د - المنجي الكعبي - تونس
من كتـــــّاب موقع بوّابــتي المشاهدات: 896
يسمح بالنقل، بشرط ذكر موقع "بوابتي" مصدر المقال، ويفضّل أن يكون ذلك في شكل رابط
ما أقدمه هنا يمثّل دعوة لتطبيق نظرية الإعجاز على الشعر. ولم أر من سبقني إلى هذا العمل أو حاول شيئاً في اتجاهه. ربما بسبب الحرج من القرآن الكريم لاختصاصه وحده بفكرة الإعجاز، وربما بسبب غياب المعنى الذي أقصده من الإعجاز وتطبيقه على الشعر، وهو ما يبرر إقدامي على التفكير في هذا الموضوع، وأكتفي هنا برسم ملامحه العامة لأن تفصيله يتطلب دراسة مطولة.
ليس هدفنا انتزاع المعنى الديني للإعجاز ونقله إلى الشعر، بل غاية ما في الأمر هو الاستفادة من الملاحظات الهامة للنقاد القدامى حول الإعجاز واستغلالها ضمن رؤية متكاملة في ميدان نقد الشعر.
ورغم ما بين الشعر وبين القرآن من مشابهة، من حيث الاحتكام إلى قوانين واحدة للبلاغة العربية، إلا أن المقارنة بين إعجاز وآخر غير واردة هنا لاختلاف طبيعة كل منهما.
ولا بدّ في المقدمة من مراجعة مقالات المتقدمين حول إعجاز القرآن وعرضها على مفهومنا الحديث من جهة كونها ظاهرة فنية إبداعية متميزة في الأدب العربي دون غيره من الآداب والتخلص منها إلى غرضنا في البحث.
(١)
ليس هناك مع الأسف دراسات دقيقة عن مبدإ فكرة الإعجاز في القرآن الكريم؛ متى ظهرت وكيف ظهرت ومدى ما تطورت اليه منذ ظهورها الأول. أي هل ظهرت مع السور التي فيها إشارة إلى التحدي بالإتيان بمثله أم قبل ذلك مع الوحي؛ وماذا كانت التفسيرات الأولى لتلك الآيات التي قررت معنى الإعجاز في القرآن في نفوس العرب، وخاصة لدى المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم، فالمعروف أن عامة كتب اللغة والتفسير والبلاغة تنطلق من كون القرآن معجزة من معجزات الرسول (ص) بل هو معجزته الكبرى، وأن الله لم يخص أحداً ممن تقدّمه من الأنبياء بمثلها، وأنه لم تقع معارضته من العرب مع قيام التحدي به، وأن الإعجاز البياني من صفات هذه المعجزة وليس صفتها الوحيدة.
ولذلك جاء في تعريف المعجزة بأنها «أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي، سالم عن المعارضة». وهذا الربط بين الخارق للعادة من ناحية وبين التحدي والسلامة من المعارضة من ناحية أخرى سبّب كثيراً من الاختلافات بين العلماء والمفسرين لأن التحدي فُهم عند بعضهم بالتعجيز المسبق من قبل الله لكل من قد تقوم في نفسه رغبة في معارضة القرآن، أي ليس بعامل ضعف الملكة البلاغية.
ومعنى ذلك عند الرازي مثلاً أنه كان بإمكان العرب الإتيان بمثل القرآن. وقريب من هذا المعنى رأي النظام في الصّرفة، ويظهر أنه أول من قال بها، أي صرف الله العرب عن معارضة القرآن، ولولا ذلك لأمكنتهم المعارضة. وهنا رأيان نستشف منهما أن الإعجاز ديني وليس بيانياً.
وهذان الرأيان جريئان ولم يفهما حق فهمهما عند المتأخرين من العلماء، الذين بقي أكثرهم يتنازعهم المعنى الديني في الإعجاز والمعنى البلاغي. ولما غلبت النظرة الدينية لإعجاز القرآن بلاغياً تأكد أن تنصرف الجهود إلى معرفة هذا الإعجاز، أو تلمس بعض مظاهره مع الإقرار سلفاً بالعجز عن إدراك كامل الإعجاز البياني في القرآن، ومع الإقرار كذلك بأن هذه المعرفة لا تفضي بحال من الأحوال إلى إمكانية معارضته مطلقاً، أو بعبارة أخرى لا تزيد إلا ترسيخ العجز الدائم في النفوس عن معارضته.
ولذلك جاء التعبير عند عبد القاهر الجرجاني بـ «أسرار البلاغة» وبـ«دلائل الإعجاز» وهو يقصد مجرد التعرف على بعض الدلائل ومجرد الإشارة إلى بعض الأسرار، وهو الأمر الذي أداه إلى صياغة نظريته حول الإعجاز، والتي سنتحدث عنها بعد قليل، وهي نظرية إعجازه بالنظم، أي أنه وضع يده على نظرية تحقق عدم التطاول على معارضة القرآن أبداً حتى مع إدراك جميع أسرار البلاغة.
