تكشف الموجة الأخيرة من الاحتجاجات التي شهدتها المدن الإيرانية وسرعان ما انتشرت في كافة نواحي البلاد في 16 أيلول/ سبتمبر الماضي، عن تحديات أمنية وسياسية جدية على نظام الجمهورية الإسلامية، ذلك أنها تستهدف المبادئ الفلسفية والدينية لسياسات الأسلمة التي قامت على أساسها الثورة الإيرانية، الأمر الذي وضع المرشد الأعلى وكافة قادة نظام "ولاية الفقيه" في حالة من الحيرة والقلق على نحو فريد غير مسبوق.
فالاحتجاجات الواسعة التي اندلعت إثر وفاة الشابة مهسا أميني تحت التعذيب على يد شرطة الأخلاق التابعة للنظام بسبب مخالفتها قواعد ارتداء الحجاب، تشير إلى فشل ذريع في نهج سياسات الأسلمة من الأعلى، وبؤس منظورات تطبيق الشريعة وفرضها كقانون بعد إفراغها من أبعادها الأخلاقية المؤسسة على تقنيات الذات وليس على القوة الإكراهية.
لم يكن رد النظام القمعي للجمهورية الإسلامية ينطوي على الحد الأدنى من أخلاقيات الشريعة، فقد تنصل من مسؤوليته عن وفاة الشابة البالغة 22 عاما من عمرها، والمتحدرة من محافظة كردستان الإيرانية، وهو ما تسبب بموجة تظاهرات قوبلت بالقمع والقتل والاعتقال. وبحسب حصيلة أوردتها وكالة أنباء فارس "قتل نحو 60 شخصا"، وأعلنت الشرطة مقتل عشرة من عناصرها، وأعلنت السلطات عن توقيف أكثر من 1200 متظاهر، بينما أفادت منظمة "حقوق الإنسان في إيران" غير الحكومية ومقرها أوسلو بمقتل "76 شخصا على الأقل"، وإصابة واعتقال المئات.
وكشفت منظمة العفو الدولية استناداً إلى وثائق سرية مُسربة عن خطة وضعتها السلطات الإيرانية لسحق الاحتجاجات بشكل منهجي وبأي ثمن، وقالت إنَّ الهيئة العسكرية الأعلى في إيران أصدرت تعليمات إلى قادة القوات المسلحة في جميع المحافظات بـ"التصدي بلا رحمة" للمتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع.
متلازمة الغطرسة وحالة الإنكار والتلبس بالعنف، هي سمات مميزة للأنظمة الشمولية القمعية، وهي لا تكف عن تحميل مسؤولية الاحتجاجات لجهات خارجية في سياق مؤامرة غربية بالتعاون مع مجموعات محلية. فقد نددت السلطات الإيرانية بوقوف "مجموعات انفصالية" وراء التظاهرات التي ترى فيها "مؤامرات خارجية"، موجّهة الاتهام إلى الولايات المتحدة، العدو اللدود لإيران.
ولصرف الأنظار عن المشاكل المحلية وخلق تعبئة وطنية، شنّت إيران ضربات في إقليم كردستان العراق المجاور، حيث تتمركز تنظيمات معارضة كردية إيرانية، أدت إلى مقتل تسعة أشخاص وإصابة 28 آخرين وفق السلطات الكردية العراقية.
تأتي موجة الاحتجاجات الأخيرة في سياق سلسلة طويلة من الفعاليات والأنشطة والتظاهرات المناهضة للنظام في إبران، ومن أبرزها موجة الاحتجاجات والمظاهرات المليونية عام 2009، على خلفية التزوير الفاضح لنتائج الانتخابات الرئاسية، والتي قوبلت بقمع واعتقال قادة الحركة أمثال مير حسين موسوي ومهدي كروبي، وشهد عام 2019 موجة احتجاجات واسعة عقب قرار الحكومة برفع أسعار البنزين، وقد قوبلت بأشد أصناف القمع وحشية، حيث قتل "الحرس الثوري الإسلامي" الإيراني وقوات الشرطة أكثر من 1500 شخص. ومع ذلك فإن موجة الاحتجاجات الأخيرة تعتبر استثنائية ومغايرة، فهي ليست كسابقاتها التي استندت إلى أسباب سياسية أو اقتصادية، بل لأسباب تتعلق بالمبادئ الجوهرية االدينية التي يدعي النظام حراستها وصيانتها.
