العودة السياسية في أيلول/ سبتمبر بتونس انطلقت دون أن يتبين الجمهور الواسع خارطة طريق سياسية قد يضعها الرئيس وفريقه، أو تضعها المعارضة المتعددة الرؤوس. نعم أعلن الرئيس عن موعد انتخاباته وأصدر قانونه الانتخابي كما أعلنت أطياف المعارضة مقاطعتها للانتخابات، لكن في الطريق إلى الانتخابات (في كانون الأول/ ديسمبر) تندلع معارك سياسية وأمنية تجعل احتمال الوصول إلى الانتخابات ضعيفا. واليقين أن لهذه المعارك تأثيرا مباشرا على نسب المشاركة، فالحماس الشعبي في أدنى درجاته بعد الخيبة في الرئيس التي تراكمت أسبابها منذ الانقلاب.
نتناول بعض وقائع الطريق إلى الانتخابات ونظن أنها تتضافر لجز العشب تحت أقدام الرئيس ومشروعه.
النهضة هدف أبدي
عودة اليسار الاستئصالي السياسية بدأت بهجوم استئصالي على حزب النهضة، هجوم أدارته غرفة إعلام محترفة تنسق عملها مع نقابات أمنية متخصصة في مطاردة الإسلاميين، لكن القضاء وجد ملفات فارغة ولم يخضع للمحاكمات الإعلامية، فكأن الهجوم سقط في الماء وقد ظهر السيد لعريض واثقا من براءته وقوة حزبه. وفي انتظار توليف ملف آخر للنهضة تبدو الآن بمنجاة
هل للرئيس علاقة مباشرة بهذه الحرب؟ أم أن غرفا أخرى تتحرك دون علمه أو التنسيق مع فريقه الرئاسي؟
القطيعة بين الرئيس وحزب النهضة ورئيسها (رئيس البرلمان) ثابتة وغير قابلة للحل، بل إن الوضع عدائي ولكن الرئيس لم يشرع في حرب مباشرة على طريقة ابن علي، لذلك نلاحظ أنه خيب ظن الفريق الاستئصالي الذي كان يسانده مقابل شن حرب على النهضة، فتقدموا إلى معركتهم معولين على صمت الرئيس أو موافقته الضمنية. ونراه يكسب من ذلك إضعاف خصمه اللدود دون أن تتسخ يده بهذه الحرب، لكن عندما يخرج خصمه من أروقة التحقيق دون أن يجد القضاء إثباتا (خاصة في ملف التسفير) فإن المكسب يتلاشى بسرعة ويظهر الصياد المنكود الحظ.
معركة أخرى كشفت أسلوبه غير المبادر (دعهم يختصمون فخراج المعركة راجع لي)، لكن خراج هذه المعركة لم يصب في رصيد الرئيس، لقد صب في خزينة القضاء المستقل والذي يتحول في كل معركة إلى كابوس للرئيس لم يفلح في اختراقه، وصب في رصيد النهضة التي برئت من قضية كبرى (تمويل بؤر الإرهاب بالإرهابيين).
في انتظار معركة أخرى بهدف استئصالي، ظهر بديل الغنوشي في المؤتمر القادم، وهذا ملف آخر سنعود إليه.
وجبات الرئيس دسمة جدا
قبل خفوت صوت هذه المعركة وُضعت في التداول كشوف مصاريف القصر، وتبين أن هناك قفزة كبيرة في كميات المواد الموردة للقصر وأثمانها مقارنة بأرقام سنة 2019. وهو ما كان موضوع حملة دعاية مضادة للقصر؛ نعتقد أنها كانت من القوة والتركيز بحيث وصلت إلى قطاعات واسعة وفرضت السؤال: ما هي مبررات هذا الإنفاق الكبير والذي جرى مع دعوة الناس إلى التقشف وشد الأحزمة في ظل ندرة المواد الغذائية؟
ونذكر هنا أن الأرقام متاحة للعموم في موقع المرصد الوطني للصفقات العمومية، وهذه مؤسسة فرضتها كتلة النهضة في برلمان 2014-2019 الذي كان تحت سيطرة حزب النداء وقد تنبه (أو نبه بفعل فاعل) الجمهور إلى أرقام الإنفاق الغذائي على القصر، حيث فاقت كلفة اللحوم الحمراء وحدها في سنة واحدة مليارا وربعا من المليمات التونسية، وهو مبلغ كبير جدا لم يسع القصر إلى توضيح وجوه الحاجة إليه وأبواب إنفاقه، وخاصة لم يفسر للناس سبب القفزة في الكميات.