وإنما انصبت محاولات البلاغيين على هذا الإعجاز البياني لأنه في تقديرهم لا يمكن قيام التحدي للعرب بغير هذا في لغتهم وأحوالهم. إذ ما عدى ذلك من نواحي الإعجاز الأخرى في القرآن، كالإخبار بالغيب والأحكام الشرعية وأساطير الأولين وما إلى ذلك، لا يكون مجالاً مفضلاً لممارسة هذا التحدي على أصحاب الفصاحة والبلاغة في عصر النبوة.
ومن الغني عن القول هنا أن كل علوم اللغة العربية نحوها وبيانها تأثرت بهذا المفهوم الذي أعطي للإعجاز في القرآن منذ وقت مبكر. وأنه وإن وقع تسجيل عدة محاسن لهذا الأمر في باب دراسة اللسان العربي والتعمق في علومه إلا أن المساوئ التي أفرزها هذا التوجه، المعترض عليه من أساسه، تجاوزت اللغة إلى النقد وعرقلت كثيراً من تطوّر المفاهيم الفنية شكلاً ومضموناً، ليس في الأدب العربي فقط ولكن أيضاً في الآداب الإسلامية.
فلم يقع فقط اتخاذ القرآن مثلاً بلاغياً أعلى، ولكن اتخذ تراث ما قبل الإسلام وما عاصر الإسلام حجّة على أصحاب اللغة وعلى الشعراء والكتاب إلى عصور لاحقة، ويستمر الحال إلى اليوم مع اختلاف قليل بحسب التأثيرات الخارجية على الأدب العربي وضعف النواحي الإيمانية، كما سنرى.
( ٢)
ونحن نتفهم عدم إمكانية الفصل بين الإعجاز الديني والإعجاز البياني في أذهان العلماء المتقدمين بسبب قربهم من عصر النبوة، واستمرار التحدي في نظرهم وعلى مدى قرنين تقريباً للعرب المعاصرين لهم ممن كانوا في مثل فصاحة أجدادهم وملكتهم البلاغية. ولكن أن يستمر الربط بين الديني وغير الديني في الإعجاز البياني فهو الأمر الغريب تداوله إلى هذا اليوم. لأن القرآن معجزة والإيمان بها من العقيدة، وإعجازه شامل، يشمل البياني وغير البياني كما قال معظم العلماء، ولكن لم يعد أحد بحكم تأخر الزمان بالإسلام في موقع التحدي والمعارضة. وجميع المسلمين اليوم وربما منذ القرن الثالث الهجري أصبحوا في حكم تفهم الإعجاز لا فهمه أو محاكاته ومن باب أولى وأحرى معارضته من أجل قيام الدعوى على عدم نبوة صاحبه.
ولقد تمحّل بعض العلماء ليقرر مبدأ المعجزة الدائمة للقرآن وأنها غير ظرفية كعصا موسى أو طبّ عيسى، وزعم أنه معجزة عقلية، لتبقى الأذهان مدركة لها في جميع العصور. ولكن إذا صح هذا على غير المستوى البياني من مستويات الإعجاز فإنه محل شك على المستوى البياني، لأن التفريق بين المعجزة المشاهدة والمعجزة العقلية (نص القرآن) لا يخلو من مجرد مقابلة وليس حقيقة لأن الإيمان بالمعجزة واحد في ذاته وليست معجزة في حق الأنبياء أقل من معجزة.
والحديث الوارد هنا والذي أخرجه البخاري، وهو: «ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً»، لا يفيد غير اختصاص الرسول صلى الله عليه وسلم بالوحي، وليس على أنه معجزة أفضل من معجزات السابقين.
والمشاهدة وعدم المشاهدة للمعجزة ليس إلا اجتهاداً لبعض العلماء، يمكن ردّه برأي من يقول من العلماء بأن معجزة القرآن لم يكن ليدرك كنهها إلا العرب في زمن النبوة أما من دونهم في الزمن، فهم قاصرون عن إدراكها، ولذلك فهم يؤمنون فقط اعتقاداً بها، كما يؤمن المسيحيون بإبراء عيسى. وهذا ليس فقط رأي ابن خلدون، الذي يُغضّ أحياناً في آرائه الاعتقادية، ولكن رأي جماعة من العلماء من أبرزهم الزمخشري والسكاكي.
بل عامة علماء البلاغة يعتقدون أن القرآن معجز للعرب بالإعجاز البياني خاصة ولمن دونهم بنواحي الإعجاز الأخرى. ولذلك نشطت البحوث اللغوية والبلاغية لتقريب الإعجاز من مفاهيم العرب المتأخرين ومن تعلم لسانهم.
(٣)
ونصل هنا إلى نقطة الذروة في فهم الإعجاز لدى علماء البلاغة. فبعد أن تبلور الإعجاز في البيان والفصاحة التي أوتيهما القرآن على جميع كلام العرب، وصرف النظر عن نواحي إعجازه الأخرى التي ظل علماء المعتقد والتشريع يخوضون فيها، انطلقت الدراسات بعمق وبحث لم تعهد مثله أية لغة في القديم.
ويمكن القول اليوم، إنه بفضل الانكباب على قضية الإعجاز توصل علماء اللغة من بين ما توصلوا إلى أكثر المكتشفات اللغوية التي يتنافس في الوقوف عليها حديثاً علماء اللسانيات والأسلوبية. حتى أن الأبحاث الجامعية في أكثر جامعاتنا العربية انصبت منذ وقت طويل على مقارنة ما بين الحقائق العلمية التي قررها علماء اللغة العرب وأصحاب البلاغة وما بين النظريات العلمية الحديثة في هذا المجال سواء على مستوى اللغة الواحدة أو على مستوى سائر اللغات.
وهذه من الأمور الإيجابية التي رافقت قضية البحث في الإعجاز، وإن كانت الأبحاث لدى العرب انطلقت لأسباب غير منهجية كما نقول اليوم، بسبب تقرير فكرة مسبقة، وهو أن إعجاز القرآن هو أعظم من كل إعجاز يضاهيه أو قد يضاهيه، أو بعبارة أخرى بسبب كون الإعجاز لا يوجد في ما سوى القرآن من كلام العرب. في حين منطلق الأبحاث الحديثة انصبت بالعكس في هذه المسالة على تقرير أنه لا أفضلية لكلام على كلام، وأن مدار الإجادة الموضوعية هو أمر لا يمكن أن يكون خارجاً عن النص.
إذن فالأمر صريح في أن الإعجاز القرآني هو أمر خارج عن النص بسبب ديني أو إيحائي قائم على التحدي المخسور سلفاً، بينما الأسلوبية اليوم لا تقرر للأثر غير ما هو من عناصره الداخلية وارتباطه بالمتعاملين به، على قدر واحد من التفاعل، أي ليس هناك طرف علوي وآخر سفلي، يقف موقف الإعجاب والتأثر عن اقتناع أو عن تقليد.
ولا يبدو لي إلا أن الدراسات اللغوية والنحوية والبلاغية في كثير من الدراسات الحديثة تخدم المقاصد العلمية كما حررتها المدرسة الحديثة بقيادة دي سوسير وتشمسكي ومن تابعهما وطور نظرياتهما، ولا تجعل مقاصدها كالسابقين إدراك الإعجاز البياني للقرآن الكريم أو تمييز الفصاحة على ما دونها في لغات العرب. وهي أمر طبيعي وملاحظ، بحكم غلبة الاعتقاد غير الإيماني على الاعتقاد الإيماني في سائر الشؤون اليوم.
إذ لم يعد أسلوب القرآن محلاً للاقتباس والتضمين في الكتابات الحديثة فضلاً عن حفظه ودراسة علومه كما قررها لنا المتقدمون من علماء اللغة والبلاغة انتهاء بالسكاكي والسيوطي.
كما أن الاهتمام بالأدب العربي القديم في عصوره الزاهرة لم يعد من أجل أسلوبه ولغته بقدر ما تركز على نماذج منه أقرب بتجديداتها الفنية وأذواقها ومراميها ومعانيها إلى أفكار العصر الحديث من حيث التطلع إلى تكسير المقدسات المعطّلة لحركية الإنسان وتمام تحرره من التقاليد والمواضعات السابقة والقيم الاعتقادية المكلسة، وفي الغالب ورثنا هذا الاهتمام من قبل المستشرقين في اهتمامهم بابن المقفع وببشار وأبي نواس لاجترائهما على معارضة القرآن في بعض آياته أو سوره، وبالمعري لورود ما يفيد قيامه بمعارضة للقرآن، وقس على ذلك نزعات بعض الإنسانيين مثل أبي حيان التوحيدي ومسكويه وغيرهما.
وتكاد الدراسات التعليمية في مراحل التعليم بأكمله وخاصة الثانوية والعالية لدينا لا تهدف إلى تلقين التلاميذ والطلاب أساليب الكتّاب القدامى الذين يدرسونهم ولا للغاتهم بقدر ما هو الاطلاع على تواريخ حياتهم وأسباب اتجاهاتهم الفنية أو الفكرية.
وتصدق ملاحظة ابن خلدون على التعليم لدى أبناء جيله في إفريقية بالمقارنة إلى الأندلس على التعليم لدينا، حين لاحظ أن صناعة العربية لعهده لم تعد تكوّن ملكة في العربية ولا بلاغة، بل لعلها تُفقد صاحبها ملكته الأصلية في لغته العربية (غير المضرية) وتحول بينه وبين الإتيان بالبلاغة فيها. ومن المعلوم أن ابن خلدون يقرر أن البلاغة ليست خاصة بلغة دون لغة ولا عصر دون عصر. وسنرى بعد قليل صحة نظرات هذا المفكر الاجتماعي الكبير - الذي لم يقع الاهتمام المناسب بنظريته في التربية والتعليم - حين نعرض لآرائه في الإعجاز وفي الفصاحة والبلاغة.
(٤)
إذن، فالعصر غير الإيماني الذي دخلت فيه العربية الحديثة أفقدها روافدها الأصلية وهي الكتاب والسنة وتراث ما قبل الإسلام شعراً وخطابة وسجعاً ونثراً، وكذلك تراث ما قبل غلبة العجمة على اللغة العربية في الأمصار والأقطار. وزاد عربية القرآن غرابة في مجتمعات هذا القرن ما اجتمع عليها من التفضيل للّغات المسمات بالحية وآدابها وثقافات شعوبها.
فلم يكن بد من قيام حركات التكسير لقواعدها الجامدة وقوانين إعرابها في الشعر والنثر دون استحياء كما كان الأمر منذ عصر المولّدين وليس من الغريب أن يكون نصارى لبنان المعارضون للدولة العثمانية أول من قاوم القداسة الدينية في العربية، نكاية بسلطة الخلافة. وتولت حركة المهجر الإجهاز على حالة اللغة العربية الدينية في بلاغتها المطابقة للبلاغة القرآنية وفي فصاحتها المتقيدة بالفصاحة القرآنية.
وأصبحت ملكاً لهم لا ملكاً للقرآن أو بقية العرب المسلمين، لأنهم أخذوها بالتطور كما يأخذ أبناء اللغات لغاتهم بالتطور دون أن يملكها عنهم نص ديني مقدس لا يمنحهم إلا حدود بلاغته وفصاحته أو ما دونهما. خصوصاً وأن المسيحية لا تحظى بنص ديني مماثل. ألم يقل نيتشه إن السيد المسيح تكلم بلغة يونانية ركيكة!
وانفك النقد عن طلاسمه القديمة في كتب السكاكي والقزويني وأصبحت البلاغة بلاغة أخرى والفصاحة فصاحة أخرى، أو هما كل ما جادت به الملكات الجديدة المتطبعة باللغات الأجنبية من فرنسية وإنقليزية وروسية. وزادت الترجمات عبر البلاد العربية تمريناً للملكات الناشئة في تلك البلاد للتزاوج في أساليبها وأفهامها مع ملكات المهجريين أو الأبولويّين. وبدأ التعشق للمذاهب الرومانسية الكافرة بماضي التراث العربي، لفقره مرة من الخيال الشعري ولبساطته مرة كبساطة الحياة البدوية ولمباشرته الحسية للمرأة وللطبيعة كجفاوة وغلظة وجفاف الأعراب.
وبعد أن سقط السجع والفواصل في النثر منذ أول الإسلام تجنباً للوقوع في معارضة القرآن في بعض ما يبدو من نظمه، وبعد أن طال الشعر وتعقدت تراكيبه وأوزانه لكي يتجنب فيه تقليد القرآن في بيتين أو ثلاثة منه، ولكي لا يكون رجزه وبسيطه مشاكلاً لما في القرآن مما هو على وزن هذه البحور.
وبعد أن ضاق الكتّاب بالسجع المرسل وبالكتابات البسيطة التي لا تكاد تحاكي القرآن بفواصل أو أوزان عادوا بقوة إلى السجع المثقل بقواعد البديع، ولم يكد التجديد يخرج به عن ذلك، وكذلك الأمر في الشعر الذي أثقلت كاهله قواعد البلاغة العربية أو ما يسمى بعمود الشعر كما فصّلها المرزوقي في مقدمة شرح الحماسة لأبي تمام.
بعد ذلك كله كان من الطبيعي أن تتطلع النفوس لآداب الأمم الأخرى الغالبة ولا تكتفي فقط بتنسم أخبار الأوائل عن طريق أرسطو أو من خلال نبذ من أشعار أوميروس كما يسمونه وغيره أو من خلال الترجمات المرشّحة من آداب الفرس والهند وغيرهما.
(٥)
ومن هنا جاءت الحداثة الحديثة في الشعر وغيره من فنون العربية.
فبعد أن بدأت بتلقيح أجنبي عن طريق الترجمات وواكبتها عملية تطعيم وإنتاج واسع الرواج للآداب الرومانسية والواقعية والسريالية، بأقلام كتّاب عرب من آفاق مختلفة، عادت الحركة الشعرية خصوصاً إلى تلمس طريقها الإبداعية المستقلة بشكل تكون معبّرة فيه عن ذاتية أفرادها في علاقاتهم بمجتمعاتهم سواء عن طريق الالتزام بلزوميات تلك المجتمعات أو خارجاً عنه بالنقد أو الانتقاد لها أو بالتوغل في أعماق الذات البشرية دون رابط بعصر أو بزمان.
وشملت العودة الملاحظة للتراث في أشعار الشعراء العالميين المحدثين ارتجاع شعراء العربية للتراث، والتراث الإسلامي خاصة يمتحون منهما بكل صوفية أحياناً وتخلّصت القصيدة العربية ليس شكلاً فقط من قيود الشعر القديمة، من بحر وقافية ومواضيع وأغراض بل ومن هيمنة البلاغيين القدامى الذين مارسوا إلى عهد قريب سلطة شبهة كنسية على الشعراء، وأصبح في الإمكان أن تجد بعض الأشعار الحديثة تكرر التفعيلة الواحدة أو تفعيلتين مزدوجتين، ولا من يقول من النقاد إنها معارضات للقرآن، وكذلك تجد فيها الصور الغريبة والتصرف في اللغة يذكّر بتصرف القرآن، وهو التصرف الذي طالما احتدم حوله النقاش بين اللغويين، بين مقرّ ومؤوّل، دون الحديث عن التصرف بالنحو إعراباً على غير قياس، أو إسقاطاً للإعراب بالمرة، ولا أحد يعارض أنبياء الشعر المحدثين، وهو أمر أسال كثيراً من الحبر وأجّج العديد من النزاعات منذ المبرد وابن فارس وغيرهما، بين مؤيد للضرورات الشعرية وبين مقيد أو غير مجوّز لها. ومن الغريب أن القزاز القيرواني في القرن الرابع، بصفته الشاعر الفحل لم يجد بداً من الوقوف في وجه المحافظين من النقاد وجوّز في كتاب مطوّل تكسير القواعد النحوية وغيرها إذا ما دعا الوزن الشاعر إليها.
وهو يقصد بطبيعة الحال تقديم الضرورات الفنية على الضرورات اللغوية وغيرها عند الشاعر. وهو كان من اللغويين القلائل الذين أقرّوا بأن القرآن جرى على ذلك في بلاغته.
وينبغي في تقديرنا أن يعتدل الوضع بالبلاغة العربية اليوم. ولا يبقى القرآن نمطها المفضل، لأن القرآن نموذج لا يمارى، وقبل القرآن كانت بلاغة، بدليل قيام التحدي للعرب ببلاغته، كما أن بعد القرآن كانت بلاغة، مقيدة برسمه أحياناً أو خارجة عن لغته في صميمها أحياناً. وبرزت بلاغات عديدة في الأزجال والموشحات وفي ما يسمى بالحوراني في المشرق والأصمعيات في إفريقية، وفي ألف ليلة وليلة وما نسميه بالحكايات والأقاصيص الشعبية.
كل تلك الفنون وليس فقط في الشعر يمكن أن نتطلب فيها إعجازاً. والفن في الحقيقة بعضه لبعض إعجاز.
وهو معنى عبّر عنه الأقدمون حين تساءلوا عمّا قد يكون القرآن بعضه فصيح و بعضه أفصح، وعما قد يكون في القرآن من إعجاز في سورة منه أو في ما دون السورة من آية أو آيات معدودات . وذلك مقابل من بالغ في نظرهم وزعم أن القرآن معجز بألفاظه، وهو رأي بعض المعتزلة.
وقد قلنا إن أبلغ ردّ على هذه النظريات الاعتقادية، غير المقبولة لغة وبلاغة، هي نظرية النظم التي صاغها في أشمل صورة الجرجاني، وإن كان عبّر عنها غيره ممن تقدّمه باللفظ وبالمعنى بأشكال مختلفة، منذ الجاحظ.
(٦)
والآن نأتي إلى الطرح الأخير في مقترحنا، وهو أن الإعجاز غير خاص بالقرآن وأن كلام العرب من قديم يتعاجز بعضهم بعضاً في الإتيان بخير منه. وما سوق عكاظ والمعلقات على باب الكعبة إلا شهادات على اختلاف مراتب الإعجاز بين المتبارين بقصائدهم في عكاظ أو المربد أو الكناسة، وغيرها من أسواق العرب التي عقدت للشعراء سواء داخل البلاطات أو في مجالس الأدب، وما الجوائز التي كانت تمنح إلا من أجل الإعجاز الذي ترقى اليه بعض القصائد دون بعض أو يرقى اليه بعض الفحول دون بعض. وقيل سمي المتنبي بذلك لفطنته في الشعر وليس لادعائه النبوة. ومن قال لادعائه النبوة في الشعر لم يُبعد، لأن حالة الإعجاز للشاعر والنبيّ أقرب منها إلى غيرهما.