خلال الاحتجاجات الأخيرة أطلقت هتافات مناهضة لنظام الجمهورية الإسلامية، ومزق المحتجون صوراً للمرشد الأعلى علي خامنئي ولمؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران آية الله روح الله الخميني، وأصبح الشعار الأساسي للمحتجين هو "امرأة، حياة، حرية"، وهي إشارة واضحة تنطوي على نهج من المعارضة الشمولية والعميقة للنظام القمعي الشمولي والدولة العميقة للجمهورية الإسلامية. فتنطبيقات النظام الفجة للشريعة بعد تفريغها من مضمونها واقتصارها على الجوانب الشكلية من خلال عمليات "الأسلمة" من أعلى للمجتمع الإيراني، أدت إلى ولادة نظام إسلامي مشوه تخلو شريعته من المقاصد الإخلاقية الكلية، وتقتصر فيه وظيفة الشريعة على مفهوم القانون المنفصل عن القيم، الأمر الذي بات فيه خلق أجساد مواطنين طيعية الهدف الأسمى للحكم الاستبدادي الإسلاموي، وهو ما أدى إلى حرمان الشعب من الحريات في المجالين الخاص والعام، وفقدان العدالة، وفي ظل نظام قمعي أبوي بطريركي تعرضت النساء لأسوأ أنواع انتهاكات حقوق الإنسان، حيث أصبحت أجساد النساء ساحات رئيسية للمعارك السياسية في إيران.
أصبح الحجاب رمزاً مميزاً للإسلاموية، إذ لم يعد الحجاب يعبر عن سياسة تقوى شخصية وتقنية ذات فردية أخلاقية، وإنما بات أداة للسيطرة والتحكم بالنساء وتهميشهن وحصرهن في المجال الخاص. ولا غرابة في تشدد نظام الجمهورية الإسلامية وعدائية ممارساته تجاه النساء وإلزامهن بارتداء الحجاب كآلية للسيطرة والتهميش، وهو نقطة اتفاق بين كافة سياسيي ومثقفي النظام الإيراني على اختلاف توجهاتهم، المحافظة والإصلاحية والراديكالية. ولذلك لم تتعرض أي فئة اجتماعية في إيران للظلم أكثر من النساء منذ بداية الثورة الإسلامية 1979، وخصوصاً نساء الطبقة الوسطى، فرغم مشاركتهن في الثورة بكثافة تفوق الرجال، سرعان ما تبنى النظام سياسات معادية للمرأة، فقد أبطل النظام الجديد قانون حماية الأسرة لعام 1968، ثم فقدت المرأة حقها في أن تصبح قاضية، أو أن تطلق نفسها وحقها في حضانة أطفالها وأن تسافر إلى الخارج إلا بإذن من وليها الرجل، وسمح بتعدد الزوجات مرة أخرى، وأجبرت كل النساء بغض النظر عن دينهن على ارتداء الحجاب.
عندما أعلن في 11 شباط/ فبراير 1979 عن انتصار الثورة في إيران، بعد نحو ثمانية عشر شهرا من المظاهرات، استقبلت الثورة بفرحة عارمة، ليس في إيران وحسب بل في العالمين العربي والإسلامي ومعظم دول العالم. كانت التوقعات لا حد لها بتأسيس نظام يقوم على أسس أكثر عدالة وحرية واستقلال، فقد وعدت الثورة بتحقيق ثلاثة أهداف: العدالة الاجتماعية والحرية والديمقراطية والاستقلال عن وصاية القوى الغربية العظمى، الأمر الذي دفع الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى تغيير رؤيته البنيوية الصارمة حول السلطة، حيث سافر مرّتين إلى طهران عام 1978، وصك مصطلح "السياسات الروحية". فقد اعتبر أن الثورة الإيرانية كانت تجسيداً للطاقة السياسية المتفجّرة للإسلام، والتي تعبر عن نمط جديد من الذاتية، لم يألفه الغرب، يخلو من الانقسامات أو الثنائيات. فالجميع كانوا متحدين بإرادة واحدة ضد السلطة، و"الشريعة" التي نادوا بها ليست نصاً قانونياً جامداً يقوم على القسر والإكراه، بل كياناً يكشف عبر الزمن عن المعاني والحقائق الروحية الكامنة فيه. لكن سرعان ما أدرك فوكو طبيعة النظام القمعي الجديد، وهذه المرة باسم الشريعة بمواصفات الإسلام السياسي الذي ولدته الثورة.
إن الإسلام السياسي الشيعي في إيران هو نظام مشوه للشريعة الإسلامية، يتفوق بتشوهه على الأنظمة السنية التي ادعت تطبيق الشريعة، فقد تأسست الجمهورية الإسلامية على فكرة "ولاية الفقيه"؛ وقد منح الدستور الذي كتب معظمه العلماء ورجال الدين الولي الفقيه أو المرشد الأعلى سلطة حكم الأمة الإيرانية على قواعد الإسلام. ورغم إقرار الدستور بسيادة الشعب، التي منحه الله إياها، تمت مأسسة هذه السيادة الشكلية في برلمان على النمط الغربي، لكن قرارات أعضاء البرلمان ممثلي الشعب خاضعة لموافقة "مجلس تشخيص مصلحة النظام"، وهو مجلس مكون من اثني عشر مستشارا يعينهم الفقيه ورئيس مجلس الشورى الإسلامي. ومع أن الشريعة هي قانون البلاد، فقد استمر العمل بالعديد من قوانين ما قبل الثورة، مثل القانون المدني، فيما تعرض قانون العقوبات إلى تغيرات جذرية، وبقي القانون التجاري دون مساس، حيث أثبتت الإسلاموية توافقها مع الرأسمالية.
ما حدث في إيران هو استبدال نخبة قديمة بنخبة جديدة من رجال الدين فرضت الأسلمة من الأعلى دون تغير اقتصادي جوهري، إذ بقي الطابع الطبقي في المجتمع الإيراني على حاله، حسب علي فتح الله نجاد، وذلك مع حلول طبقة حاكمة مكانَ أخرى لكن بتكوين اجتماعي مختلف. وفي الرسوم الكاريكاتورية السياسية، انعكس ذلك في صورٍ تُظهر استبدال عمامة الملّا بتاج الشاه لا أكثر. ودفعت هذه الاستمرارية ببعض الباحثين إلى تفسير ثورة عام 1979 على أنّها مجرد "ثورة خاملة، ثورة من دون تغيير" في العلاقات الطبقية. واليوم، يظهر التفاوت بين المداخيل بوضوح بين الناس، نظراً إلى الاستعراض الباذخ للثروة والمحسوبية الذي يتبجّح به أنجالُ التابعين للنظام، الذين يلقبون بالأولاد المدلّلين.
إن التطبيق المشوه للشريعة الإسلامية في إيران من خلال آليات الأسلمة الفجة من الأعلى أدت إلى كراهية الشريعة، إذ لم تحمل الاحتجاجات الأخيرة أي مضامين دينية. وقد دفعت التجربة الإسلاموية الإيرانية المختصَ في الحركات الإسلامية أوليفيه روا إلى القول إنّ الإسلاموية إخفاق تاريخي؛ إذ لم نشهد بوادر قيام مجتمع جديد في أي من بلدان نشاطها، و"الاقتصاد الإسلامي" القائم على الفضيلة والعدل ليس إلا وهماً جميلاً وخطاباً بليغاً لا يقيم عدالة ولا يشبع فقراء، وأنّ الإسلام السياسي لم يعد رهاناً جيواستراتيجيا بل مجرد ظاهرة اجتماعية، والثورة الإسلامية أصبحت تنتمي إلى مرحلة منصرمة، بل إنّ الحقبة الإسلاموية قد أغلقت باباً هو باب الثورة والدولة الإسلاميتين، وما تبقى هو مجرد بلاغة خطاب.
خلاصة القول أن الموجة الاحتجاجية الأخيرة في إيران تختلف عن الموجات الاحتجاحية السابقة، والتي كانت ذات طبيعة سياسية اقتصادية دون التعرض للأسس والمبادئ التي قامت عليها الثورة، وهي تختلف أيضاً في أسلوب وطريقة تنظيمها، ومكونات قيادتها، ورغم ذلك فإن النظام لا يزال يتمتع بقدرة كبيرة على قمع الاحتجاجات. ولعل التضامن الكاذب للدول الغربية والولايات المتحدة مع المحتجين، هو أكبر خدمة للنظام الإسلاموي القمعي، فهو يعزز رواية النظام الإيراني حول المؤامرة، ولطالما كانت السياسات الأمريكية في خدمة الطبقة الدينية السياسية لولاية الفقيه.
لكن الأهم أنّ الحماس الذي جاءت به الثورة الإيرانية ووعودها حول التحرر والعدالة تلاشى وبات من الماضي، إذ سرعان ما تكشف عن وهم أفضى إلى ولادة شريعة مشوهة من خلال عمليات الأسلمة القسرية من الأعلى. فما هو واضح دون لبس، أن الطبقة الحاكمة الجديدة من رجال الدين الإسلامويين في الجمهورية الإسلامية تمكنت من تقويض ديكتاتورية الشاه وأحلت مكانها ديكتاتورية الولي الفقيه، وهي دكتاتورية أكثر قمعية ووحشية وخداعاً، فهي تشوه الشريعة وتستخدمها لتمرير برنامجها اللا أخلاقي في السيطرة والتحكم والتهميش لفئات وأقليات وفي مقدمتها النساء، وهن الضحايا المفضلات لنظام الجمهورية الإسلامية في إيران.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: