عمد الجيش الأميركي في أيلول/سبتمبر 2007 إلى تفعيلٍ كبيرٍ لبرنامج "أنظمة الأراضي البشريّة" (Human Terrain Systems, HTS)، قيد الخدمة منذ عدة سنوات [1]. فقد تمّ تجنيد علماء إناسة (أنتربولوجيا) ودمجهم مباشرةً في الوحدات القتالية على مستوى الألوية والفرق العسكريّة في العراق وأفغانستان. وقد تمّ تكليفهم بتقديم النصائح للقادة العسكريين حول النشاطات الثقافية التي يمكن أن تتمّ على الأرض. ويؤمن برنامج "أنظمة الأراضي البشريّة" الذي تديره شركة "BAE system" [2] الخاصّة، المعلومات اللازمة لعسكريين يواجهون حالات فيها احتمالات عنف، ما يسمح لهم بعدم الوقوع في تفسيرٍ سيّء لتصرّفات السكان المحليين ويمكنّهم من تحليل الأوضاع التي يجدون نفسهم فيها.
وفي مقالة لها بتاريخ 5/11/2005، امتدحت صحيفة "نيويورك تايمز" منافع مجموعة علماء الإناسة المشاركين في عمليّةٍ كبيرة للحدّ من الهجمات على الجنود الأمريكيين والأفغان. فبعد أن تعرّفوا على عددٍ كبيرّ من الأرامل في المناطق المستهدفة، افترض علماء الإناسة أن الشبّان ممّن لهم علاقات قربى مع تلك الأرامل، قد يشعرون بالحاجة إلى مساعدتهن مادياً، وبالتالي، سيلتحقون بالمتمرّدين الذين يدفعون لمقاتليهم، من باب الحاجة الاقتصادية. فكان من شأن برنامج الإعداد المهني لتلك الأرامل السماح بالحدّ من عدد الهجمات.
أثار برنامج "أنظمة الأراضي البشريّة" المخاوف لدى العديد من علماء الإناسة، خصوصاً وأنّه يذكّر بسوابق محزِنة. فمشروع "كاملوت" الذي أطلق عام 1965 ولم يدُم طويلاً، كان قد جنّد بعض هؤلاء العلماء بغية تقييم الأسباب الثقافية للعنف. وقد استخدمت التشيلي حقلاً للتجارب في هذا المضمار، في الوقت الذي كانت تسعى فيه وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى منع الإشتراكي سلفادور الليندي من الوصول إلى السلطة.
المشروع الثاني، الذي حمل إسم "دعم العمليات المدنيّة والتنمية الثورية" (CORDS)، كان يهدف إلى تنسيق البرامج المدنية والعسكرية الأميركية، من أجل "فرض السلم" في فيتنام. وقد سعى إلى وضع "خارطة بشرية" للأراضي، ما يسمح بالتعرّف - وبالتالي الاستهداف المحتمل - للأشخاص والمجموعات المشكوك في دعمها للشيوعيين الفيتناميين. ونحن متأكّدون بأن البحث الأنتربولوجي قد استُخدم في هذه العمليّة.
على غرار "قسم أبوقراط" الذي يرتبط به الأطباء، يملك علماء الإناسة قانون أخلاقيّات، يقول بأنّ على نشاطهم ألاّ يلحق الأذى في أي حال، بالشعوب التي تجري دراستها، وأنّ السكّان يجب أن يوافقوا عن إدراكٍ مسبقٍ على مساهمتهم في نشاطات البحث. بالطبع، يستحيل تنفيذ هذا الشرط في أحوال الحرب. فالعديد من الناس حول العالم يعتبرون أصلاً هؤلاء الاختصاصيين نوعاً من الجواسيس، حتى عندما يجرون أبحاثهم في ظروفٍ عادية، وهذا ما يُلحِق الضرر الجدّي بمهمّتهم العلمية. لهذه الأسباب مجتمعة، وجد برنامج "أنظمة الأراضي البشريّة" نفسه تحت الأضواء من قبل أهل المهنة.
وفي ايلول/سبتمبر 2007، شكّل بعض الجامعيين شبكة، "الأنتربولوجيون المعنيون" Concerned Anthropolgists [3]، المستوحاة من علماء الفيزياء الذين عارضوا حرب النجوم، البرنامج الأمريكي للدرع المضاد للصواريخ الذي كان رونالد ريغان قد أطلقه. وقد كتبوا مشروعاً يلتزمون فيه "عدم المشاركة في قمع التمرّدات". يوضّح هذا الموقف أحد مؤسسي المجموعة، دايفيد برايس، من جامعة سان مارتن لايسي (ولاية واشنطن): "لسنا جميعاً بالضرورة ضد مبدأ العمل مع الجيش، لكنّنا نعارض كل ما هو محاربة للتمرّد، أوما يخرق قواعد أخلاقيات البحث. ونطلب من زملائنا أن يعلِنوا أنّهم لا يريدون استخدام علم الإناسة لهذا الغرض" [4].