حملة السخرية المركزة أفضت إلى أسئلة عند جمهور واسع عمن يعيش على الإنفاق العمومي في القصر، وما الذي تغير في سياسته حتى يحتاج كل المواد الغذائية المذكورة في المرصد. والذي زاد في صدى الحملة هو تزامنها مع حالة شح في تزويد السوق بالمواد الحيوية، وارتفاع أسعار المواد بشكل غير قابل للتراجع.
ماذا يأكل الرئيس وماذا يترك لشعبه؟ هذا السؤال صار على ألسنة كثير من الناس، حتى أن جمهور الرئيس المعتاد على تبرير كل ما يفعله صَمَتَ صمْتَ القبور على تناقض الحالة الرئاسية مع الحالة الشعبية. من فعل هذا بالرئيس؟ لقد وضع نفسه في وضع الاستهداف وكانت مؤسسات الحرية أو ما تبقى منها بالمرصاد.
معركتان انتهتا لغير صالح الرئيس وجزتا العشب تحت قدميه، وهناك معركة ثالثة..
النقابات الأمنية تحت الأضواء الكاشفة
البلد العربي الوحيد الذي تنتظم فيه قوات الأمن الداخلي في نقابات هو تونس، وهذا على الورق مكسب اجتماعي، لكن على الأرض ومنذ التأسيس لهذه النقابات سعى بعضها إلى التأثير في المشهد السياسي، وخاصة نقابة قوات الأمن الداخلي التي تحركت كحزب سياسي مسلح تقريبا، وكانت لها جوقة إعلامية تروج لها.
شهدت نهاية الأسبوع إخراج النقابة من مقر لها كانت استولت عليه دون وجه حق، ورغم أحكام قضائية باتة ضدها فإنها رفضت الإخلاء حتى تم استعمال القوة العامة ضدها. وقد ضُبطت لدى النقابة مبالغ مالية كبيرة لم يفهم سبب تواجدها في المقر ولا مصدرها، وهو ما فتح الباب لتأويلات كثيرة عن دور النقابة وعلاقتها بتحريك الشارع في أماكن محددة وفي فترات محددة.
وليس لدينا الآن ما يكفي من المعلومات حول مصير البحث في الأموال، وما إذا كانت ستفتح طريقا لمحاسبة النقابة وفهم دورها وكشف من يحركها وأجندته. لكن الأكيد أن شكا كبيرا بدأ يحوم حول هذه النقابة وربما يتسع إلى بقية النقابات، خاصة أن الرئيس يود توحيدها سريعا في نقابة واحدة (طبعا دون أن يكشف هدفه من ذلك). وتعتبر هذه النقابة هي الأشد رفضا للتنسيق مع بقية النقابات والتوحد معها.
مسرح عرائس لكن من يمسك الخيوط؟
أحداث تبدو متباعدة وتجميعها في سياق لا يكون إلا تأويلا، لكن رغم ذلك لا بد من التأكيد على أن هناك ساحة سياسية حية لم تمت وإن عبرت عن حيويتها بأشكال غير نمطية؛ نتائجها المباشرة تهرئة رصيد الرئيس وإعدام كل أمل في حل يأتي من قبله (وهذا في أفق انتخابات ستحدد مصيره قبل مصير البلد)، وفضح الصف الاستئصالي الذي لم يغير أجندته ولم ينوع في وسائله الحربية.
لكن أي عاقل يعتقد أن هذا الوضع يمكن أن يستمر وينتج حلولا لبلد يسير على حافة الإفلاس (بلغ سعر الدولار 3.3 دنانير في نهاية شهر أيلول/ سبتمبر)، وهو ما يفرض علينا سؤالا حول المستقبل القريب. من يحكم البلد فعلا؟ ومن سيحكمه قريبا، وهل أن الأحداث التي وصفت أعلاه في علاقة بمن يحرك خيوط الفاعلين من وراء ستار؟
شعور عام نلتقطه عند كثير من الناس، هذا الوضع على وشك أن ينقضي وهناك بديل يتهيأ في مكان ما. ما ملامحه؟ ومن أعمدته؟ وما برنامجه للخروج من الأزمة؟ هذه الأسئلة الجادة التي يطرحها الجادون في المشهد دون أن يتيسر لأحدهم ملامح إجابة دقيقة تشفي الغليل.
هناك يقين ثابت بأن مرحلة سياسية تنقضي بشخصياتها وبأجنداتها، وأخرى في علم الغيب ستطلب ثمنا لتكون، كل ما نود أن لا يكون الثمن دما غزيرا.
اضغط على الكلمات المفتاحية التالية، للإطلاع على المقالات الأخرى المتعلقة: