزيتني فتعزيت فعليك السلام حيا و ميتا.
ولو فتش المصاب العالم فلن ير فيه إلا مبتلى إما بفوات محبوب أو حصول مكروه، فسرور الدنيا كما يقول العلماء أحلام نوم أو كظل زائل، إن أضحكت قليلا أبكت كثيرا و إن سرت يوما ساءت دهرا و إن متعت قليلا منعت طويلا وما جلبت للشخص في يوم سرورا إلا خبأت له في يوم آخر شرورا. وقال العلماء أيضا: ما كان ضحك قط إلا كان بعده بكاء.
ورغم ذلك كله، فإن في قصة أم سلمة رضى الله عنها بشارات مضيئة لذوى المصائب، قالت أم سلمة: " سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: ( إنا لله و إنا إليه راجعون ) اللهم اؤجرني في مصيبتي و أخلف لي خيرا منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها " قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت: من خير من أبي سلمة صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم ؟ قالت: ثم عزم لي فقلتها فتزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المقصود هنا: أن هذا تنبيه على قوله تعالى: ( و بشر الصابرين ) بأنه تعالى يخلف المصاب كما أخلف لأم سلمة بدل زوجها أبي سلمة رسول الله صلى الله عليه و سلم حين اتبعت السنة و قالت ما أمرت به ممتثلة طائعة موقنة بأن البر والخير فيما قاله الله ورسوله وأن الضلال و الشقاء في مخالفة الله و رسوله فلما علمت ـ رضي الله عنها ـ أن كل خير في الوجود إما عام و إما خاص فهو من جهة الله و رسوله و أن كل شر في العالم أو كل شر مختص بالعبد فسببه مخالفة الله ورسوله، وقالت هذه الكلمات حصل لها مرافقة الرسول في الدنيا و الآخرة.
و قد يتحقق للإنسان بكلمات الاسترجاع منزلة عالية و ثوابا جزيلا، فإن الله تعالى يقول لملائكته: " ماذا قال عبدي ( أي عند المصيبة ) ؟ فيقولون: حمدك و استرجع فيقول الله تبارك وتعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنة و سموه بيت الحمد ".
والذي يسترجع عند المصيبة: عليه صلوات من ربه ( أولا )، ورحمة ( ثانيا )، وهو من المهتدين ( ثالثا )، كما جاء في قوله تعالى: " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون". وقال عمر في ذلك: نعم العدلان و نعمت العلاوة فأراد بالعدلين الصلوات و الرحمة و بالعلاوة الهداية وقيل فيها أيضا: المراد استحقاق الثواب وتسهيل المصاب و تخفيف الحزن ( أولئك عليهم صلوات من ربهم ) فالصلاة من الله الرحمة و من الملائكة الاستغفار و من الآدمي التضرع و الدعاء ) وقال العلماء: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة و صلاة الملائكة الدعاء.
ومن أعظم البشارات كذلك:أن من أصيب بمصيبة ثم تذكرها بعد مدة طويلة فجدد لها استرجاعا و صبرا كان له عند الله من الأجر كلما ذكرها و استرجع.
قال الإمام أحمد في مسنده: ـ عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ما من مسلم و لا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها و إن طال عهدها ـ قال عباد: قدم عهدها ـ فيحدث لذلك استرجاعا إلا جدد الله له عنه ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب بها .
وقال سعيد بن جبير : ما أعطي أحد في المصيبة ما أعطي هذه الأمة ـ يعني ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ـ و لو أعطي أحد لأعطي نبي الله يعقوب عليه السلام ألم تسمع إلى قوله في فقد يوسف : { يا أسفى على يوسف } أولئك ـ أصحاب هذه الصفة ـ ( عليهم صلوات من ربهم ورحمة و أولئك هم المهتدون) .
------------------
الدكتور أحمد إبراهيم خضر
دكتوراه فى علم الإجتماع العسكرى
عضو هيئة التدريس السَّابق بجامعات القاهرة ،و الأزهر ، و أمِّ درمان الإسلامية ، و جامعة الملك عبد العزيز