وفي تشرين الأول/أكتوبر 2007، أصدر المجلس التنفيذي لجمعية الأنتربولوجيا الأمريكية إعلاناً صارماً لا يحظّر صراحةً المشاركة في برنامج "أنظمة الأراضي البشريّة"، لكنّه يحذّر جميع الأعضاء من التجاوز المحتمل لقانون أخلاقيات المهنة الذي قد يتسبّب به.
فخلال الاجتماع السنوي للجمعية في واشنطن في تشرين الثاني/نوفمبر 2007، كانت هذه النشاطات في صلب سجالٍ ما زال مستعراً. إذ أثناء إحدى الحلقات تحت عنوان :"الأمبراطورية تردّ: آفاق أمام العسكريين وأجهزة الاستخبارات الأميركية في علاقاتهما مع علم الإناسة"، تواجه أنصار وأعداء المشروع أمام جمعٍ حاشد. وقد حاول المحاضرون الذين كانوا قد تعاونوا مع الجيش إقناع زملائهم بفائدة عملهم الذي قد يساعد في تحويل مواقف العسكريين وجعلها أكثر حساسيةً للاختلافات الثقافية. أما المشكّكون فقد اعتبروا أنّ من يتعاونون مع الجيش يبرهنون عن سذاجةٍ لجهة استخدام أبحاثهم.
وقد أفضى هذا السجال الحامي إلى قرارٍ، لو أقرّ من قبل الجميع، لكان عزّز من الأخلاقيات المهنية ومنع أيّ نشاطٍ بحثي سرّي لصالح أجهزة الاستخبارات.
أحد أهم المدافعين عن التعاون مع الجيش هي الدكتورة مونتغمري ماك فايت، عالمة الإناسة في جامعة "يال" والعضو في المؤسسة الأميركية للسلام (التابعة لوزارة الخارجية). فقد قدّمت خلال منتدى عقد في 10 ايار/مايو 2007، مشروعاً ساهم في تأسيس برنامج "أنظمة الأراضي البشريّة". فحسب برأيها، لا ينفق الجيش ما يلزم للأبحاث في مجال العلوم الاجتماعية التي يمكن أن تكون ذات أهميّة قصوى لنجاح العمليات العسكرية. ولردم هوّة المعارف، طالبت بقيام برنامجٍ واسعٍ للأبحاث الاجتماعية يتضمّن بناء قاعدة معطيات "اجتماعية-ثقافية"، بفضل تجنيد محلّلين ثقافيين جدُد في الإدارات الحكومية، وافتتاح مكتبٍ مركزيّ للمعرفة الثقافية.
لا مشكلة في نظر المهنة، تجاه أيّ من جهود البحث التي تدعو إليها السيدة ماك فايت. لكنّه عندما تستخدم الخبرة كسلاح في المعارك على الأرض، يصبح الوضع مثيراً أكثر للجدل. فهذا الخيط الرفيع بين الاستخدام الجيّد والسيء لعلم الإناسة هو الذي ما يزال يثير التساؤلات.
(*) استاذ، رئيس كلية الانتربولوجيا في جامعة مينيسوتا، مينيابوليس. هو أيضاً استاذ في قسم الشرق الأوسط في الجمعية الأميركية لعلم الإناسة.
[1] بحسب مقالٍ منشور على موقع الـ"بي بي سي"، "الجيش الأميركي يجنّد علماء الإناسة" (16 تشرين الأول/أكتوبر 2007)، تمّ تخصيص 40 مليون دولار للمشروع. وتصل كلفة عالم الإناسة المرسل إلى أرض النزاع إلى 400 ألف دولار سنوياً. http://news.bbc.co.uk/2/hi/americas...
[2] تأسّست الشركة على يد "بريتيش ايروسبايس" و"ماركوني الكترونيك".
[3] هناك معلومات مهمة على موقع الجمعية http://concerned.anthropologists.go...
[4] مقابلة على أثير راديو "الديموقراطية الآن"، في 13/12/2007
12-04-2008
islamicnews.net
Warning: mysql_fetch_array(): supplied argument is not a valid MySQL result resource in /htdocs/public/www/actualites-news-web-2-0.php on line 793