غير أن هذا يدعونا إلى تجريد مفهوم الإعجاز من مفهومه الخاص بالقرآن والخروج به إلى الشعر، كما فعل المعري، ربما نقول، حينما سمّى شرحه لديوان المتنبي «معجز أحمد». والحقيقة هناك قبل المعري وبعده كثيرون يمكن أن نجد أقوالهم في ممتع النهشلي والعمدة لابن رشيق، يفيدون هذا المعنى عند الحديث عن الشعراء. ولماذا نذهب إلى قريب وبعيد منا ما قاله بشار في لبيد. قيل لبشار بن برد: خبّرنا يا أبا معاذ عن أجود بيت للعرب! فقال: إن تفضيل بيت على أشعار العرب لشديد، ولكن أحسن كل الإحسان وأوجز وأعجز لبيد في قوله:
واكْذِب النّفس إذا حدّثتها إنّ صدق النّفس يزري بالأمل
ذكر ذلك الثعالبي في كتاب له بعنوان «الإعجاز والإيجاز» (ص ١٤٤). وهو عنوان دال في حد ذاته، لأنه جمع فيه بين إعجاز القرآن وجوامع الكلم وبلاغات الصحابة والتابعين والشعراء والكتاب. واختلاف التسميه بين الأصناف لا يخفي الجوهر الواحد الذي عبّر عنه بكلمتين في أول كتابه، وهو يعلم أن الإيجاز هو شعبة من شعب الإعجاز في القرآن نفسه.
وعندما قرر العلماء أن البلاغة في القرآن هي في نظمه التفتوا إلى الشعر في الحقيقة، لأنه كلام العرب المفضل، وأرادوا أن يميزوه عنه بعدم الوزن حتى لا يكون في موقع المضاهاة به، أو يتهم بالزحاف والعلة. ولذلك قالوا ما هو بشعر. ولم يشبه شيئاً آخر من كلامهم. ولما تفطن أمثال الغزالي إلى أن البلاغه في كلام العرب قد تقع مثلما تقع في القرآن، زعم أن قوله تعالى: ﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ إشارة إلى أنه جاء على منهاج واحد من النظم (السيوطي، الإتقان، ٢ /١٢٤)، لأن كلام البشر يتراوح بعضه جودة على بعض.
وذهب إلى مثل ذلك حازم القرطاجني حين قرر في منهج البلغاء أن «وجه الإعجاز في القرآن من حيث استمرت الفصاحة والبلاغة فيه من جميع أنحائها في جميعه استمراراً لا يوجد له فترة.. وكلام العرب ومن تكلم بلغتهم لا تستمر الفصاحة البلاغة في جميع أنحائها في العالي منه إلا في الشيء اليسير ثم تعرض الفترات الإنسانية فينقطع طيب الكلام ورونقه فلا تستمر لذلك الفصاحة في جميعه بل توجد في تفاريق وأجزاء منه».
وهذا رأي مهم نعتمد عليه في تقريرنا بأن الإعجاز يوجد في الشعر كما يوجد في القرآن، وإن في تفاريق وأجزاء منه كما يقول حازم.
وقد ذكرنا ابن خلدون وأشرنا إلى رأيه في الإعجاز وأنه البلاغة. ولكن لا نكاد نصل إلى القرن الثامن حتى تكون فكرة الإعجاز في القرآن هي كل ما تكلم فيه العلماء سابقاً وقالوا إنه إعجاز أو من إعجاز القرآن. وهو الرأي عند الزركشي، وأضاف اليه الروعة، من بين بعض المفاهيم الأخرى، كأنما يبتغي تطويل السلسلة بتعديد إعجاز القرآن. وما أن نصل إلى العصر الحديث حتى نجد الرافعي يرتد عن معظم الأفكار السابقة ليقرر أن الإعجاز هو في استمرارية الإعجاز به، خلافاً لما يقرره قبله محمد فريد وجدي بأن الإعجاز ما هو إلا روح القرآن. وإنما سقنا هذه الأفكار المتأخرة لنلمس مدى التراجع عن الفكرة الإعجازية للقرآن المتمثلة أساساً - وليست لا محالة صفته الوحيدة - في الإعجاز البياني. وهو الرأي الواضح عند ابن خلدون في الإعجاز. حيث يقول عن علم البيان: «واعلم أن ثمرة هذا الفن في فهم الإعجاز من القرآن، لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة، وهي أعلى مراتب الكلام مع الكمال فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها. وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن دركه وإنما يدرك بعض الشيء منه مَن كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه. فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجهابذته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحّه».
ولكن ابن خلدون لا يقتصر على تنبيهنا إلى مواطن الإعجاز في القرآن الكريم، بل يتقدّم بنا ليقرر أن البلاغة التي في القرآن، وبالتالي إعجازه لم يعد يُدرك إلا بالتعليم مع القصور دائماً عن اللحاق بشوط العرب القدامى في ذلك، أي فيما كان لهم من إدراك سليم لإعجازه، وينصح في هذا الصدد بالنظر في تفسير الزمخشري للظفر بشيء منه مع التحذر من أفكاره المعتزلية. والذي كان للعرب في إدراك إعجاز القرآن ليس هو الطبع كما يتبادر إلى الذهن. ولكنه في رأيه الملكة التي كانت لهم في لغتهم وبلاغتها وذوقهم فيها إلى جانب طبعهم السليم من كل مخالطة.
وهذه الأفكار مهمة عند ابن خلدون لأنه يجعلنا نضع الإصبع كما يقال على حقيقة الإعجاز حيث يكون وكيفية إدراكه. وتقريره بأن البلاغة ليست خاصة بلغة دون لغة يجعلنا نقرّر بكل اطمئنان إلى أن الإعجاز بدوره ليس خاصاً بلغة دون لغة ولا كلام دون كلام.
وحيث لغتنا اليوم هي غير اللغة العربية في فصاحتها الأولى في القرن الأول أو في القرون التي بعده، قرناً قرناً وبلداً بلداً فإنه يتعين أن يكون المعول على علماء جدد لاكتشاف أسرار البلاغه والإعجاز في طبقات لغاتنا في جميع العصور، ابتداء بعصرنا الحديث للقرب منه.
ولم يخطئ ابن خلدون حين قرر أن العناية بلغة مضر واكتشاف قوانين الإعراب فيها والفصاحة والبلاغة إنما كان بغرض إدراك الإعجاز في القرآن الكريم، وقال: «ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية في دلالتها بأمور أخرى موجودة فيه، فتكون لها قوانين تخصها ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغه مضر، فليست اللغات وملكاتها مجاناً. ولقد كان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته، تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحمرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق القيل في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا. وليس ذلك بصحيح، ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر، إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء».
أما قوله بعد ذلك: «وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا اليه». فهو عين ما لا نوافقه عليه باعتبار أنه ليس فقط هناك ما يمنع من ذلك، مع بقاء عنايتنا بلغة القرآن والحديث النبوي الشريف، بل نقول إن الدراسات الحديثة في مختلف اختصاصات علم اللسان وما تطورت اليه حركة التجديد معنى ولفظاً وبنية ووزناً أصبحت تحتم علينا إيلاء العناية والتعمق لدراسة نصيب من هذه اللغات العربية الحديثه وهذه اللهجات لاكتشاف نواحي الإعجاز الإنساني داخل فنون الإبداع فيها، لتطعيم أدبنا العربي في عموم أقطاره، وربما العودة تدريجياً بفضل تحسين الملكات في العربية الفصحى وفي بلاغات تراثنا إلى وضع أفضل إنتاجاً وتأهيل الأجيال القادمة للتفوق البلاغي والاعجازي بعضها على بعض دون رقابة على الفن، كما لم تكن رقابة على لغة العرب قبل الإسلام وكما لم تكن رقابة على لغات العرب عندما اختلطت أو احتكت بلغات الأقوام الأخرى، على بلاغاتها.
(٧)
وفي الختام نختصر قضية الإعجاز في الشعر في النقط التالية:
أولاً:- الشعر يشبه القرآن من حيث أن حقلهما الدلالي واحد.
ثانياً:- ما يعبّر عنه بشيطان الشعر في العربية ليس إلا تسمية بالمناظرة لملك الوحي. وهما في حقيقتهما، ورغم اختلاف المصدر، حالتان خارقتان تكتنف الشاعر والنبي، بدليل أصول الكلمات الراجعة إلى حقليهما، وهي: وحي، شعر، نبأ.
ثالثاً:- المعجزة في البلاغة أقرب في تحققها للشاعر منها للرسول (ص) لأنها في حالة معجزة القرآن تصديق بالوحي لا تصديق ببلاغة الموحى اليه بدليل الإقرار بأن بلاغته الشخصية هي دون مستوى بلاغة القرآن. وعليه فالقرآن بلاغة إلهية لا بلاغة إنسانية.
رابعاً:- الإقرار للشاعر بالإعجاز هو الأصل في استعمال الكلمة العربية بلاغياً. لأنه كان في موضع المعظم في قومه من أجل هذه القدرة الخارقه التي تميزه عن سائرهم بالشعر، وهو الفطنة، وهو أبلغ فنون القول وأشدها تأثيراً إذا أجادها صاحبها، كما نقول اليوم إن التلفزة هي أوسع وسائل الاتصال الجماهيري تأثيراً.
خامساً:- لا يدرك الإعجاز الشعري إلا من كان من عالم الشاعر الشعوري وبقدر المعرفة والتوسع في قاموسه اللغوي والفني.
سادساً:- يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره ويجب أن يبقى هذا الامتياز الذي أعطاه النقاد العرب قديماً للشاعر سارياً وفي أوسع ما يمكن من المجالات واعتباره من أسباب تحقيق إعجازه.
سابعاً:- الإقرار للشاعر بالإعجاز ليس حالة إقرار دائم أو شامل بين جيّده وأجوده بالقياس إلى أكثره جودة، وهي حالة تقررها المقارنة داخل عالمه الشعري وخارجه مع غيره من الشعراء مطلقاً.
ثامناً:- الاعتراف للشاعر بالإعجاز يمكن أن يكون مصدره إيماني بموهبته، إن لم يكن فقط ذوقياً بحتاً.
تاسعاً:- تعجز الدراسات مهما تكن استعدادات أصحابها الوجدانية والنفسية واللغوية والبيانية عن تقدير وجوه الإعجاز والإحاطة بها في شعر الشاعر.
عاشراً:- حالة الإعجاز في الشعر (قطعة أو قصيدة) ينبغي أن تدرس جوانب الإعجاز فيها من ناحية النص (مناط الإعجاز) في علاقاته النظمية (بالمعنى الجرجاني) وفي علاقته بمنشئه (المعجز) كما قد يشف عنها النص أو تتقصاه الدراسة الخارجية وكذلك أخيراً حالة المستشعر (المعجَز) فيما يكون قد سمح به عالمه الشعري واللغوي والبياني (وجدانه وملكته وذوقه) للحكم على ما استشعره بالإعجاز.
الحادي عشر:- لا يمكن سحب الإعجاز عما اتفقت الأمة في عصر من عصورها اللغوية على إعجازه، لأن مقاييس الإعجاز لا تختلف من عصر إلى عصر وإنما الذي يختلف هو حظوظ أبناء الزمن من لغة الشاعر في أدق خواصها وأكبرها وتراكيبها وإيحاءاتها ونظمها البيانية ومدلولاتها ومقاصدها وشحناتها التراثية.
الثاني عشر:- إنّ الشاعر يستطيع إذا اقتدر أن تكون له السلطة (الإعجازية) لصياغة لغة عصره في أروع ألفاظها ومنح أبناء جيله أجمل تعابيرهم وأكثرها إيحاء عن مشاعرهم وطموحاتهم ودفعهم كالنبي نحو فتوحات لتحقيق معجزات الأعمال والإنجازات.
(٨)
ولشعر شاعر على لسان صاحب دولة أو حكم أمضى من ألف بيان على لسانه أو عصا في يده.
ولشعر شاعر على لسان محبّ أقرب الى قلب حبيب من ألف تزاويق القول أو صمت العجز والذهول.
إن الشاعر في كل عصر، إذا كان كاسمه، حي الشعور قوي الفطنه، يمتلك ناصية القول، ويتصرف فيه تصرف السحرة بأدواتهم والأنبياء بجوامع كلمهم، ليكون أدنى من الإعجاز في شعره من جميع الخلق وفي أكثر أحواله وليس في أقلها.
وإن توقّع الإعجاز فيما يقوله من شعر هو حصانته الكبرى ليس فقط ضد مجاذبات النقاد ولكن أيضاً ضد كل سلطة في عصره. وكم من شاعر يموت شهيد شعره. ولكنه يكون به أكثر حياة.
(٩)
ولذلك فنحن نقترح أن ننظر إلى الإعجاز كظاهرة فنية عامة قابلة للتطبيق على الشعر وعلى غير الشعر بحكم مقاييس جمالية اصطلاحية عامة، وإن اختلفت هذه المقاييس من عصر إلى عصر من حيث مكوناتها اللغوية البحتة.
ونجعل من علم البلاغة الذي هو في الأصل علم الإعجاز في القرآن والذي يكاد يموت علمَ الإعجاز في الشعر أيضاً ونضعه هو وعلم القراءات الذي يعرّفنا بمواضع الوقف والنبر وأطوال المد وغير ذلك من أساسيات الشعر وإنشاده، حتى لا يبقى هذا العلم -القراءات - مقصوراً أيضاً على القرآن، إلى جانب علم العروض بتوسعاته اللاحقة، فضلاً عن علوم اللغة في أحدث قوانينها الصوتية والأسلوبية، أن نجعل كل ذلك مشفوعاً بمعرفة واسعة للتراث، في مرتبة واحدة من الدرس والتعليم للنهضة بشعرنا نهضة جديدة تخرجه من مأزق الخواء والتهميش والاجترار الذي أصبح فيه لأسباب عديدة.
ولولا قلة المعجز من شعرنا الحديث لقلنا إن شعرنا لم يعد في موقع التحدي به والتفوق على كل معارضة.
م ك
تونس في ١٤٠٩ه /١٩٨٩م
---------------
الدكتور المنجي الكعبي
أستاذ الأدب العربي بالجامعة التونسية
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: